وديع فلسطين.. حارس بوابة الكبار الأخير ( الحلقة الأولى)

تابعنا على:   21:06 2016-09-20

القاهرة - ولاء أبوستيت

 هو رجل من ملح هذه الأرض الغالية، يعيش ما يعيشه كل مصرى، وقد عايش فترات مهمة من تاريخها، لقبوه سابقًا بـ«سفير الأدباء»، ولاحقًا عاش منسيًا داخلها، مقدرًا ومكرمًا خارجها.

الكتابة عنه هى كتابة عن ملح هذا الوطن الذى يهبه مذاقه الخاص، وكتابة أيضًا عن تاريخه الحديث بعينى رجل رصد الأحداث بقلم حر أولًا بأول.

وديع فلسطين ذاكرة حية متحركة تحكى سيرة عهود طويلة مضت من تاريخ مصر، وأحد الرجال الذين ظلمتهم ثورة يوليو 1952 فآثروا الابتعاد عن المشهد السياسى بكل أشكاله وصوره، مقدمًا ذكرياته مع أصدقائه من كبار المبدعين والكتاب المصريين من الرعيل الأول والثانى.

خلال السنوات الأخيرة سعيت لتقديم كتاب عن وديع فلسطين يقدم الرجل بصورة ربما تكون مختلفة، وهنا فى «البوابة» أقدم حلقات من كتاب لى تحت الطبع يحمل اسم «وديع فلسطين.. حارس بوابة الكبار الأخير». افتتحت هذا الكتاب بتقديم للرجل يقول فيه: «هذا كتاب عنى فيه كثير من الحقائق التى يجهلها الناس، أرجو أن يلقى من الاهتمام ما هو جدير بالتعب الذى تكبدته الكاتبة حتى سجلت كل هذه الروايات والأحاديث مع تمنياتى لها بالتوفيق والنجاح».

خلال فصول الكتاب سنتابع مواقف الرجل من الثورات التى عاصرها، ومن بينها ثورة يوليو 1952 التى لم يُخف حالة الاختلاف معها، أو ما اعتبره البعض عداء، لكن عن نفسى أعتبر أن قدرًا ما هو الذى جعله فى هذا الحين أحد رجالات صحيفة «المقطم» التى كانت لسان حال الاحتلال الإنجليزى.

اللقاء الأول

كانت معرفتى به قد قاربت على إكمال سنواتها العشر منذ أول لقاء، حين فاجأنى الشاعر «سمير درويش» خلال رئاسته لتحرير مجلة «الثقافة الجديدة «بمحادثة أخبرنى خلالها بأنه قد سمع عن معرفتى بالرجل، وأنه يطلب منى إجراء حوار خاص معه للمجلة ضمن ملف يعملون عليه بعنوان «الثقافة القبطية»، فبدا الأمر وكأنه وسام جميل منحه لى وديع فلسطين دون أن يشعر».

التقيته بأحد فنادق القاهرة، كنت أجرى حوارًا مع الناقد الأردنى دكتور «يوسف بكار»، لصحيفة البيان الإماراتية فى نهاية ٢٠٠٧، وبعد انتهاء الحوار قال لى إنه ينتظر صديقا اسمه «وديع فلسطين»، سألنى إن كنت أعرفه، وبدا متعجبًا من أن المصريين يغفلون رجلًا عظيمًا مثله، فآثرت أن أنتظره معه وهناك تعرفت عليه، حصلت على رقم هاتف منزله كونه لا يفقه التقنية الحديثة الملقبة بالتليفون المحمول، وبدأت فى التواصل معه والاطمئنان عليه من آن لآخر، متعجبة كيف يعيش رجل كبير مثله بمفرده، ولم يكن تعجبى هذا طيبة، بقدر ما هو تخيل نفسى لحال الرجل، فمنذ الوهلة الأولى لرؤيتى له، قلت: هذا رجل هزمته الحياة.

