سياسات تستند إلى أحلام امبراطورية

تابعنا على:   18:08 2016-12-03

ماجد الشّيخ

لا يرنو إلى الماضي إلا من فقد عنصر القوة، ولا يرنو إلى المستقبل إلا من أجاد ويجيد استخدام عنصر القوة وتوظيفها في سياقات الممارسة التكتيكية والاستراتيجية، والتطلع إلى الأمام، ذلك إنه في الحالة الأولى، يشكل النكوص دائما عنصر الحنين المحكوم للعاطفة، أما في الحالة الثانية فالحنين أكثر انشدادا لنزوع التقدم انعتاقا من أسر الماضي، تشوقا وتشوفا إلى عشق حاضر يراكم الأمل بمستقبل واعد. وهذا لا يعني القطيعة الكاملة والمطلقة مع الماضي، وإنما انتخاب كل ما هو مشرق ومضيء في ذاك الماضي، واستحضاره في نسغ الحاضر، تهيئة للمستقبل.

وما ينطبق على المجتمعات ينطبق على الدول، وكذلك على الأفراد، حيث الحنين النكوصي باتجاه الماضي يصادر التطلع نحو المستقبل ويحسم من رصيده الكثير، فيما يراكم استشراف الأمل العديد من الأرصدة القابلة للتحويل، وإقامة العديد من محطات التغيير الممكنة، على أمداء زمنية متفاوتة.

هكذا الاستدارة التركية أو الأردوغانية تحديدا، في النظر إلى الماضي، ليست مجردة من الحنين، كما لا يمكن تجريدها من التطلع السياسي بآفاقه الراهنة؛ نحو استعادة "أمجاد" إمبراطورية الخلافة العثمانية، في ظل تطلعات "العدالة والتنمية" لاستعادة الموصل وكركوك وجزءا من سوريا، ليس تلبية لتطلعات الماضي فقط، وإنما استجابة لطموح قطع الطريق على الأكراد إقامة إقليمهم، أو نية إنشاء دولة مستقلة لهم في الحاضر، أو في المستقبل كنتاج للصراعات الدولية والإقليمية الجارية في المنطقة وعليها.

من هنا تحديدا يمكن رؤية التطلع الأردوغاني وحنينه إلى الماضي السلجوقي والعثماني، حين استعاد في خطاب له مؤخرا، ما كانت عليه تركيا عبر تاريخها، من قبيل ما ذكره من أن مساحتها كانت في العام 1914 (مليونين ونصف مليون كيلومتر مربع). وفي العام 1923، تراجعت المساحة إلى 780 ألف كيلومتر مربع. لكنّه يعود ليذكر أو ليذكّر "إن تركيا الحالية جاءت من ماضٍ مساحته عشرون مليون كيلومتر مربع". مستدركا القول "إن تركيا وإن لم تستطع في العام 1923 أن تحمي حدود الميثاق المللي عام 1920، فلأن البعض "خلق الأعذار حينها لهذا العجز عن حماية الميثاق المللي. ولكن الآخرين أرادوا بهذه الحدود أن يحبسونا في هذا المفهوم. لذلك نحن اليوم نرفض هذا المفهوم وهم أرادوا أمس، ويُريدون اليوم، أن يجعلونا ننسى ماضينا السلجوقي والعثماني. ونحن لا يُمكن في العام 2016، أن نتحرّك بنفسية 1923".

لاحقا استدرك أردوغان وعاد ليذكر بأن ما يقصده بالماضي التركي إنما هو معطوف على الروح الإسلامية التي تجمع تركيا بكامل محيطها الإسلامي، وهو هنا يختلف في رؤيته للطموح أو التطلع التركي، عن ذاك الطموح أو التطلع الإيراني لابتناء نفوذ إقليمي في المنطقة، يجري توظيفه لاستعادة "أمجاد" النزوع الإمبراطوري الفارسي عبر نظام ولاية الفقيه، وهو يوسع دوره العدواني على امتداد عدد من بلدان المنطقة؛ أو النظام الروسي وهو يرنو إلى استعادة مكامن القوة التي تجسدت في ماضي روسيا القيصرية أو الشيوعية، وذلك عبر إجراء نوع من اختبارات التمدد والتدخل العسكري، الموصول بالشراكة الدؤوبة عبر حلفاء راهنين، يشتركون جميعا عبر البوابة السورية في محاولة استعادة روسيا لدورها كدولة عظمى، لا ينقصها روح التنافس مع تحالف دول الناتو العظمى (الولايات المتحدة) والكبرى (الأوروبية) على الصعيد الدولي، لا سيما وأن موسكو تضمن في هذه المرحلة وقوف الصين إلى جانبها، أو على الأقل وقوفها على الحياد، أو مساندتها من تحت الطاولة.

هذا في الشرق، أما غربا فتشكل بريطانيا وفرنسا بؤرة الحنين للاستعمار الكولونيالي، وهما تتعاطيان مع مستعمراتهما السابقة وكأنهما الأب الرؤوم أو الأم الحنون، أو "الشقيق الأكبر" الذي لا يريد أن تغرب شمسه، أو ثقافته التي ما تني تواصل رعايتها لأبناء المستعمرات، حتى في ظل العهود الاستقلالية التي باتت تعيش في كنفها العديد من الأنظمة التي تتباين نسب استقلاليتها بين نظام وآخر.

