قراءة في دلالات الغياب الفلسطيني عن مقالة شاكيد

تابعنا على:   17:49 2016-10-31

رازي نابلسي

يحتل موضوع "تبدّل النخب" داخل المنظومة الاستعماريّة، وفي إطار إعادة إنتاج ذاتها كمشروع استعماريّ، ومنذ سنوات عديدة، الحيّز الأكبر في مجال الدراسات الإسرائيليّة والتحوّلات التي تجري داخلها على الصعيد الأكاديميّ والبحثيّ السياسيّ. وأخرجت وزيرة القضاء الإسرائيليّة، أييلت شاكيد، التي تنتميّ إلى حزب "البيت اليهودي"، في مقالتها التي نُشرت في مجلّة "هشيلوح" تحت عنوان "سكّك القطار إلى الحكم"، موضوع تبدّل النخب السياسيّة من حيّز التحليل إلى حيّز اليقين. اليقين أن هناك من يخطّط وبإستراتيجيّة واضحة وأهداف أوضح لتغيير شكل ونظام الحكم في إسرائيل.

ستتطرّق هذه الورقة، أساسًا، إلى ما غاب عن مقالة شاكيد، وليس ما ورد فيها. وعلى الرغم من أهميّة ما ورد فيها، إلّا أن النظر إليه من وجهة نظر ما غاب عنها، فرصة ومؤشّر إلى ما يهمّنا في مجال الدراسات الإسرائيليّة عمومًا، وهو معرفة إسرائيل من فلسطين، ولأجل فلسطين. لقد غابت فلسطين والصراع الفلسطيني- الإسرائيليّ والفلسطينيون عمومًا عن المقالة التي خطّتها الوزيرة في 36 صفحة. والغياب، في سياق استعمار استيطاني كإسرائيل، أخطر من الوجود. غياب الفلسطينيين عن المقالة له دلالتان مركزيّتان من وجهة نظر إسرائيليّة، تتنقّلان بين الواقع والواقع المنشود: إمّا أن الفلسطينيين اندثروا، وإمّا أنهم أصبحوا أقرب إلى الاندثار نهائيًا. وسأحاول في هذه الورقة، التركيز وتحليل دلالات الغياب من خلال تاريخ التحوّلات في المشروع الصهيونيّ.

تعتبر مقالة شاكيد بمثابة خطّة عمل كاملة ومتكاملة للتغييرات التي تطمح لإحداثها في المنظومة على ثلاثة أصعدة: الاقتصاد، وفصل السلطات، والعلاقة ما بين يهوديّة الدولة وديمقراطيّتها. تفتتح شاكيد مقالتها بالقول إنه "منذ توليّ المنصب وأنا أقوم بوضع سكك جديدة لقاطرة القضاء بجانب السكّة القديمة، سكّك قطار جديدة تستند إلى القيم التي تعبّر عن الأيديولوجيا التي انتُخبت لأجها لشغل منصب وزيرة القضاء". وتختتمه بالتوجّه إلى كافة الوزراء في الحكومة ليحذون حذوها ويغيّرون كل سكّة قديمة يرونها لا تخدم مصلحة المواطنين الإسرائيليين". تفتتح شاكيد مقالتها وتختتمها بالدعوة إلى التغيير الجوهريّ وليس الشكليّ. التغيير في السكّة التي تسير عليها قاطرات الحكم في إسرائيل وليس تسريع القاطرة أو قيادتها فقط، إنّما تطرح تغيير القضبان التي تسير عليها القاطرة بالمجمل.

 

ولادة جمهوريات واندثار أخرى: بين الموضوعيّ والذاتي

لم يكن الاختلاف بين المدارس الصهيونيّة الثلاث الرئيسيّة (العمّاليّة والتنقيحيّة والمتديّنة) يومًا خلافًا على الهدف الأكبر للمشروع الصهيونيّ وجوهره الكولنياليّ المتمثّل في الاستيطان، والقوميّة، والتهجير. ودائمًا ما كان صراعًا تكتيكيًا إستراتيجيًا بحسب المرحلة التي يمرّ فيها المشروع الاستعماريّ عمومًا. وللدلالة، فعند النظر إلى صراع الآباء المؤسسين للمدرستين التنقيحيّة والعمّالية (جابوتنسكي- بن غوريون) نجد أنه كان صراعًا على شخص اليهوديّ المستوطن، وعلى التحالفات، وشكل الاقتصاد، والعلاقات، والتحالفات الدوليّة، ولم يكن أبدًا صراعًا على إقامة المستعمرة، أو على شرعيّة الاستيطان، أو طرد الفلسطينيّ. رأى بن غوريون أن من مصلحة المشروع الاستيطانيّ أن يُبنى اليهوديّ اشتراكيًّا مُهتمًا باليهوديّ الآخر، سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا[1]. وفي المقابل، رأى جابوتنسكي أن على كل إنسان أن يكون "ملكًا" بذاته[2].

