ما وراء الإجازة الأمريكية للقرار ضدّ الاستيطان

تابعنا على:   10:15 2017-01-02

عبد الإله بلقزيز

أنهت إدارة الرئيس باراك أوباما ولايتها الثانية والأخيرة نهاية مشرّفة بامتناعها عن استخدام «حق النقض» (الڤيتو) على مشروع القرار المقدّم إلى مجلس الأمن، الحامل رقم ال 2334، الذي يدين الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، وينزع الشرعية عن المستوطنات القائمة. وتَرتَّب على امتناع استخدام الڤيتو إقرار القرار بغالبية الأعضاء المصوّتين جميعاً. وكان أوباما بدأ ولايته الأولى بوعود بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فجوبه بصلف صهيوني سافر أجبره على التنازل عن مطلبه إلى مجرّد الطلب بتعليق الاستيطان لتسعة شهور ثم لأقلّ منها، قبل أن يَبْلَعَ مطالبه بلعاً مُرّاً عقب استهانة بنيامين نتنياهو به وبإلحاحه. ومن حينها طوى، خائباً، ملفّ الاستيطان متحيّناً فرصةَ الثأر لكرامته من سياسي متغطرس (نتنياهو) أمهن في إهانته (أي أوباما) بنقل المعركة ضدّه إلى الداخل الأمريكي: إلى الكونغرس، والمنظمات الصهيونية على شاكلة «الأيﭙاك»، والصحافة والإعلام.
وما كان الموقف الأمريكي من الاستيطان الصهيوني في مجلس الأمن ثأراً سياسياً شخصياً لأوباما فحسب، ولا كان فقط رداً من الإدارة الأمريكية التي تعاملت معها «إسرائيل» باستعلاء وتجاهُل، وإنما أتى يوجّه صفعة حادة لسياسة صهيونية باتت تتطاول على راعيها الأمريكي فتتدخّل في شأنه الداخلي والانتخابي، وتنتصر لفريق على آخر، ولا تتحرّج في المجاهرة بالانحياز إلى الجمهوريين ومرشحهم (الرئيس دونالد ترامب). ومع أنّ ترامب سارع إلى طمأنة أصدقائه في «إسرائيل» إلى أنّ الأمور ستتغير بعد استلامه الرئاسة رسمياً، وسمّى سفيراً متصهيناً يرضي نتنياهو وأرهاطَه، إلاّ أنّ صفعة أوباما ستترك آثاراً عميقة على سياسات خَلَفِه ترامب، وستقيّد الأخير في الكثير ممّا يمكن أن ينتويه تعزيزاً للكيان الصهيوني.
على أنّ لسعة أوباما ل «إسرائيل»، بخذلانه إياها في مجلس الأمن (على غير عادة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية)، تَرُدّ إلى عامل سياسي أعمق وأبعد أثراً من العوامل النفسية والتربوية (التأديبية) هو: بداية الشعور الأمريكي بثقل الغرامة السياسية التي تترتب على السياسة الأمريكية، وصورة الدولة الكبرى، من وراء اندفاعها المطلق في دعم «إسرائيل» والتغطية على جرائمها، وخاصة في مجلس الأمن. ويتغذى الشعورُ هذا من الوعي الحادّ، في أمريكا، بالفجوة بين حاجة الولايات المتحدة إلى «إسرائيل» وحاجة الأخيرة إلى أمريكا. عُدَّت الدولة الصهيونية، بين الخمسينات والثمانينات، حاجة استراتيجية حيوية أمريكية في المنطقة (الوطن العربي)، فأغدق عليها الدعمُ العسكري والتكنولوجي والمالي الذي يؤهّلها للقيام بأدوار الوكالة، وأسبغ عليها رداء الحماية السياسية لرفع قيود القانون الدولي عنها. كان حينها ما يبرٍّر لأمريكا ذلك: عبد الناصر وحركة التحرر العربية في الخمسينات والستينات، المدّ السوفييتي والاشتراكي في المنطقة بين منتصف الخمسينات ومنتصف الثمانينات، الثورة الفلسطينية واليسار العربي المرتبط بقوى المعسكر «الاشتراكي» العالمي، الخوف من السيطرة على منابع النِّفط في المنطقة.. إلخ. لكنّ ذلك كلَّه تغيَّر بدءاً من النصف الثاني من الثمانينات، وبالتالي، غيَّر - بالتدريج - النظرة الأمريكية إلى «إسرائيل» والحاجة إليها.
