"الأردوغانية" ظاهرة عثمانية مستحدثة!

تابعنا على:   10:06 2016-10-20

كتب حسن عصفور*/ يبدو اننا امام مشهد ليس جديدا في التاريخ السياسي، عندما نقف امام شخصية تمركز الحياة العامة حيثما استطاعت حول ذاتها، ببعد مركزي بارز، والرئيس التركي رجب طيب اردوغان هو حالة معاصرة لذاك التكرار التاريخي.

فمنذ انشقاقه الاول عن حزب الرفاه الإسلاموي بقيادة أربكان، عام 2002 لتأسيس حزب العدالة والتنمية توافق مع زعيم ما يسمى راهنا بـ"الكيان الموازي" او "الدولة العميقة" فتح الله غولن، وشكل تحالفا سياسيا وجدت أمريكا فيه القوة الدافعة التي يمكنها ان تشكل قطار سريع نحو تنفيذ مخططها التقسيمي في المنطقة العربية، من خلال " نموذج إسلاموي بعباءة علمانية"..

ولعل توقيت تشكيل حزب العدالة والتنمية عام 2002 قبل غزو العراق بعام، والدعم الأمريكي القوي والسريع لـ"المنتج السياسي الوليد" يلقي الضوء على بعد استراتيجي في الوظيفة الاستخدامية الامريكية للنموذج التركي الجديد، وهو ما توافق أيضا مع النزعة الأردوغانية للقفز نحو السلطة تدريجيا، مستخدما اي اداة يمكنها ان تحقق له هدفه الذاتي قبل الهدف العام.

الهدف  - الطموح

الأردوغانية، وفقا للممارسة السياسية هي محاولة عثمانية مستحدثة تعمل من أجل خلق "قيادة مركزية للدول الاسلامية" كبديل للتسمية القديمة "دولة الخلافة الاسلامية"، لتجسيدها كنظام سياسي جديد باعادة روح الماضي العثماني، ولطمس الاتاتوركية العلمانية في ذكرى مرور مائة عام على انتصارها عام 2023 .

وهذا ليس موقفا استنتاجيا فحسب لمسار "الأردوغانية" منذ التأسيس، لكنه استنادا لموقف رسمي سجله الناطق الرسمي باسم "الرئاسة التركية" ابراهيم قالن في مقالة نشرها بصحيفة "الصباح" التركية يوم التاسع من أكتوبر 2016 كشف يه الهدف الحقيقي للأردوغانية، بقوله "إنّ الدول الإسلامية بـ"حاجة ماسة إلى قيادة سياسية حكيمة وقوية" من أجل إنهاء الحروب والاشتباكات الحاصلة فيها، وردع التدخلات الخارجية."

ومع تطرقه لما يدور في عالم اليوم من عنف وارهاب ومخاطر طائفية فقد خلص قالن الى انه: "على الدول الإسلامية مساعدة بعضها البعض من أجل تقوية المؤسسات؛ فلا يجب استغلال الخلافات المذهبية والعرقية من أجل إضعاف أكثر للإدارات القائمة في الدول الإسلامية، وعلى قادة الدول الإسلامية أن يدركوا بأنّ أمن دولهم مرتبط بأمن الدول الإسلامية الأخرى؛ ففي عصر العولمة لا يمكن أن يكون أحد في مأمن دون أن يكون الجميع في أمان".

ذلك هو الهدف المركزي للأردوغانية، ومن اجله تصبح كل الوسائل والأدوات مشروعة، بعيدا عن " المبادئ" و"الأيدلوجيا".

بروز دور اقليمي

ويمكن ملاحظة ان بداية التأسيس لـ"الأردوغانية" أنها استخدمت عناصر  مساندة كانت الرافعة لها في تعزيز دورها ومكانتها، جسدتها الاستفادة القصوى من الولايات المتحدة والتنظيم الموازي وايضا دولة الكيان الاسرائيلي..

وقد برزت العلاقة الاسرائيلية التركية كعنصر أساسي لتعزيز تلك النزعة العثمانية المستحدثة، وكانت فترات ذروة التنسيق الأمني والعلاقات الاقتصادية بين تركيا ودولة الكيان الاسرائيلي في تلك السنوات، ما منحها محاولة البدء نحو لعب الدور الاقليمي المبكر، بدعم سياسي رسمي امريكي، من  رعاية مفاوضات اسرائيلية سورية عام 2008 مثلت نقطة انطلاقة للدور الاقليمي للنظام الأردوغاني نحو استخدام لاحق لعالم عربي إسلامي تراه أمريكا وفقا لمنظور تقسيمي مختلف، ولم تقف تركيا الأردوغانية في تعارض مع ذلك المخطط بل كانت جزءا حيويا منه وله..