إن وتيرة تطوّر أو تراجع أي مشروع استعماريّ تتعلّق أساسًا بالعاملين الذاتيّ والموضوعي. الذاتيّ المتعلّق بالمتغيّرات الاجتماعيّة الثقافية الاقتصاديّة داخل المنظومة الاستعماريّة، التي تقود بطبيعة الحال إلى تغيّرات سياسيّة في حال كان النظام السياسيّ الداخليّ إثنيًّا- ديمقراطيًّا كإسرائيل. والموضوعيّ المتعلّق أساسًا بوتيرة مقاومة المشروع الاستعماريّ على يد السكّان الأصليين والوضع الإقليميّ- الدوليّ.

جاء انقلاب العام 1977، أي العام الذي صعد فيه "الليكود" إلى سدّة الحكم للمرة الأولى، ليشكّل انتصارًا لجابوتنسكي على بن غوريون كمدرستين فكريتين تصارعتا قبل قيام الدولة. إن النظر إلى انقلاب العام 1977، ليس مجرّد تمرينًا ذهنيًا، بل يحمل في طيّاته شرحًا للتغيّرات داخل المنظومة الاستعماريّة، أسبابها وإسقاطاتها. إذ إن ولادة إسرائيل الثانية حملت في طيّاتها كلا العاملين الذاتيّ الداخليّ والموضوعيّ العربيّ الفلسطينيّ. وإذا ما نظرنا إلى الأسباب التي أدّت عمليًا إلى صعود الليكود إلى سدّة الحكم العام 1977، سنرى مزيجًا من العوامل الاجتماعيّة الداخليّة التي تمثّلت في استهداف وتحريض اليهود من أصول شرقيّة على حكومة حزب العمل، الذين عانوا تهميشًا مستمرًّا من حكومات "حزب العمل" الأشكنازيّة الغربيّة[3]، إلى جانب الفساد داخل الحكومة، والعوامل السياسيّة التي تمثّلت في استغلال قادة اليمين ومؤسّسي الليكود الهزيمة التي منيت بها إسرائيل العام 1973 للتحريض على الحكومة، مدّعين أنها غير قادرة على توفير الأمن.

 

شاكيد كجزء من تيّار أيديولوجيّ غير محصور بالشخص أو الحزب

لا يمكن النظر إلى شاكيد إلّا من خلال كونها تنتمي إلى تيّار سياسيّ أيديولوجي آخذ في التوسّع، غير محصور في شخصها أو في حزب "البيت اليهوديّ" الذي تنتمي إليه. ويعدّ "البيت اليهوديّ" الممثّل الرئيسي للمستوطنين والصهيونيّة المتديّنة تيارًا أيديولوجيًّا آخذًا في التوسّع والتغلغل في الحزب الحاكم "الليكود"، وكافة المؤسسات خاصة الأمنيّة- العسكريّة. وما تطرحه شاكيد عمليًا من تغيير في مجال التشريع والقضاء والاقتصاد يُقابله تغيير غير عفوي في المؤسسة العسكريّة. فيقول زعيم الكليات الدينية الحاخام إيلي سادان أنه "يحظر الانفصال عن الدولة، وإنما ينبغي الدخول إلى جميع الأجهزة، الجيش والشاباك والأجهزة القضائية، من أجل بلورة الدولة المثالية". وفي المقابل، يرفض سادان تعيين قائد هيئة أركان متديّن من أجل إخفاء نيّتهم الحقيقية. ولكن، في الحقيقة فإن 20% من الضبّاط بمستوى قائد سريّة هم من معتمري القلنسوة (أبناء الصهيونيّة المتديّنة) داخل الجيش، ما ينم عن تغلغل بطيء داخل كافة مؤسسات الدولة[4].