وتتوالى الاتصالات، مرة للتهنئة بمقالات قرأتها له فى مجلات العربى، أو الهلال، أو المصور، ومرة يتصل بى ليهنئنى بالأعياد والمناسبات المختلفة، أو ليطمئن إذا ما كانت رسائله تصلنى، وخلال الاتصالات بدا وكأنه يتصيد الأسئلة، فما إن أسأله حتى يبدأ فى الحكى، كان يسرد ذكرياته مع مبدعينا الرواد، حتى أحسب له أنه صحح وأضاف لى معلومات كان من بينها أن «سوزان طه حسين» أشهرت إسلامها، ودفنت فى مقابر المسلمين مع زوجها، لكنه قال أيضا بمرارة: أشهرت إسلامها حتى تحصل على معاش زوجها، فالقانون كان يمنعه لديانتها المسيحية.

«وديع فلسطين» مصرى من صعيد مصر، من مواليد ١٩٢٣، درس الصحافة فى الجامعة الأمريكية، وكان من رواد الصحافة المصريين إلا أن مكان عمله كان بمثابة كارثة عليه تحملها طوال حياته إهمالًا وتغييبًا، وظل يعيش بعيدًا عن أى ضوء، رافضا السياسة أو مجرد الخوض فيها ولو كلمة واحدة، إذ كان يعمل بجريدة «المقطم» آنذاك ووصل به الأمر أن يكتب افتتاحيتها فى أحيان كثيرة، بل وقال إنه فى السنوات الأخيرة من عمر الصحيفة كان هو المحرر الدائم لهذه الافتتاحية بالرغم من عدم ورود اسمه بها.

أدين لكتاباته التى كان يرسلها لى أسبوعيًا فى رسائل بريدية تصل لمقر الجريدة التى كنت أعمل بها، وتضم قصاصات مصورة من مقالات قديمة له منذ خمسينيات القرن الماضى، أو حديثة قد تكون للشهر الحالى أو السابق له، مقالات أسعدتنى كثيرا، وساهمت فى استكمال كثير من حكاياتى التى ما زالت تتأخر عن موعدها طويلًا.

هذا الرجل علمنى أن الحياة بها نجوم بعيدة جدًا عن الأضواء لدرجة تجعلنا لا نزاهم، وعلمنى بحق أن الدين لله والوطن للجميع، كان يهاتفنى فى كل أعيادى ومناسباتى، وكنت أهاتفه فى الأوقات التى أتذكر فيها موعد أعيادهم.

سألته: لماذا لا يجمع مقالاته فى كتاب وينشرها خصوصا أنها كتابات رصينة دسمة، وكل مقال أشبه بدراسة متكاملة عن عظماء لم نسمع عنهم إلا عبر دفتى كتاب، لكننى لم أجد منه استحسانًا لذلك الأمر، فعرضت عليه أن أقوم بالمسألة، خاصة أن لدى العشرات من المقالات التى كتبها، وأرسلها لى فى رسائله البريدية، والحقيقة أن الرجل لم يمانع وفى نفس الوقت استشعرت منه أنه لا يبدى حالة قبول جيدة، رغم أنه قال لى وقتها أنا أرسل لك مقالاتى وتصرفى كيف تشائين.

مر الوقت، وكانت تكبر بداخلى حالة من خوف مبهم من أن أقدم على شيء كهذا، إلى أن جاء يوم وقال لى إن ناشرًا كويتيًا نشر جزءًا من مقالاته فى كتاب طبعته فخمة، بل أذكر أنه قال إن «غلافه يشبه أغلفة المصاحف الفخمة»، وأخبرنى بأنه أرسل لى نسخة من الكتاب مذيلة بإهداء، كتبت عن الكتاب خبرًا محدودًا، نشر فى وكالة إخبارية ثقافية كنت أعمل بها وقتها، ثم عاودت التفكير عما يمكن أن أقدمه حول هذا الرجل.

زادت المقالات، وتكدست لدى الأوراق والمذكرات والملاحظات التى أكتبها فى كل اتصال معه عن أمور كثيرة، فقررت أن أعيد فكرة الكتابة عنه مجددًا، وإن كانت حالة الخوف لم تفارقنى قط، بل تزداد يومًا بعد آخر، فأنا أكتب عن رجل وجه سهام نقده لكل من يوسف السباعى، ويوسف إدريس، ومصطفى محمود، صلاح عبدالصبور، باعتبارهم أقل قدرًا وقامة من الكتاب والمبدعين الرواد الذين عاصروهم، وكانوا بين أساتذة أو أصدقاء له، حتى أنه اعتبر أن الأدب مع هذه الأسماء السابقة التى تخيف مثلى سائر إلى حضيض.

