وداعًا ريكاردو بيجليا.. كاتب الأرجنتين المتعدِّد

تابعنا على:   10:20 2017-01-19

أحمد عبد اللطيف

ثمة اعتقاد سائد بأن ريكاردو بيجليا (الأرجنتين-1941-2017) يمثّل أحد أهم اللحظات المفصلية في تاريخ الرواية الأرجنتينية الحديثة في الثلث الأخير من القرن الماضي وبدايات هذا القرن، وأنه، حتى أيام مضت، أحد أبرز الروائيين في لغة ثيربانتس. لكن الحقيقة الأعمق من ذلك أن بيجليا مثّل صورة "الأديب" بمعناها الواسع: الراوي، الناقد الأدبي، كاتب المقال، الأكاديمي والمنظّر للأدب. لذلك، فرحيله عن العالم، منذ عدة أيام عن عمر 76 عامًا، خسارة للأدب العالمي، للنقد والبحث الجاد، وخسارة للقارىء الذي عثر في بيجليا على ضالته.

سنوات المنفى

عاش بيجليا في الأرجنتين تحت حكم الديكتاتور بيرون، ثم قرر الهجرة في أواخر الستينيات تحت حكم الديكتاتور أونجانيا، إذ بلغت الرقابة أقصى درجاتها خاصًة على السينما والمسرح، بالإضافة للتهديدات التي كان المثقفون يتلقونها. وفي الولايات المتحدة عمل بيجليا بروفيسورًا في العديد من الجامعات من بينها هارفارد. أثناء ذلك أنجز أبحاثًا عن بورخس وبريخت وفالتر بنيامين وروبيرتو أرلت وكافكا. كما أنجز رواياته "تنفس صناعي" "المدينة الغائبة" "الفضة المحروقة" "أبيض ليلي"، فيما أنجز "الطريق إلى إيدا"، روايته الأخيرة، عقب عودته النهائية لبوينوس آيرس عام 2011، حيث قرر أن تكون أرض موته كما كانت أرض ميلاده. بذلك خرج من بلده قاصًا مكرّسًا بمجموعات مثل "رقيق هو الليل" "اسم مزيف" وعاد إليها روائيًا مترجمًا إلى أكثر من ثلاثين لغة، وناقدًا بأكثر من عشرة أعمال مثل "قراءة الأدب"، "أشكال مختصرة"، "القارىء الأخير"، "الطليعيات الثلاث". والحقيقة أن إضاءاته النقدية اللامعة ساهمت في التعريف بالرواية اللاتينية وكشف خلفياتها الجمالية والثقافية، كما قدمت منظورات حديثة عن فن القصة والرواية.

بيجليا ككاتب مجدد

يحكي الروائي الإسباني خورخي كاريون في مقال له بعنوان "موت ريكاردو بيجليا، الرجل الذي كان إميليو رينثي" أن اسم الكاتب الأرجنتيني بالكامل هو "ريكاردو إميليو بيجليا رينثي" وإميليو رينثي أحد أقرب الشخصيات الروائية لقلب بيجليا. كأنه بذلك قسم نفسه إلى نصفين عند الكتابة: احتفظ بالأول ككاتب (ريكاردو بيجليا)، وبـ "الآخر" كمكتوب عنه (إميليو رينثي). إنها الملاحظة التي تبرر دخول السيري في الروائي، وهي الخاصية التي ستميز سردية بيجليا من بداياته لنهاياته. وإذا كان بيجليا يعتقد، كما أكد في دراسته "بحث في القصة"، "أننا في الحقيقة نكتب قصتين، قصة مرئية وقصة مختبئة"، فكتاباته نفسها يسري عليها نفس المعيار بكل وضوح، إذ يكتب ما يبدو سيرة ليقول شيئًا آخر لا ليقدم سيرته باعتبارها الحدث المهم.

من هنا يمكن الانطلاق في فهم الاستراتيجية التي اشتغل عليها بيجليا سرديًا: أولًا الإيهام بأنه يحكي حكاية تخصه هو بالذات، بطلها بروفيسور جامعي أحيانًا، ومع تقدم الرواية تفاجأ بأن قصة هذا البطل ليست الهدف، بل ما يحيط بها من أحداث كاشفة. ثم الجريمة أو حادثة القتل التي يبدأ بها عمله ليصنع بذلك مصيدته للقارىء، ويدور به في دائرة من البحث لا يبغي من خلالها الوصول للقاتل (كما يحدث في روايات الجريمة) بل يروم كشف المجتمع الأرجنتيني تحديدًا والتحولات التي عاشها في خلال فترة زمنية معينة، ثم استخدام أسلوب سردي أقرب للتقريري من ناحية، بنبرة محايدة تمامًا وإن طعمها بمشاعر ذاتية، ونقدي من ناحية أخرى، يمكنه من خلاله كشف ثقافته النقدية الواسعة وقراءاته العميقة لكثير من الكُتّاب ذوي التأثير الفارق في السرد. لذلك، رغم بعده عن بورخس، إلا أن الألعاب السردية البورخسية لا تفارقه للأبد. يدلل على ذلك ما حكاه بيجليا في "يوميات"، أنه ذات يوم، وكان في الثالثة، رأى جده يقرأ كتابًا مع أنه يبدو نائمًا، فقرر هو الآخر أن يسحب كتابًا من المكتبة ويخرج للشارع ليقرأ. كان بيت بيجليا يطل على محطة قطارات، وكان يشاهد المسافرين إلى بوينوس آيرس يوميًا. وفي ذاك اليوم، بينما كان جالسًا في مكان أخضر بالقرب من القطار اقترب منه ظل هائل وأشار له أنه يقرأ الكتاب مقلوبًا، وعدله له. يعلّق بيجليا أنه متأكد الآن أن هذا الشخص كان بورخس، الذي كان ينزل في فندق لاس ديليثياس بـ "أدروجيه"، مدينة بيجليا، في تلك الفترة. ثم يتساءل:"من غير بورخس يمكن أن يقول هذا التنبيه الشرير لطفل في الثالثة لا يعرف القراءة؟"