أمّا العلاقة ما بين "البيت اليهودي" والحزب الحاكم "الليكود" فهي علاقة تحالف- تنافر في ذات الوقت: تحالف وتقارب أيديولوجي بكل ما يخص الاستيطان، وتغلغل أبناء الصهيونيّة المتديّنة أيديولوجيًا في الحزب الحاكم. وفي ذات الوقت تنافر وصراع على مخزون أصوات المستوطنين الذين باتوا يشكّلون 10%[5] من مجمل المواطنين الإسرائيليين. ويشكّل التراشق ما بين زعيم "البيت اليهودي" نفتالي بينيت وزعيم الحزب الحاكم نتنياهو، الذي حصل قبيل الانتخابات الأخيرة بسبب دعوة نتنياهو إلى "التصويت إلى "الليكود" وعدم التصويت للبيت اليهوديّ كونه حليفًا طبيعيًا وسيكون في الحكومة بكل الأحوال خير دليل على التنافر. إذ رد بينيت بالدعوة إلى التصويت لـ"البيت اليهودي" قائلًا إنه "علينا أن نكون كبارًا وأقوياء، كي نمنع خطابًا مماثلًا لخطاب بار إيلان، أو أي عمليّة تنازل عن الأراضي"[6].

في المقابل، تعكس مشاريع القوانين والمواقف من الاستيطان والتعيينات التي يجريها نتنياهو لأبناء الصهيونيّة المتديّنة في مراكز القوّة، مثل الشرطة والموساد، التحالف الوثيق والدعم المتبادل الذي يشكّله نتنياهو لهذا التيّار المتناميّ. لذلك، فإن العلاقة ما بين الحزب الحاكم، والصهيونيّة المتديّنة بوصفها تيّارًا أيديولوجيًا وليس حزبًا سياسيًّا تتميّز بالاحتواء وإعادة تدوير وإنتاج الحزب، بما يتلاءم مع التغيّرات البنيويّة الاجتماعيّة الثقافيّة الإسرائيلية الداخليّة ليبقى في الحكم. وفي المقابل، يُحارب "البيت اليهوديّ" كمنافس مستقبليّ يطمح إلى اتساع سيطرته بالموازاة مع اتساع نسبة كل من التديّن، والاستيطان الذي بات موقع إجماع بين الساسة في المنظومة الاستعماريّة.

 

تبدّل النخب السياسيّة: خلافات تكتيكيّة

تعدّ كل جمهوريّة من الجمهوريّات الثلاث، بحذ ذاتها، تجسيدًا لعمليّة إعادة إنتاج الخطاب والمنظومة الاستعماريّة. فالاختلاف التكتيكي الإستراتيجيّ ما بين التيّارات الأيديولجيّة الصهيونيّة، يتحوّل إلى اتفاق مع تغيّر الوضع الإستراتيجيّ. والوضع الإستراتيجيّ الذي تموضعت فيه إسرائيل في العام 1947، يختلف عن العام 1977، وهذا الاختلاف عمليًا سمح التنقيحيّة متمثّلة في "الليكود" بالصعود إلى سدّة الحكم.

إن تشخيص الحالة الإستراتيجيّة للعام 2016 يضعنا أيضًا أمام وضع إستراتيجيّ مختلف أيضًا، يسمح بصعود وتناميّ التيّارات الأصوليّة اليهوديّة داخل المنظومة الاستعماريّة. باقتضاب: المدارس الصهيونيّة تختلف إستراتيجيًا على تحقيق الهدف، وتغيّر الحالة الإستراتيجيّة ذاتيًا وموضوعيًا يسمح للمدارس بالظهور أو الاندثار. أما عمليًا، فإن الوضع الإستراتيجيّ الذي يعيشه المشروع الاستعماريّ مرتبط بصورة مباشرة بالحالة التي يعيشها القابعون تحت الاستعمار، أي أن غياب الفلسطينيين أو حضورهم مركّب أساسيّ في تحليل الوضع الإستراتيجيّ. وبكلمات أخرى: هناك علاقة مباشرة ما بين الحالة الفلسطينيّة وتبدّل النخب الإسرائيليّة.

تنقل شاكيد، كما أسلفت سابقًا، قضيّة تبدّل النخب السياسيّة من موقع التحليل إلى موقع اليقين. فتفتتح مقالتها باعترافها بنيّة التغيير، وتختتمها بالدعوة إلى التغيير. أي أن المقالة تنطلق من الحاضر إلى المستقبل، وتمنح الفلسطيني في الحالة الطبيعيّة نظرة على المخطّطات الاستعماريّة بهدف محاربتها والتصدّي لها. ولكنها عمليًا لا تطرح أي خطّة للتعامل مع الفلسطينيين، ولا يأتي ذكر الفلسطينيين في المقالة إلّا عندما تتحدّث شاكيد عن قيام المحكمة العليا الإسرائيليّة بدفع تعويضات للفلسطينيين بعد الانتفاضة الثانية. أي أنّ ذكر الفلسطينيين لم يأت إلّا على هامش الحديث عن العلاقة ما بين القضاء والاقتصاد، وبشكل هامشيّ لا يؤثّر نهائيًا على جوهر المقال وما طُرح فيه من قضايا. وما غير ذلك، بقي الفلسطينيون خارج المقال دون أي ذكر، أي أن الفلسطينيّ عمليًا في الجمهوريّة الثالثة غير موجود على الصعيدين الرمزيّ والماديّ.