سألت نفسى مرارًا: من أنا لأكتب عن رجل بحجم وديع فلسطين، ماذا سيقول وأنا لست سوى صحفية تتحسس طريقها للعيش فى أوائل الألفية الجديدة؟، لكننى فى النهاية ابتلعت ما يكفى من حبوب الشجاعة، وفكرت فى أنى ربما سأقول بكتابتى هذه لكل مَنْ يجايلنى الآن، أو سيأتى من بعدى، ولديهم إشكالية فى متابعة كل ما سبق، بأن هناك رجلًا قد مر من هنا، وكان صديقًا للرعيل الأول من كتابنا ومبدعينا، كان سفيرهم الذى تناول سيرهم، وقد نال تقديرًا واسعًا خارج بلده، لكنه عاش فى بلده وحيدًا وبعيدًا ومُبعدًا، اسمه «وديع فلسطين.. حارس بوابة كبار الأدباء».

رجل التحولات

عرفت وديع فلسطين فى مرحلة مهمة فى حياتى وفى مرحلة تحولات أخيرة فى حياته، أو ربما هكذا رأيتها، فتعرفت عليه فى نهايات حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك وإرهاصات الثورة ربما كانت فى مهدها الأول، لاسيما بعد تحولات الشارع فى ١٩٩٦ و١٩٩٧ والتى بدأت تشهد مظاهرات أولية لم يسبق للشارع المصرى أن صادفها أو قابلها.

كنت صحفية فى بداية المسار أسعى وأحاول الوصول إلى هدفى بجميع السبل المشروعة، ولا أتوقف عن التجريب والمحاولة، حتى أنى لم أستبعد أن أحارب طواحين الهواء من أجل هدفى الذى غادرت مدينتى البعيدة من أجله، لأعيش بالقاهرة وحيدة أترقب كل حركة تدب من حولى.

وعلى النقيض كان هو كاتبًا وصحفيًا مخضرمًا عاش عقودًا طويلة، وقابل نجاحات وربما خيبات وآلامًا طويلة جعلته فى النهاية يتعامل مع كل من حوله بشيء من خوف، يخاف الخوض فى السياسة كحال أجيال كثيرة كان الخوف محركهم، لكن المسألة بالنسبة معه لم أفهمها وإن كنت أسعى لرسم تصورات لها.

ويبدو أن الرجل الذى كان قدره أن يكون نجمًا فى عالم الصحافة المصرية فى فترة ما قبل ثورة يوليو ممثلًا لصحيفة نعتبرها فى عصرنا سيئة السمعة، بسبب ارتباطها بالاحتلال الإنجليزى، وهى صحيفة المقطم، خاض تجربة أليمة أو ربما خاف مما قد يؤول إليه حاله بُعيد ثورة ٢٣ يوليو، وحركة الضباط الأحرار، التى جاءت لتعيد نصاب الكثير من الأمور ولتعود مصر للمصريين فعلًا.

بعد الإعلان عن حركة الضباط الأحرار تم التعامل مع المقطم، التى كانت جريدة يومية مسائية، تناظر الأهرام وتضاهيها قدرًا، بكثير من الحذر أيامًا معدودة حتى جاء قرار الإغلاق، وسجن فلسطين أيامًا معدودة على أصابع اليد الواحدة، ثم خرج، وربما اتخذ قراره بمغادرة كل ما يمت للكتابة بصلة.

ومن هنا يأفل نجم فلسطين بسبب اعتباره من المعسكر الآخر المعادى للثورة، فى حين يبزغ نجم صديقه الآخر الذى كما يقول فلسطين ليس بينهما إلا أسبوع فرق فى العمر.

صديق فلسطين كان رجل الثورة المحظوظ الذى بزغ نجمه ليصبح الأستاذ والأب الأهم للصحافة المصرية، بسبب حالة القرب حد الاتصال بالضباط الأحرار، والزعيم الراحل جمال عبدالناصر.

ربما كانت أحاديثه غير المتصلة عن زميله القديم الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، توضح كثيرًا من الأمور الخاصة بهذا الرجل الذى سعى وحاول كثيرا لأن يعيش كما آمل إلا أن وجوده فى الجانب الآخر ربما ضيع عليه فرصا وحظوظا أخرى.

