في غزة

تابعنا على:   23:56 2015-01-29

عبدالله تايه

في غزة يموت الناس من البرد ،وندرة التدفئة ،ونار الشمع ،وقلة الغاز والكهرباء، وتوقف السفر، والعمل، يموتون من الغيظ ،والقهر، والضغط ،والتجمد ،في غزة تكثر سرادقات الموت، يأتيها المعزون بالمئات ،يحملون رايات الصبر، وأحلام الفرج الذي طال انتظاره ،في غزة قلق دائم ،وحيرة ،وتساؤل عما يحدث لهم ،أسئلة حيرى ،مقهورة، تبرز في عيونهم، يتساءلون من الذي يريد لغزة ما يحدث فيها؟ وهي التي بصبرها ومقاومتها هزمت كل الغزاة؟ كيف تنصب اللعنة على غزة هذا الانصباب الذي يجعل الحياة مستحيلة؟ والأحلام لا تتحقق؟ والحياة قصيرة ؟والأمراض مستعصية؟ والعلاج بائس؟ والقناعة بأن الموت أسهل من الحياة ؟من هذا الذي يقف سدا منيعا في وجه أحلام أهل غزة؟ فلا هم يعيشون، ولا هم يموتون ،من جعل غزة تستقبل الموت في فرح وراحة من ظلم ينسكب في طرقاتها وأزقتها ومخيماتها وخيامها وحاراتها؟ من هذا الذي لا يعرف الله ولا مسحة من ضمير فيتمنى أن تموت غزة بمآذنها وحريتها ومعابرها وناسها وكنائسها وأبوابها ودورها وأسواقها؟ وأن يتوقف ليلها ونهارها ليصبح التشاؤم ،والسقوط ،والفاجعة، ونشاط رفوش حفاري القبور أسرع وتيرة من مداميك الحجارة والحياة والبناء؟ من هذا الذي اتخذ قلبا من حجارة صماء أو أشد قسوة لا تسمع ولا ترى ولا تخاف من الله؟ فحتى الحجارة تهبط من خشية الله ، فيحب أن ينتشر اليأس، والقنوط ،والعنوسة، والمرض، والبطالة، والألم، ومن صنع هذا السجن المحاط بالكآبة والأسلاك؟ فتشتعل شهوة الرغبة في الفرار من هذا المكان الذي كان وردة القلب ،ولهيب الوطنية ،وأول الحجارة، وأول الدولة ،وأول القوافل، ويمتلك سحر التاريخ ،وفوران الأمل ،وصلابة الصخر ضد المهاجمين من كل الأجناس وعلى مر حكايات التاريخ، ويمتلك موج البحر حتى منتهى الفضاء بزرقته، وسمكه، وسخطه، وريحه، وعواصفه، ومطره ،وخيره، من هذا الذي أسر الناس والموج والبحر ولقمة الأطفال وشهادات التلاميذ وبسطات الشهادات التي تبيع على كارات متحركة ؟لا يزال الله في غزة لأنه يحبها وسيظل يحبها، وسيظل الناس يودعون أحبابهم، وعذاباتهم ،ومرضاهم، وأمواتهم ،ومسافريهم، وأحلامهم، وعنوسة بناتهم ،وفقر أبنائهم ،وقلة خوفهم من الموت، إلى مقبرة الحياة في فرح .صار الموت هو عنوان الخلاص والفرح .من أراد هذا لغزة ؟ لا أحد يعلم كيف تسير بوارج الكراهية ،ولا طائرات القصف، والمنافي، ولا لعنة الأيام ،ولا صمت الكلام، ولا الشعارات الجوفاء التي لا تطعم فما جائعا، ولا تحقق حلما بسيطا، من أراد لغزة هذا الحال؟ وهي بلاد الناس الذين ماتوا من أجل رملها، وسهلها، وبحرها، وموجها ،وأحلامها، وتاريخها، وأزقتها، ونداء فوارسها، ومشاعل عزمها، وهي التي يسكن دورها مئآت آلاف السجناء منذ أول الاحتلال إلى نهاية الكآبة. يا ألله هذه غزتك أنت لا غزة القلة من اليمين ولا اليسار، ولا غزة الوطنيين ولا غزة المتدينين ،هذه غزة الكثرة من الصامتين، والفقراء ،والمساكين، والغلابا ،والمظلومين، والبائسين، والجوعى، والمحتاجين ،والمرضى، والعاطلين ،فأنت ربهم. وأنت يا ألله رب غزة وصاحبها .وأنت المأمول أن تريحهم ممن ظلموها .منهم كلهم يا ألله ،بكل أطيافهم وأجناسهم لا تستثني أحدا يا ألله،وأن تمسح دموع أهلها بيد قدرتك ورضاك، وأن تقيض لهم من أمرك وحلمك وقضائك ما يجعلها روضة للحياة ،ومنارات تشع في طرقاتها أملا وحياة، وأما من فعلوا بها ما فعلوا ولا يزالون لا أستثني منهم أحدا من كل الأجناس والأطياف فهم عبيدك، وأنت تعرفهم وجها وجها ،وأنت القادر عليهم يا ألله، نعوذ بك من سخطك أنت لا من سخطهم، ونعوذ بك أن تنطفىء في غزة قناديل الحياة ،فأنت الحي أما هم فمهما حاصروها فسيمرون بكل أشكالهم، وأطيافهم، ومسمياتهم، ولتصحبهم اللعنة ويطاردهم الخزي ، هذه غزتك يا ألله، بقدرتك أنت وحدك تموت فيها الحياة، أو تبعث فيها يا ألله من جديد قناديل القبول والرضا ،ومفاتيح الأمل ،والفرح ،والحياة ..

قاص و روائي فلسطيني

اخر الأخبار