 

الجمهوريّة الثالثة: التديّن الإسرائيليّ والتشظيّ الفلسطينيّ

تطرح شاكيد في مقالتها قضايا مركزيّة عدّة تؤثّر على نظام الحكم والتشريع والقضاء والاقتصاد، إذ تطرح تقليل تأثير المحكمة العليا على السلطة التشريعيّة، وتعتبر المحكمة أداة بيد المعارضة. وبالموازاة، تطرح اقتصاد السوق المفتوح مسترشدة بالمفكّر الاقتصاديّ الأميركي ميلتون فريدمان. بالإضافة إلى جعل القيمة المركزيّة الأكبر ليهوديّة الدولة في ميزان (يهوديّة- ديمقراطية). ولكن، كل ما تطرحه شاكيد يفتقد إلى تأثير الصراع الفلسطيني- الإسرائيليّ على كل منحى من المناحيّ المطروحة. وهذا ليس سهوًا ولا قلّة ملاحظة من الكاتبة، إنّما هو في صلب برنامجها وتحليلها للوضع الإستراتيجيّ الذي تنطلق منه إلى وضع خطّة إستراتيجيّة طويلة الأمد. وهو ذات تحليلها للوضع الإستراتيجيّ الذي يمنح زعيم حزبها الجرأة للقول في وجه نتنياهو: "توقّفنا عن كوننا أطفال كفوف"[7]. في إشارة إلى علاقة "الليكود" بالصهيونيّة المتديّنة. وهي مطالبة بالتعامل مع الصهيونيّة المتديّنة كذات مستقلة لها حجمها في السياسة الإسرائيليّة ولها حزب يمثّلها.

في السياق الاستعماريّ الاستيطانيّ الذي نعيشه في فلسطين، فإن الغياب يوازي الهزيمة. والوجود لا يعد وجودًا إلّا في تحدّيه للمشروع وإعاقة توسّعه أو تفكيكه. أي أن الوجود يتطلّب وجودًا جماعيًا وحالة متماسكة بحجم تماسك المشروع الاستعماريّ وأكثر. يتطلّب حركة سياسيّة متماسكة ومشروعًا مناقضًا للاستعماريّ (تحرّري). وإذا ما نظرنا إلى الحالة الفلسطينيّة الحالية لتفسير التحوّلات في المشروع الاستعماريّ فإنّها تتميّز بانقسام سياسيّ- جغرافيّ، وبعدم وجود رؤية متماسكة وتعريف لمشروع وطنيّ تحرّري موحّد لمجابهة مشروع استعماريّ متجانس وموحّد، إضافة إلى المنظومة السياسيّة الخاضعة والمرتبطة بنيويًا مع الاستعمار، ما يؤثّر على قدرتها على الفعل السياسيّ- الكفاحيّ.

في المقابل، فإن الشعب الفلسطينيّ لا يزال يملك الأداة الأقوى في مواجهة الاستعمار الاستيطانيّ، وهي البقاء، إذ لا يزال وعلى الرغم من المخطّطات الاستعماريّة المستمرة صامدًا في أرضه، يحمل روايته التاريخيّة، ما يجعل عودته إلى الوجود السياسيّ، أي الفاعليّة السياسيّة المنظّمة، أسهل. وهذه نقطة قوّة وجب البدء منها.

إذا أردنا تلخيص الوضع الإستراتيجيّ الذي يشكّل مزيجه صعود الجمهوريّة الثالثة فإنّه: انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المسيانيّ الأصوليّ الاستيطانيّ[8]. بينما الحالة الفلسطينيّة الآنيّة تعاني من التشظي والانقسام وغياب المشروع، فيما يعيش الوضع العربيّ صراعًا داخليًا وصيرورة من التدمير الذاتي والصراع الطائفيّ.