والحقيقة أن ما تحدثت عنه هو محاولة لتحليل ودراسة كثير من مواقف وحكايات الأستاذ وديع فلسطين الذى لم أستطع طويلًا الكتابة عنه، وحتى أن كل كتابة عنه تغيرت حتى وصلت لهذه الصورة النهائية، لأقدم هذه المحاولة التى أسعى بها لقراءة نجم وعلم كبير ملأ الأرض من أقصاها إلى أقصاها، ونال تكريمًا فى أماكن مختلفة إلا فى وطنه، فتجد رموز الفكر فى الخليج وخاصة المملكة السعودية والكويت يعرفون الرجل ويحتفون به، وكذلك فى لبنان، وسوريا، والأردن، حتى أنه عضو فى مجمعى اللغة فى سوريا والأردن، لكنه لم ينل عضوية نظيرهما المصرى أبدًا رغم طرح اسمه باستمرار للترشح، ولم يقف الأمر فى مصر عند هذا الجانب، بل تجاوزه لعدم نيل أى تقدير أو اهتمام يليق بالرجل اللهم إلا من قبل أسماء معدودة من أصدقائه والمقربين منه، إضافة إلى الكاتبة صافيناز كاظم التى يحكى عن علاقة وثيقة تربطه بها منذ تسعينيات القرن الماضى.

سيتغير مسار وديع فلسطين بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وكأنها كما حررت الشباب فى الميادين، حررت هذا الشيخ القابع فى نفس المكان ونفس شقته فى مصر الجديدة، بشارع الإمام على منذ منتصف القرن الماضى وحتى الآن.

ومن خلال تتبع بسيط لمسار كتابته وتحرر مقالاته وتحولها شيئًا فشيئًا نحو السياسة التى كان فى البداية يرفض أى إبحار نحوها إلى حد التلبس بها فى مقالات متعددة.

وأن تقرأ المقالات وتستمع إليه وإلى تحليلاته، بل حتى إلى أسئلة قديمة بدأت الإجابات عليها تظهر وتتحرر ربما كله يقول إن هذه الثورة الجديدة كان لها بُعد آخر، فقد حررت أسرى ثورة يوليو الذين لم يستطيعوا أن يحدثوا أى أثر فعلى وآثروا الانزواء، وربما تحويل المسار كما فعل وديع فلسطين.

فلسطين ليس فلسطينيًا

ومن هنا تبدأ الحكاية وتنتهى... فللوهلة الأولى يتراءى لك أنه فلسطيني بسبب اسمه أولًا، وشيء من هيئته ثانيًا، حتى إن كثيرًا من الشخصيات الفلسطينية البارزة التى قابلتها، تعتقد أنه فلسطينى الأصل.

قال لى «وديع فلسطين» إنه كثيرًا ما وقف فى مواجهة السؤال: هل أنت فلسطينى الجنسية، حتى إنه ألفه، وأصبح ينتظره كلما التقى بشخص للمرة الأولى، ويجيب على السؤال بأنه ليس مصريًا فحسب، لكنه من صعيد مصر فهو من مواليد ١٩٢٣ فى مدينة أخميم بمحافظة سوهاج.

ويتحدث عن قصة اسم «فلسطين»، مشيرا إلى أنه كان اسما دارجًا بين الأسماء المصرية، وليس فلسطين فحسب لكن «إسرائيل» أيضًا، لكنها أصبحت تسمية كارثية بعد الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، لتتغير المسألة كلية، ويختفى هذا الاسم من مصر كلها، وخاصة الصعيد.

قلت له إننى سألت بعض الكتاب الفلسطينيين عنه فتخيلوا للوهلة الأولى أنه فلسطينى أيضًا، فقال إن هذا أيضا أمر ليس بجديد، بل إنه ومع كتاباته الكثيرة فى صحيفة المقطم عن فلسطين، تأكدت لدى البعض تخيلاتهم بأنه فلسطينى فعلًا، حتى أن شخصيات فلسطينية بارزة وقتها تخيلت أنه من المهاجرين الفلسطينيين إلى مصر، وكانت تسأل عنه لدى قدومها لمصر فعلًا.