أما طبيعة النظام الأميركي، وإن اختلف عن أمثاله من طبائع الأنظمة الأوروبية، فهو في أعقاب تخلصه من الشعوب الأصلانية التي كانت تعيش على الأرض الأميركية المكتشفة، عبر إبادتها والتخلص منها ومن ثقافاتها البدائية وإرثها وتراثها التقليدي، تحولت إلى ما يشبه أيقونة للمال ولرأس المال والسلطة، كزعيمة لما يسمى "العالم الحر"، من دون أن تتخلص بزعاماتها ونخبها التقليدية من هيمنة الخرافات والأساطير التوراتية، حين جري تكييفها لكي تتوافق مع طبيعة الهيمنة المالية والتجارية والاقتصادية وصناعة السلاح والشركات المتعددة الجنسيات داخل الحدود وخارجها، في تطبيق لقيم عولمة متوحشة تتربع على مستوى القيادة العالمية، كل ذلك باسم "ماض مقدس" جرى اختراعه، فصار الأسطورة المؤسسة لعالم تقيمه الحروب العدوانية والتدخلات الخارجية، حفاظا على دواخل تخدرها الخرافات والأساطير الدينية ومفاهيم "التجارة والاقتصاد الحر".

على قاعدة هذه الأرضية التي أرستها المؤسسة الحاكمة طوال تاريخها، يجيء فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كمفاجأة ناتجة من التحولات التي انبنت على تراكمات ما صارته الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، بعد سنوات الإرهاق والتعب وشيخوخة النظام، في ظل الأزمة الاقتصادية المتمادية وتفاعل الأزمات الاجتماعية جراء تدخلاتها الخارجية وانقساماتها الداخلية، ونزعات العنصرية التي تفشت وأثارت العديد من ردود الأفعال التي بلورت سياسات انعزالية، وانكفاءا نحو الداخل، وانكماشا على الذات، في أواخر أيام عهد أوباما، ما أنتج ظاهرة ترامب بشعبويته التي نحت بتصويتها له نحو تفضيل سياسات العزلة والانعزال، ما حدا بـ (ستيوارت إم باتريك)، في مقال نشره موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، لأن يرى أن النظام الدولي الليبرالي الذي عملت الولايات المتحدة وعلى مدى سبعة عقود للدفاع عنه ونشره، يواجه الخطر. في حين وجد كلام ترامب الداعي لحماية أمريكا لمصالحها وابتعادها عن مشاكل العالم، صدى لدى المواطنين الأمريكيين الذين لا يريدون تحمل المزيد من الأعباء، كثمن لقيادة أمريكا للعالم. ولكن دعوته لإعادة السيادة الأمريكية، وتعهده ببناء جدار طويل مع الحدود المكسيكية، كان من أهم عوامل الجذب له ولرسالته. فقد استفاد خطاب ترامب من السطحية وحرص الناس على السيادة. لهذا تضمنت رسائله على الإنترنت تأكيداً على هذه الفكرة "أمة بدون حدود ليست أمة".

في كل الأحوال، يبدو ترامب وقبل دخوله البيت الأبيض حريصا على عدم استفزاز العالم إلا قليلا، بعد "تصريحات خطب الترشيح" المقلقة التي لا يعول عليها، وهي التي صدمت كثيرين في الداخل وفي الخارج، وأقلها الآن هناك من يتوقع ألا يسعى ترامب لتوريط أميركا في حروب جديدة، بقدر ما قد تساوره الشكوك، حول نصائح القادة العسكريين الحاليين والدبلوماسيين، بشأن الجهود الأميركية المكلفة في العراق وأفغانستان.

لكن الرهان اليوم، بات على ألا يصيب التحول ضمان الولايات المتحدة للوضع الدولي، بما يشكل خروجا على تقاليد الهيمنة الأميركية التي تكرست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهذا هو مصدر القلق العالمي الذي يرى في ذلك، خروج النظام الدولي إما نحو التفكك وانفراط عقده، وبالتالي سيادة فوضى غير خلاقة، بل ومدمرة، أو عودة انتظامه من جديد على أسس متجددة لا تقطع مع الماضي، بل تواصل تقاليد سياسات الهيمنة في الخارج، مع الاهتمام أكثر بسياسات كسب جمهور أوسع في الداخل.

باختصار يبدو الحنين الترامبي للماضي الأميركي الأبيض، مزيجا من التفاعل والانفعال، فهو وحيدا لن يستطيع تغليب سياساته المزاجية، بل إن ماضي المؤسسة وحاضرها سيبقى أكثر استطاعة وقدرة على فرض هيمنته على مجمل سياسات واشنطن والبيت الأبيض، إلا أنه وبعد وقت سيقصر أو يطول، سيصبح الرئيس نفسه واحدا من ممثلي المؤسسة الحاكمة وتقاليدها العريقة، إذ ليس من الطبيعي أن تتحول الولايات المتحدة بقضها وقضيضها وفق رؤية رجل واحد، مهما تكن شخصيته قوية، أو كان فوزه يحمل سمات الطلب على التحول أو التغيير، الناتج عن خيبة أمل الأميركيين من سياسات الماضي غير السعيد، وهي السياسات التي سبق وأرسيت من جانب الحزبين الرئيسيين، وليس من قبل حزب واحد. وها هي الانتخابات الأخيرة تأتي برئيس لا يقل حنينا لماضي العزلة والانعزال، والعنصرية الضاربة بعنجهيتها كل الاتجاهات "اليسارية" واليمينية على حد سواء.

اخر الأخبار