 

مفهوم الغياب الفلسطينيّ في السياق الاستعماريّ

وجود الفلسطينيّ، عند الحديث عنه في سياق المشروع الاستعماريّ، هو وجود بالمعنى السياسيّ. أي أن الوجود غير مربوط بالوجود الماديّ للفرد الفلسطينيّ بقدر الوجود الرافض للمشروع الاستعماريّ والمتناقض معه. يصبح الفلسطينيّ موجودًا في الساحة السياسيّة الإسرائيليّة، أو في النقاش الإسرائلي العام، فقط في حالتين: أولًا، حين يعرقل توسّع المشروع. وثانيًا، حين توظّفه المدارس المتناحرة تحت سقف الصهيونيّة لخلافاتها الداخليّة فاقدة المعنى بالنسبة له. وهذا ما نلحظه في نقاشات نتنياهو- هرتسوغ مثلًا حين يقول هرتسوغ إن "نتنياهو لا يريد الانفصال عن الفلسطينيين، أنا أريد"[9]. وهنا، يستحضر هرتسوغ الفلسطينيين لمهاجمة نتنياهو ليس أكثر، والدليل على ذلك عدم اعتراف كلا الطرفين بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة لهم، لذلك فإن الفلسطينيين ليسوا في هذا السياق أكثر من أداة يستغلها كل طرف لمهاجمة الآخر.

يتحدّث باتريك وولف مثلًا عن المحو والإنشاء في الكولنياليّة الاستيطانيّة، فيقول إن "المحو/الإلغاء قاعدة منظّمة للمجتمع الكولنياليّ الاستيطانيّ أكثر من كونه حدثًا يقع لمرة واحدة ويسعى للإحلال"[10]. وتقول هنيدة غانم "تكون الإزالة بالضرورة فعلًا شموليًا لا يراد منه فقط إبعاد الأصليين للحلول مكانهم فحسب، بل أيضًا إبعاد اسمهم وذكرهم من الفضاء الزمكانيّ، واستعمار تاريخ المكان وفضائه وأسمائه وصولًا إلى محو الإيحاءات الرمزية في ثنايا التسميات واستملاكها"[11]. وتتطرّق غانم عمليًا إلى المحو في سياق محو القرى والمدن الفلسطينيّة بعد النكبة وتشريد الفلسطينيين في العام 1948، بينما يتطرق وولف محو السكّان الأصليين في المشاريع الاستعماريّة لإحلال مجتمع استيطانيّ مكانهم. ولكننا وللحقيقة، في معرض التطرّق إلى محو الفلسطينيين من مقالة شاكيد، أمام محو آخر يسبق المحو الذي يتحدّث عنه كل من غانم وولف ولا يتناقض معهما، بل يتكامل في مشروع استعماريّ، وهو محو "الذات السياسيّة" للسكّان الأصليين من حسابات المُستعمر.

المحو السياسيّ، ومحو الفلسطينيّ من حسابات المُستعمِر، إن يذكّرنا بشيء، فهو بما سبق النكبة، حيث اعتبر المستعمرون الفلسطينيين أنّهم ليسوا أكثر من "عوائق الطبيعة"[12]، وليس في أي مرحلة أخرى لاحقة، إنّها نظرة المستعمِر للمستعمَر على أنّه غير موجود، وهي أولى خطوات عمليّة المحو المستمرّة.

 

الوجود: أهميّة وإمكانيّة تحقيقه

لا تزال هناك إمكانية لتحقيق الوجود الفلسطينيّ سياسيًا، فالشعب الفلسطينيّ وعلى الرغم من محاولات شاكيد وغيرها من قادة المشروع الاستعمراريّ إلا أنه لا يزال موجودًا في أرضه. ويكمن الحل في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطينيّ كمشروع متناقض مع المشروع الاستعماريّ، وليس متعايشًا معه. والحديث عن إعادة تحقيق الوجود يخلص إلى إعادة بناء المشروع الجمعيّ واستعادة الإطار الأول عبر العودة إلى التناقض الأول: التحرّر- الكولنياليّة[13]. ولكن، لا تعني الاستعادة بالضرورة العودة إلى ذات النقطة. ويمكن تفسير الاستعادة على أنّها إعادة تبنّي مفهوم الصراع بما يتلاءم مع واقع الصراع، وما أقرّه زعيم حزب "البيت اليهودي" من الممكن أن يفي بالغرض، حيث قال في معرض دفاعه عن المستوطنين "كلّنا مستوطنون"[14]، على الرغم من أنّه يسكن في مدينة نتانيا، الواقعة في مركز البلاد، وليس في مستوطنة وراء الخط الأخضر. الأولويّة هي البناء على أساس محاربة وباء التشظّي في المشروع الوطنيّ، أي إعادة بناء الجسد السياسيّ الفلسطينيّ الذي يكون قادرًا أولًا على تمثيل كافة الفلسطينيين في أماكن تواجدهم، وعلى تحويل خصوصيّة التجمّعات السياسيّة من نقطة ضعف إلى نقطة قوّة.