من النوادر التى يحكيها وديع فلسطين أن مصر كان بها ثلاثة يحملون اسم «وديع فلسطين»، وأنه فى إحدي المرات تم استدعاؤه إلى أمن الدولة، وهناك بادره الضابط: أنت مين فيهم؟، ثم عرف أحدهم فيما بعد عبر ابنه الدكتور «عادل وديع فلسطين»، الذى كان يكتب عددًا من المقالات فى جريدة القاهرة، وكانت تصله تساؤلات عديدة، فيما إذا كان ابنه فعلًا، وهو الأمر الذى كان يحدث أيضًا مع دكتور عادل وديع فلسطين، حيث عرف ذلك بعد أن اتصل به الأخير، وحكى له أيضا أن كثيرا من الناس يتحدثون إليه متخيلين أنه ابنه.

الميلاد والنشأة

وفقًا لسيرته، فإن أسرة وديع فلسطين تنتمى إلى مدينة نقادة، التى يمتد تاريخها إلى عصر ما قبل الأسرات، وإليها تنسب لها حضارة نقادة القديمة التى كان لها بُعدها التاريخى، وربما يكون حفيدًا لأحد هؤلاء العظام الذين خطوا بدايات الحضارة الإنسانية والمصرية.

أما هو فمن مواليد الأول من أكتوبر ١٩٢٣، أى أنه سيكمل العام الحالى عامه الـ٩٣، ولا تزال ذاكرته فتية شابة بل ربما أفضل من ذاكرة الشباب فى عصر سادت فيه الذاكرة الإلكترونية المشهد.

ولد فى أخميم بمحافظة سوهاج بصعيد مصر، ثم ارتحل مع أسرته إلى ما هو أبعد جنوبًا بعد مولده، وصولًا إلى السودان برفقة والديه، حيث عمل والده موظفًا حكوميًا فى «عطبرة»، وظل هناك حتى العام ١٩٣٠، كان «وديع» وقتها طفلا ابن سبع سنوات، بقى فى ذاكرته شيء بسيط من السودان لكنه ليس بالكثير، فلم يقضِ هناك سوى مرحلة الطفولة الأولى فقط، ومنها عاد إلى القاهرة حيث عاش أغلب حياته فيها، ولا يزال.

فى ١٩٣١ توفى والد وديع فلسطين، وهو ابن ثمانى سنوات، فربته والدته هو وإخوته الستة، ووصل إلى أقصى درجات التعليم فى حينه، فتدرج بين مدرسة الجيزة الابتدائية الأميرية، ثم المدرسة الإنجليزية للبنين فى جزيرة الروضة، حتى وصل إلى الجامعة.

كان وديع فلسطين الثانى فى الترتيب بين إخوته الأشقاء، وكانوا يتعايشون من معاش والده البسيط الذى لم يكن يؤهله لدخول الجامعة الوحيدة آنذاك «جامعة فؤاد الأول» «جامعة القاهرة الآن».. لكن حلمه بتحقيق ذاته دفعه إلى الاستمرار، ومن ثم لم يكن أمامه إلا التوجه للجامعة الأمريكية التى كانت مصاريفها أقل آنذاك، عكس الواقع المتعارف عليه فى وقتنا الراهن.

وفى الجامعة الأمريكية التى كانت لا تزال فى مرحلة البدايات، درس وديع فلسطين الصحافة، ولم يكن بها سوى قسمى العلوم الاجتماعية والصحافة كما يحكى، وكان توجهه للصحافة أيضًا بسبب المادة، وكونها القسم الأقل نفقات.

تخرج فى الجامعة عام ١٩٤٢ وهو ابن ١٩ عامًا أو أقل، لتبدأ مسيرته الصحفية، وليكون من أوائل الدفعات التى خرجتها الجامعة الأمريكية، والتى سيعمل بها مدرسًا للصحافة فيما بعد، لتتخرج على يده أجيال من الكبار الذين ساهموا فى إكمال مسيرة الصحافة والإعلام المصرى حتى الآن.

بين «الأهرام» و«المقطم»

عمل وديع فلسطين بعد تخرجه فى مجلة المقتطف، الثقافية الشهرية «دار المقطم والمقتطف»، التى يقول إنها كانت بوابته الأولى على عالم الأدب والأدباء، حيث الندوة الأسبوعية للمجلة، والتى كان يرأس تحريرها «فؤاد صروف» أستاذه فى الجامعة.