وحاولت تركيا، ان تستغل الحرب العدوانية على قطاع غزة عام 2008 لتعزيز دورها مع الكيان من خلال حركة حماس وبمساعدة خلفية من دولة قطر، لكنها لم تصل لمبتغاها نتيجة اعادة تصويب العلاقة المصرية السعودية ونسبيا السورية، فكانت مصر هي راعي محادثات التهدئة في حينه، دون أن تفقد تركيا رغبتها في المحاولة ولكن باشكال أخرى، عبر علاقة مباشرة مع حركة حماس..

مصر: الاخوان والاستخدام

ولكشف حقيقة الأردوغانية من المهم جدا الوقوف أمام ممارستها وسلوكها في التجربة المصرية، حيث كشفت الأحداث في مصر وتطورها عمق "الانتهازية الفكرية السياسية" للاردوغانية ما بعد يناير 2011، ونجاح جماعة الاخوان المسلمين من خطف الحراك لتتمكن من التحكم بمساره لاحقا لفترة محدودة، وبعيدا عن مناقشة أسباب ذلك فليس مكانه الان، لكن ذلك التطور اسقط ورقة كان الاعتقاد انها حاسمة في المنهج الأردوغاني وعلاقته سواء من خلال حزبه الام، "الرفاه"، او الجديد "العدالة والتنمية"، بالاخوان المسلمين..

 فمع بروز إمكانية الجماعة الإخوانية لحكم مصر، كشف اردوغان عن جوهر حقيقته السياسية - الفكرية من خلال مقابلة تلفزونية مع محطة مصرية في سبتمبر 2011، وقبل زيارته المرتقبة الى القاهرة، أكد ان "العلمانية هي الحل" للدول، وان "الاسلام ليس هو الحل"، وضرب مثالا بنفسه قائلا، انه "انسان مسلم ولكنه يقود دولة علمانية وهو النموذج الذي يجب ان يكون في مصر".

وعند وصوله الى القاهرة استقبل برايات الخليفة المرتقب، ولكن مع اعادة تصريحاته السابقة ودعوته أن "العلمانية هي الحل"، اثار هيجان سياسي للجماعة الإخوانية،  وطالبه عدد من قادتها ان لا يتحدث عن مصر فهي تختلف عن تركيا، بل وصل الأمر ببعضهم أن طلبوا منه أن "يحمل أفكاره ويرحل"..وغادر بمشهد  لا صلة له بمشهد الاستقبال فكان مظهر وكأنه "طلاق مبكر" لكنه لم يكن طلاقا بائنا بل كان مؤقتا، كما ستظهر التجربة لاحقا..

عمليا اردوغان لم يكن يدافع عن العلمانية كمبدأ حكم ونظام سياسي فكري، لكنه أراد قطع الطريق على اي دور مركزي في المشهد الجديد لمصر بقيادة الاخوان تحت راية شعارهم "الاسلام هو الحل"، ما يضعف هدفه المركزي، ولذا بعد ان اطمأن على إزاحتهم من المشهد السياسي بعد ثورة يونية 2013، وسقوط حكم المرشد سارع بتبنى الجماعة، وكان له السبق في تجسيد شعار "رابعة" كشعار خاص لسقوط الأخونة، كونه ادرك الان ان مصر الاخوانية لن تكون عقبة في طريقه للحاكمية الاسلامية، وجعل من بلده تركيا وكأنها المقر الرسمي للجماعة الاخوانية قيادة وأعلاما ودورا سياسيا، ليظهر بدور "الخليفة الرحيم مع رعيته" التي أخطأت بحقه!

سوريا

ولكشف الطبيعة الخاصة للإنتهازية السياسية - الفكرية لـ"الأردوغانية" تبرز سوريا كساحة من اهم كاشفات تلك السمة الخاصة لهذه الظاهرة..فمن الصديق المقرب جدا للرئيس الأسد، ولعب دور الراعي للمفاوضات السورية الاسرائيلية، الى الانقلاب السريع جدا مع بروز حركة الغضب عام 2011 للعب دور الحاضن للجماعات المعارضة سياسيا وعسكريا للدولة والنظام، دون تدقيق في هوية وفكر وطبيعة تلك الجهات ما دام يراها وسيلة نحو تحقيق "الذات السلطوية"، وتصرف كمندوب أمريكي و"ناتوي" - من حلف الناتو - في التصدي للحضور الروسي بسوريا كمان كان موقفه عدائيا للدور الايراني، اعتقادا ان سوريا ما بعد الأسد هي بوابة اردوغانية نحو انتاج "الحاكمية السياسية الجديدة".

الذات المتضخمة والنظام الرئاسي

واستباقا للتطورات السياسية التي اعتقد أنها قادمة لا محالة،  ذهب للتحضير للزعامة الجديدة عبر الترشح لمنصب الرئاسة التركية، وتعديل بعض الصلاحيات في نظام الحكم، كخطوة أولى على طريق "إحداث إنقلاب بنيوي" في طبيعة الحكم، نحو ترسيخ النظام الرئاسي كبديل للنظام القائم باعتباره مفتاح للنظام الأردوغاني الجديد - البديل لـ"الأتاتوركية" نحو بناء زعامة إسلامية من خلال النموذج التركي المختلط بين الدين والعلمانية تحت سيطرة الزعيم "الخليفة المنتظر"!