ما إِن انتصف عقد الثمانينات حتى تغيَّرت المعطيات التي كان مطلوباً من «إسرائيل» أن تقدِّم إنجازات ما في تغييرها، ولم تَقْوَ على تقديمها؛ دخل الاتحاد السوفييتي طور تداعي قوّته في امتداد غرقه في الأحوال الأفغانية، فأتى غورباتشوڤ يستكمل التداعي ذاك لسياسات «اليريسترويكا» التفكيكية، يسحب جيشه من أفغانستان وبلدان «المعسكر الاشتراكي» في أوروبا الشرقية، منكفئاً إلى الداخل السوفييتي. ثم ما لبث الاتحاد السوفييتي نفسُه أن تفكَّك في امتداد انفراط عقد «المعسكر الاشتراكي» فزال، بالتالي، «الخطر الشيوعي» عن أوروبا والعالم وعن «الشرق الأوسط» خاصة لتتراجع، بزواله، الحاجة إلى الدور الإقليمي ل «إسرائيل»، فلقد قدَّم السّخرة السياسية آخرون غيرها مثل «المجاهدين الأفغان» و«الأفغان العرب» والكنيسة (البابا يوحنا بولس الثاني) ورجال سياسيين موالين لواشنطن من طراز ليش فاليسا، زعيم نقابة «تضامن» البولونية.
وما كان لخطر «الثورة الإيرانية» أيضاً أن يَلْقى رداً ردعياً من «إسرائيل»، فما استطاع أن يكسر شوكة إيران واندفاعتها الإقليمية غير جيش العراق في الحرب التي نشبت بينهما، وامتدت لثمانية أعوام. أمّا خطر القومية العربية فزال منذ رحيل عبد الناصر وانقلاب السادات على خياراته، والانشقاق بين البعثين السوري والعراقي وكيْد الواحد منهما للآخر. ولم يكن ل«إسرائيل» من دور في هذا كلّه سوى حربها في العام 1967. ولكنّ ما أخذته بيمينها في الحرب تلك، كادت أن تقدّمه بشمالها في حرب العام1973.
تضاؤل القيمة الاستراتيجية ل «إسرائيل» في السياسة الأمريكية هو ما حدا بإدارة جورج بوش الأب، في العام 1991، إلى إخراجها من حلفه العسكري، الدولي والإقليمي، الذي نسجه لضرب العراق وإخراج جيشه من الكويت. أما المرة الوحيدة الأخيرة التي احتاجت فيها السياسة الأمريكية إلى «إسرائيل»، لتنفِّذ نيابة عنها عملية إخراج نظام «الشرق الأوسط الجديد» إلى الوجود، فخُذِلت فيها أمريكا بعد أن تلقَّى حليفُها الصهيوني هزيمة مُرَّة في حرب تموز 2006 بلبنان، فرُدَّ خائباً كسيراً.
تجتمع معطيات السياق هذا على بيان التحوّل الذي طرأ في قواعد العلاقة الأمريكية - الصهيونية، فانتقلت به «إسرائيل» من حاجة إلى عبء بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وليس معنى ذلك أنّ واشنطن شرعت - بالموقف الأخير لإدارة أوباما - في التخلص من هذا العبء، لكنّ الموقف نفسه ما كان ممكناً إلاّ لأنه يستثمر شعوراً أمريكياً متزايداً بصيرورة «إسرائيل» عبئاً ثقيلاً على الأمريكيين.
عن الخليج الاماراتية

اخر الأخبار