القارة العجوز ليست عصية على التأديب..

تابعنا على:   19:46 2015-07-06

السيد شبل

كالغريق الذي لا يخشى البلل، تلطم اليونان الشابة العفية المتمردة اليسارية، القارةَ العجوز بسياساتها الليبرالية، على وجهها. هكذا مباغتة وبدون هوادة، تؤدب أثينا أوروبا، وتدحرج القنبلة إلى قلبها، وتجلس على أريكتها الوثيرة تشاهد بضمير مطمأن ما ستحدثه تلك القنبلة من آثار حتمًا ستمتد إلى خارج حدود القارة، بكثير.. فالشعب اليوناني وحكومته، اليوم، ملهمين إلى حد معتبر. وحتى لو انتكسوا في مسارهم (وهو ما ليس متوقعًا)، سيبقى فعلهم دلالة على أن العالم لا يزال ولادًا، وأن الصغار صغار بأفعالهم، وأن من يروم الكرامة، ينالها، لا أزيد ولا أقل.

درس نفسي من الدرجة الأولى تقدمه اليونان اليوم لسائر شعوب وحكومات العالم، برفضها شروط التقشف القاسية التي حاول الدائنون الدوليون فرضها عليها، والتي منها: تخفيض مستوى المعاشات، وزيادة ضريبة القيمة المضافة على المواد الغذائية، بعيدًا عن ميدان التحليل الاقتصادي، الذي يريد الخائضون فيه أخذ القضية برمتها إلى منطقة أخرى هي حسابات الورقة والقلم؛ والأمر لا شك غير ذلك، وإن كانت حساباتهم، لا ترفض الخيار الذي انحاز إليه اليونانيون بالمناسبة.

تقول صحف ومواقع إخبارية عالمية في محاولة للإجابة على سؤال: ماذا يعني خروج اليونان من دائرة اليورو؟، أن هناك سيناريوهات عديدة منتظرة في حال الخروج من منطقة اليورو والتحول من العملة الأوروبية إلى "الدراخما"، منها ما هو إيجابي حيث أن تخفيض سعر صرف "الدراخما" سيسمح لليونان بزيادة الصادرات وإنعاش قطاعات حيوية في الاقتصاد كالسياحة، كون العملة ذات سعر صرف متدني ستغري السياح في العالم باختيار اليونان كوجهة سياحية، كما أن تراجع قيمة سعر صرف "الدراخما" سيساعد في زيادة القدرة التنافسية للبضائع اليونانية على البضائع الأوروبية، حيث تشتهر اليونان بزيت الزيتون الأمر الذي قد يخلق منافسة حادة لزيت الزيتون الإيطالي والإسباني، كذلك فإن خروج اليونان من منطقة اليورو سيؤدي إلى ازدهار سوق العقارات في البلاد بسبب تراجع القيمة السوقية للعملة المحلية؛ وبالتالي، فإن العودة إلى "الدراخما" من الممكن أن تنعش الاقتصاد اليوناني؛ ومنها ما هو سلبي مثل إن عودة "الدراخما" قد يتسبب في ارتفاع التكلفة المنتظرة للواردات، وفي مقدمتها النفط والغاز والصناعات الثقيلة والسيارات، كذلك امتناع المستثمرين عن إقراض اليونان وارتفاع كلفة الاقتراض، بالإضافة إلى خفض وكالات الائتمان العالمية تصنيف السندات السيادية اليونانية إلى درجات متدنية، كما يتوقع ارتفاع معدلات الهجرة للعثور على فرص عمل أفضل، وهي مسألة ذات شقين، لأنها من جهة تضر البلاد على المدى الطويل من خلال خسارة المهارات القيمة، ومن جهة أخرى تساعد في تخفيف الضغوط الاجتماعية التي تتسبب بها البطالة على المدى القصير.