وكما يبنى العالم مراحل تطوره وارتقائه تباعا، كانت المقتطف وندوتها الأسبوعية المعين الأهم الذى سيبنى «فلسطين» منها أول أعمدته التى سيؤسس عليها بنيانه الشاهق الذى سمح له بالتعرف على رموز الإبداع والأدب منذ وقتها وحتى الآن.

يستمر عمله فى المقتطف الشهرية، لكن الأمر لن يقف معه عند هذا الحد، فسيكون على موعد مع العمل فى أهم صحيفتين فى ذلك الوقت فى مصر، برغم اتجاه كل منهما المغاير، حتى يأتى التحول على يد «كريم ثابت» باشا، وهو شخصية مثيرة للجدل وللبحث والدراسة، فيما أثير عنه وحتى مذكراته، ومن قبلها كتاباته والحكايات حوله تدفع لملايين من التساؤلات.

وفى زيارة، هى الوحيدة التى زرت فيها «وديع فلسطين» فى بيته فى ٢٠١٤، سألته عن «كريم ثابت»، وكنت قد قرأت له مقالا قديما فى مجلة «الهلال» يتحدث فيه بلغة بديعة عن رحلة قام بها إلى اليمن، إضافة إلى حديث عما أثير حول علاقته بالملك، وطبيعة ما أثير حول الرجل بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ولا يزال، وهو ما سيأتى تناوله لاحقا فى الكتاب.

وكالعادة جاء السؤال الذى وجهته له مصدرا للسرد، فبدأ يعيد الحكى حول قصة عمله فى «الأهرام» وكيف انتقل منها إلى المقطم، بعد أن فشل الرجل فى العمل بالتحرير الصحفى فى الجريدة العريقة والتى ساعدها القدر فى الاستمرار إلى الآن، لتكون الصحيفة الرسمية الأولى فى مصر.

حكى فلسطين أن «فؤاد صروف» خلال إحدى زيارات وديع فلسطين له فى أعقاب تخرجه من الجامعة سأله إن كان يحب أن يعمل فى الأهرام، وهو الأمر الذى رحب به «فلسطين» بشدة وقتها، ليعطيه «صروف» خطابا لمدير الإدارة، الذى كان وفقا لحديثه قريبا له، إلا أن القدر شاء أن يعمل فى قسم التوزيع، وظل ثلاث سنوات فى الأهرام فى نفس القسم (١٩٤٢ :١٩٤٥)، بعيدا عن التحرير والكتابة التى رغب فيها، وقد حاول مرارا التحول باتجاه قسم التحرير، لكن دون جدوى على ما يبدو.

ثم جاء التحول إلى «المقطم»، وكان «كريم ثابت» رئيسا لتحريرها، خلفا لوالده خليل باشا ثابت، وطلب من «فلسطين» العمل معه، أو كما يقول «فلسطين» إنه أغراه بالعمل معه، فترك «الأهرام» ليلتحق بـ«المقطم»، رغم أن الأهرام كانت يومية تصدر فى الصباح، فى حين كانت المقطم يومية مسائية تصدر فى الثانية ظهرا، وقت عودة الموظفين من أعمالهم.

تولى كريم ثابت رئاسة «المقطم» فى أول مارس ١٩٤٥، لكن ذلك لم يستمر لأكثر من عامين أو يزيد قليلا، حيث وقع نزاع شديد الوطأة بين «فارس باشا نمر» وشركائه من آل صروف وشاهين، ميكاريوس وثابت، ووصل الأمر للمحاكم بالفعل، ما أدى بكريم ثابت ووالده إلى ترك المقطم، وهى الحالة التى سنفرد لها جزءا كبيرا من العمل، للتعرف على حالة الصحيفة التى كانت لسان حال الاحتلال الإنجليزى، وهو ما يفنده «فلسطين» مطولا فى أحاديثه، ويقول بأنها قدمت لمصر وللقضايا العربية خدمات لم تقدمها غيرها.