إن الجمهوريّة الثالثة، لم تعد تعير للخط الأخضر وما قبله وما بعده أي اعتبار. والرد عليها يأتي من خلال إعادة بناء الذات السياسيّة (الكيان التمثيليّ) المتبنّى للصراع التحرّري الذي كان سائدًا قبل العام 1988، أي قبل اعتراف منظّمة التحرير بإسرائيل، ولكن في ظل الظروف السياسيّة الراهنة في العام 2016 فإن استعادة الوجود السياسيّ بحد ذاته خطوة على طريق مناهضة المشروع الاستعماريّ الذي يمحو سياسيًا واجتماعيًا على طريق المحو الزمكانيّ الذي يحصل عادّة بعد عمليّة التهجير المنوطة بالمحو السياسيّ قبلها، والبقاء دون فعاليّة سياسيّة عمليًا. ممكن أن يكون بقاءً على هامش المشروع الاستعماريّ، ولا يمكن أن يستمر، ليس بسبب الحيّز المكانيّ فقط، بل بسبب جوهر المشروع التوسّعي.

في الخلاصة: المشروع الاستعماري يتطوّر على أنقاض الشعب الفلسطينيّ، سياسيًا وثقافيًا وماديًا، ولا يزال يستكمل مراحله الاستعماريّة، ودلالات الغياب أخطر من دلالات الوجود في سياق الحديث عن مقالة تضع فيها وزيرة القضاء تصوّرها ورؤيتها لشكل النظام السياسيّ الاستعماريّ. في المقابل، فإن ولادة الجمهوريات الإسرائيليّة المختلفة، بين الأولى والثانيّة والثالثة، غير مفصول عن الحالة الفلسطينيّة، بل مرتبط بصورة مباشرة وموازية، ويشبه إلى حد كبير شرط الاستعمار الكولنياليّ: وجودهم مبنيّ على محو الآخر الفلسطينيّ.

   

الهوامش

[1] للاستزادة حول نظرة بن غوريون لليهوديّ ومدرسته وتكتيكه، انظر إلى مقالته تحت عنوان "نحو المستقبل" المترجمة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار".

[2] للاطّلاع على فلسفة جابوتنسكي ومدرسته وطرحه، انظر إلى مقالة محمد أبو سمرة تحت عنوان "زئيف جابوتنسكي والقضيّة الفلسطينية". https://goo.gl/cvhRuX

[3] الانتخابات التاسعة للكنيست، المعهد الإسرائيليّ لأبحاث الديمقراطيّة https://goo.gl/KzNki8

[4] انظر المقابلة مع المختص في شؤون المجتمع والجيش في إسرائيل، يغيل لفي، مجلّة قضايا إسرائيليّة، العدد 61.

[5] هنيدة غانم، "نحو ترسيخ إسرائيل يمينية يهودية استيطانية"، تقرير مدار الإستراتيجي 2016.

[6] بينيت ردًا على نتنياهو، موقع القناة السابعة http://www.inn.co.il/News/News.aspx/294652

[7] موقع "واللا" الإسرائيليّ http://news.walla.co.il/item/2984251

[8] أنطوان شلحت، المشهد الحزبي والسياسيّ الإسرائيليّ، تقرير "مدار" الإستراتيجي 2015.

[9] راديو الجيش، "هرتسوغ: نتنياهو لا يريد الانفصال عن الفلسطينيين https://goo.gl/kLjAxv

[10] باتريك وولف، "الكولنياليّة الاستيطانية واستئصال/محو السكّان الأصليين".

[11] هنيدة غانم، "المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيونيّ"، مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 118، 2013.

[12] انظر الفصل الثالث من كتاب إيلان بابيه "التطهير العرفي في فلسطين"، حول نظرة المستعمِرين للسكّان الأصليين.

[13] للاستزادة حول "الإطار الكولنياليّ للصراع"، انظر ورقة نديم روحانا "نحو استعادة الإطار الكولونيالي الاستيطاني" المقدمة في مؤتمر "إستراتيجيات المقاومة" الذي نظمه عن المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، 2015.

 

اخر الأخبار