ومع السعي لخلق ذلك النموذج باستخدام الآلية الديمقراطية، الانتخابات، كانت الصدمة الكبرى عندما تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من تحقيق نصر سياسي انتخابي تاريخي، سمح له بالتمثيل داخل البرلمان كحزب له صلة بالاكراد، ما قطع الطريق على حصول اردوغان ما يلزم من تمثيل برلماني (ثلثي الأعضاء) لاقرار النظام الرئاسي.

وقد كشفت التطورات لاحقا، ان فتح الله غولن كان أحد أسباب الفوز الهام لحزب الشعوب لوقف الاندفاعة الأردوغانية، ومن هذه المسألة نصل الى حقيقة الانقلاب الأخير في مايو الماضي، و أهدافه الحقيقية وما نتج عنه من حرب غير مسبوقة على ما يسمى بالتنظيم الموازي ومعه أمريكا، لأن اردوغان يعلم الحبل السري لتلك العلاقة جيدا كونه كان أول المستفيدين منها عام 2002.

ولم يكن من خيار أمام أردوغان بعد الفشل، سوى اعادة ترتيب انقلابه الخاص للحفاظ على الحلم الأردوغاني، فانقلب رأسا على عقب نحو علاقات لم تكن ضمن جدول اعمال النظام التركي، فلجأ الى اعادة ترتيب أوراقه من خلال:

اعادة العلاقة  مع روسيا لتخدم ما يريد

عودة الحيوية في العلاقة مع اسرائيل

فتح الباب لتجديد العلاقة مع ايران

اعادة التعامل في الموقف من داعش

التحول النسبي في الحديث عن سوريا ومصر

والابتعاد النسبي عن الجماعة الاخوانية

المسألة السورية والاستخدام وفق التوسع والغزو والصدام مع روسيا لإستجلاب تعاطف الناتو، وتعزيز العسكرة في مواجهة المسألة الكردية، وتعزيز النزعة الفردية كمفاصل هامة تعطي مؤشرا حيويا كيف تنقلب الأهداف والوسائل وفقا للمصلحة والمصالح دون تدقيق فيما كانت وما ستكون، لهذه "الظاهرة الخاصة".

وهنا نخلص الى أهمية وضرورة تعريف هذه الظاهرة للمساعدة على متابعتها بشكل سياسي وفكري، وارى ضرورة تعريفها وليس الإكتفاء بوصفها وملاحقتها:

ما هي "الأردوغانية":

"الأردوغانية"، هي محاولة لاعادة انتاج التسلطية السياسية عبر الحالة الديمقراطية، المتمركزة حول "الشخص القائد"، مستخدمة "النموذج السياسي العام " لخدمة "النموذج الخاص".

ظاهرة لا تقيم وزنا للأساليب والأدوات المستخدمة وصولا للهدف، ويمكن اعتبارها شكلا مستحدث للميكافيلية السياسية، تتعامل مع مراكز القوى، دولا واحزابا وأفراد، في سياق المصلحة التي تريد، تتسلق القطار، دون تدقيق بهوية من سائقه علها تصل الى هدفها، وتقفز منه بذات القدرة ان اكتشفت  انه ليس هو السبيل لذاك الهدف..

هي شكل من أشكال المحاكاة للتجربة الامريكية في الهيمنة العالمية، ولكن في نطاق ما يعرف بـ" الدول الاسلامية" من خلال:

* قوة عسكرية متطورة وبعمق حلف الناتو كونها الوحيدة التي تمتلك هذه الميزة.

*قوة اقتصادية مستفيدة من تشابك علاقتها مع الأمريكان وأوروبا ودولة الكيان الاسرائيلي.

*أشكال القوة الناعمة:

- سياسيا بالظهور كمدافع عن حقوق دول المنطقة في وجه الاستعمار، كما حدث في سفينة مرمرة التي انكشف انها حالة استخدام انتهت مقابل مبلغ مالي، ووعود بدور خاص في قطاع غزة

ولذا قد نجد ان استخدام تركيا لوجود حماس في قطاع غزة سيكون اكثر أهمية للتأثير من علاقتها بالجماعة الام للإخوان المسلمين، في فلسطين ومع اسرائيل ولاحقا مع مصر عندما تأتي اللحظة المناسبة.

ـ البعد الثقافي وخاصة الفن، حيث باتت المسلسات التركية حاضرة بقوة عبر محطات التلفزة العربية، ويمكن وصفها بأنها استبدلت الدراما السورية منذ بداية الأزمة، وتفوقت نسبة المشاهدة على الدراما المصرية..

*ورقة عمل قدمت لندوة: أثر السياسية التركية على الدوائر الجيوسياسية التحديات الاستراتيجية الجديدة عقدت في باريس 15 اكتوبر بتنظيم من المركز الدولي للدارسات الجيوسياسية والاستشرافية.

اخر الأخبار