وإذا كانت «المقطم» هى المرحلة الأهم والأصعب فى مسار حياة الرجل، فقد شكلت حالة التحول الكاملة له لاسيما بعد الثورة، والتى جاءت وهو رئيس تحرير المقطم الفعلى، ومحرر افتتاحيتها وإن لم يذيّلها باسمه، لكنه أكد لى أنه خلال السنوات الأخيرة من عمر المقطم كان محررها الأول الذى يخط افتتاحياتها بقلمه.

ستكون المقطم بعد ثورة «يوليو ١٩٥٢»، التى يرفض هو تسميتها بالثورة، سببا فى دخوله السجن لأيام، ليخرج بعدها بلا عمل، ثم ليقرر مغادرة كل ما له علاقة بالسياسة، إلى ما كان يقوم به سلفا، إضافة إلى عمله، وهو ممارسة الكتابة الأدبية والنقدية، والحكى عن سير أصدقائه الذين عاصرهم من كبار الأدباء والمبدعين المصريين والعرب، وليعيش حياة الهامش بدون أن ينال التقدير الذى تمناه من بلده، فى الوقت الذى تكرمه فيه لبنان، ويُحتفى به فى مجمع الأردن، وتقف له المملكة العربية السعودية بالرغم من مسيحيته لتكرمه فى أحد أهم المحافل البارزة وهى «اثنينية خوجة»، ويتحرك ناشر فى الكويت لنشر مقالاته أو آثاره فى مجلدين فاخرين، كل هذا فى حين تتقاعس المجلة التى ينشر بها دوريا عن نشر أعماله، ثم تتوقف فى فترة من الفترات، وبشكل كلى، عن نشر المقالات.

إذا أبديت تعاطفا، أو بحثت عمن يريد أن يكرم الرجل فى بلده، فسيخرج لك على الفور أحد المسئولين ليقول لك إنه رجل لا يخجل من الإعلان عن أنه كتب كتبا لصالح آخرين.

التدريس بالجامعة الأمريكية

بدأ وديع فلسطين خلال مساره فى مجال التدريس الجامعى، وكما كان من أوائل الخريجين المتخصصين فى الصحافة، فقد كان من أوائل المصريين الذين اشتغلوا فى تدريس علوم الصحافة، وجرى ذلك فى الجامعة الأمريكية التى تخرج منها، وبدأ التدريس فى ١٩٤٨ م، وبالرغم من استمراره فى التدريس ما يقارب عشر سنوات، إلا أنه خلال فترة ما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، والتى لم يشتغل فيها بالصحافة كان يتحدث بأنه بلا عمل.. فالعمل لديه هو الكتابة، وكأن تدريسها شيء بديهى أو على الهامش.

ومن بين أعماله المطبوعة يأتى عمله «استقاء الأنباء فن: صناعة الخبر» وهو مترجم صدر فى ١٩٦٠ عن دار المعارف، و«العلاقات العامة فن» وهو أيضا مترجم صدر عن المعارف فى طبعة أولى فى ١٩٥٩، وفى طبعة ثانية عام ١٩٦٧ م.

وجاء عمله مدرسا للصحافة بالجامعة الأمريكية بالتوازى مع عمله الصحفى- الذى سعى خلاله أن يقدم عصارة فكره فى أعمال صحفية، وكتابات متنوعة فى الصحافة الثقافية والسياسية والاقتصادية- حتى إن مشاهير الصحافة والإعلام المصريين والعرب ممن تخرجوا فى الجامعة الأمريكية يعتبرونه معلمهم وأستاذهم الأول.

حياته بعد المقطم

أُغلقت المقطم، فى أعقاب ثورة يوليو، وعاش فلسطين معتمدا على الترجمة بعد أن تقطعت به السبل، وأيقن أنه لن يستطع العمل فى الصحافة، حتى إنه كان كبير- رئيس- المترجمين فى التحكيم الدولى المعروف بقضية أوناسيس، ولمدة قاربت العامين منذ ١٩٥٥ ومنها عمل فى إدارات العلاقات العامة والقانونية فى شركة أرامكو البترولية، كما عمل فى بعض هيئات السلك الدبلوماسى.