إذن فحسابات الربح والخسارة، حاضرة في خلفية المشهد، والأمر ليس كله سوادًا، كما يصوره الخبراء الاقتصايون الذين استهلكتهم الرأسمالية حتى الثمالة، لدرجة أنهم ما عادوا يرون للمسائل وجوها، خارج حيز الماديات، وهو أمر يثبت الواقع خطأه وتدحضه التجربة، قبل أي شيء. فلا شك أن الأيام القادمة ستؤكد أن معنويات الشعب اليوناني المرتفعة، ستكون عاملًا حاسمًا في المعركة؛ وأن خشية العالم الغربي الرأسمالي من أن تتحول اليونان إلى نموذج، سيجبرهم على المداهنة والخضوع بنسبة ما؛ وكذلك فإن الدعم الشعبي الذي تلقته الحكومة سيعزز موقفها في التفاوض على خطة إصلاحات ذات مصداقية و"منصفة اجتماعيا"، بحسب تعبير رئيس الوزراء اليوناني؛ ولا شك أيضًا أن اليونانيين قد أجادوا حين عرفوا أن الجرح الأوروبي، المتمثل في إمكانية تفكك الاتحاد الأوروبي العاجز اقتصاديًا عن تحمل الهزات المالية، تحت أيديهم ملتهبًا، ويمكنهم الضغط عليه وقتما يشاءون، وبالتالي حصاد حزمة من المكاسب، ولا يمكن تجاهل أن أسبانيا وإيطاليا والبرتغال تعاني ومرشحات لخلافة اليونان في الرحيل عن منطقة اليورو، في حال سارت الأمور إلى ذلك، مما يزيد من القلق الأورببين الكبار، ولعل الصدمة التي تلقتها أسواق النفط والأسهم بعد استفتاء اليونان بيوم واحد توضح قدرًا كبيرًا من المأزق الأوروبي.. وهذا يثبت أن للمسائل وجوهًا (معنوية، وسياسية خافية، بل ونفسية) يجهلها الاقتصاديون المرتجفون المحصورون داخل دائرة الأرقام!.

من جانبه، لم يدع الدب الروسي الفرصة لتفلت من يديه، وعلى عكس الموقف الغربي القلق والمرتبك، بدا "بوتين" هادئًا وداعمًا ومطالبًا بمزيد من الصمود، حيث بادر بإجراء مكالمة هاتفية مع الجانب اليوناني ليعرب فيها عن دعمه للشعب اليوناني في مواجهة المصاعب، وكان سكرتيره الصحفي قد صرح في وقت سابق بأن الكرملين يحترم نتائج الاستفتاء في اليونان، مشيرًا إلى أنهم تجمعهم باليونان علاقات تاريخية متقاربة جدا، لافتًا إلى أن "جدول الأعمال (قمة بريكس) جاهز، وهو لا يتضمن الموضوع اليوناني، غير أنه، وخلال التبادل الكثيف لوجهات النظر بشأن المسائل الدولية الملحة في مجالي السياسة والاقتصاد اللذان سيكونان خلال القمة وعلى هامشها، لا يمكن استثناء ذلك".. وهذه نقطة شديدة الأهمية، ويجب أن تنال حظها من الاعتبار، خاصة إذا أضفنا الدعم الإعلامي (الموضوعي والمهني) الذي توفره محطة روسيا اليوم الإخبارية لليونان في ثوبها الجديد.

ما يمكن أن نستخلصه هنا، بعيدًا عن كون التحليل هدف مطلوب في ذاته لإيضاح الأمور، هو أن الانحياز للمصالح الوطنية ومجابهة قوى الاستكبار في سبيل ذلك، ليس دائمًا مقامرة أو قفزة إلى المجهول، بحسب ما يصوره المرجفون.. وأن الأمور تحتمل وجوهًا متعددة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وأن المواقف عندما تخرج للنور تصنع لها أنصارها، وأن النموذج المتحدي الثائر من أجل كرامته، يستجلب التأييد بل ينتزعه. ورغم عدم الرغبة في التورط في المقارنة، حيث نجهل إلى أي درجة ستصمد اليونان، لكن الإشارة في هذا السياق إلى قرار تأميم قناة السويس الذي اتخذته مصر في 1956، وصمدت بعده في وجه خصومها، وتشكل العالم بناءًا على صمودها، واجبة.

إن ما يجري اليوم، في اليونان، بدون أن نتورط في مبالغات، هو بارقة أمل، على الشعوب والحكومات أن تلتقطها وتحتذي بها، كحالة ملهمة بدون الولوج إلى التفاصيل، بالشكل الذي يتماشى مع ما تواجهه محليًا ودوليًا.

اخر الأخبار