خلال هذه الفترة لم يتوان عن الكتابة، حيث كان يرسل مقالاته لمجلة الأديب اللبنانية، والتى ظل مراسل لها منذ بدايتها ولمدة قاربت من الأربعين عاما وفقا لقوله، وهى فترة كبيرة، قدم فيها حالة من الاتساق مع الحالة الثقافية المعاصرة وكان معبرا عنها وعن مبدعيها المعاصرين، إضافة إلى غيرها من المجلات التى تصدر خارج مصر، خاصة فى المهجر، ليغرد بقلمه خارج السرب لكن بدون أن يخوض فى السياسة التى قاطعها، وكان يؤكد على أنه قد هجرها إلى الأبد، حتى تغير الأمر تدريجيا بعد ثورات القرن الحديثة.

وقد عمل مديرا لمكتب شركة أرامكو السعودية فى القاهرة، بعد قضية أوناسيس، وخلال هذه الفترة ساهم بشكل كبير فى مجلة «قافلة الزيت»، واستكتب عددا كبيرا من أصدقائه ومعارفه من كبار الأدباء والكتاب والمبدعين، وحكاياته فى هذا الصدد كبيرة، فكثيرا ما حكى لى عن كتاب كبار، وربما أصحاب مجلات ثقافية شهيرة كانوا يتصلون به عاتبين على عدم استكتابه لهم فى المجلة التى كانت تقدم مكافآت كبيرة جدا.

ويقول إن العقاد كان أول من استكتبه فى المجلة، والسربونى، وعزيز باشا أباظة، ومحمد عبدالغنى حسن، وفؤاد صروف ووداد سكاكينى وكثيرين، حيث ظل ١٣ عاما مسئولا عنها من الناحية الثقافية.

فى ١٩٦٨ سافر فلسطين إلى ليبيا ظل هناك لفترة امتدت عامين ليعمل مترجما لإحدى شركات البترول، ويحكى عن كونها فترة صعبة، لم يستطع أن تستمر لأكثر من ذلك ليعود للقاهرة مع بداية ١٩٧٠، ويبدأ مسار عمل جديد.

يقول عن هذه التجربة فى حياته والسبب فى انتهائها مبكرا «حكومة القذافى طردتنى فى ٢٤ ساعة، حيث استدعونى فى مكتب وقالوا لى لابد أن تسافر غدوة، وغادرت فورا أنا وأسرتى».

ولدى عودته للقاهرة بدأ «وديع فلسطين» عمله فى السلك الدبلوماسى، حيث بدأ عمله مديرا لمكتب السفير الإيرانى لدى مصر فى الفترة من ١٩٧١، وحتى ١٩٨٢.

لا يتحدث فلسطين عن هذه الفترة ويمر عليها مرور الكرام، بالرغم من ثرائها لا سيما فيما يتعلق بتاريخ إيران التى كانت على موعد مع حالة التحول التى ما زالت أصداؤها تؤثر ليس على الإمبراطورية الفارسية القديمة فحسب، بل على كل دول المنطقة فيما بعد، وربما لم يرد التطرق إليها أيضا حتى لا يقع فى السياسة، وهو الذى اتخذ قراره بعدم الخوض فى السياسة بعد الأيام المعدودة التى قضاها فى الحبس بُعيد حركة الضباط الأحرار، والتى اتخذت هذا المسمى فى البداية قبل تحولها إلى مسمى الثورة.

الغريب فى الأمر أنه بدأ عمله فى نفس العام الذى بدأ معه أفول نجم المملكة الإيرانية تحت حكم الشاه وتحولها للجمهورية الإسلامية، حيث حلت فى نفس العام ذكرى مرور ٢٥٠٠ عام على إنشاء الإمبراطورية الفارسية، وقد أقيم وقتها احتفال امتد ثلاثة أيام مليئة بالتبذير حتى أشيع أن التكلفة الخاصة بالحفل تراوحت بين ١٠٠ : ١٢٠ مليون دولار، فيما كانت ولايات عديدة فى المملكة تعيش فى حالة فقر وقحط، بل جفاف.

خلال سنوات عمله بدأت حالة التذمر إلى أن اشتعلت نيران الثورة، وغادر فلسطين عمله مديرا لمكتب السفير الإيرانى، حيث تعاقب عليه أربعة سفراء، فى ١٩٨٢، ومن وقتها وهو متفرغ للكتابة والترجمة والتحرير.

اخر الأخبار