ورغم أن العبارة تبدو مجازية، إلا أنها توضّح إلى أي مدى أفاد الإرث السردي السابق سردية نهايات القرن الماضي وبدايات الحالي، لكنها الإفادة التي لم تمنع التجديد، فقراء بيجليا ونقاده يعرفون كيف استطاع أن ينقل السرد الأرجنتيني من أرض الذهنية أو السحرية، إلى أرض الذاتية والعادية، ومن أرض السياسة إلى أرض الثقافة، ومن الرواية النخبوية من الألف للياء إلى الرواية الثقافية ذات الثيمات البوب، خاصًة القتل. فكان بذلك حلقة هامة في السردية الأرجنتينية، كما كان سكارميتا في السردية التشيلية، حلقة ربط بين جيل عملاق أصبح من كلاسيكيي الأدب وجيل جديد لا يتوانى هو الآخر عن الدفاع عن عالمه الجديد.

لعل إضافة بيجليا الواضحة أيضًا كانت الكتابة عبر النوعية، فرواياته تتمتع بمساحات كبيرة للنقد لا يشعر القارىء بأنها دخيلة على العالم السردي، وكتاباته النقدية تتمتع بمساحة كبيرة من السرد تمنح لنقده العميق بعدًا مسليًا. عبر هذا البطل المثقف، سيتفتّح أمامه أفق يطرح عبره أسئلة ثقافية وفنية، ويمرر من خلاله آرائه في الأدب. إنها "الميتا أدب" كما يطلق النقاد اصطلاحًا.

من الراوي المقنّع للراوي المباشر

إذا كان بيجليا قد اختار في أدبه أن ينطلق من سيرته ليشيد عالمًا يعرفه، متكئًا على الذاكرة والخبرة الحياتية من جانب، وعلى التأمل والتحليل من جانب آخر، فالأكيد أن هذا الروائي المتخفي في صوت راوٍ يشبهه قد سقط تمامًا في سنوات الكاتب الأرجنتيني الأخيرة، إذ اختار أن يعلن عن نفسه بنشر "يوميات"، وهي ثلاثة كتب تضم أكثر من 300 كراسة استخدمها بيجليا على طول حياته ليسجّل فيها وقائعه اليومية، سواء يوميات السفر والترحال، أو يوميات النشأة والعمل في الأرجنتين والولايات المتحدة، ولا ترجع أهميتها فقط لربط حياته بأعماله، بل بأسلوبها المباشر والمختصر، وبجملتها القصيرة. أثناء كتابة اليوميات كان بيجليا يغوص أيضًا في ماضيه، فيتذكر سنواته الأولى مع أجداده، بدايات القراءة وتذوق الحياة. يحكي فيها كيف أنه ولد أعسر، إلا أن مُدرسته أجبرته على الكتابة بيده اليمنى، فظل أعسر في كل شيء إلا الكتابة. كما يحكي عن مسابقات القراءة في الفصل "من يخطىء في القراءة يخسر"، فكانت القراءة منذ البدء. في نفس الـ "يوميات" يكشف كيف بدأ كتابتها. ذات ليلة وكان في السادسة عشرة قرر أبوه، وكان طبيبًا، أن ينتقلوا إلى مدينة مار دي بلاتا، بالقرب من بوينوس آيرس. لم يكن يتخيل أنه من الممكن أن يعيش في مكان بعيد عن "أدروجيه"، هكذا في ليلته الأولى هناك، ولأول مرة في حياته، سحب كراسة وبدأ يكتب "يوميات".

سردية بيجليا تطرح سؤالًا حول المسافة الفاصلة بين "السيرة" و"الفيكشن"، وتقدم درسًا فنيًا في كيفية تضفير الواقع والمتخيل، السيري والمؤلَّف، ما تتأمله كروائي وما تتأمله كراوٍ، دون أن يخل ذلك كله بمنطقية العمل الفني ولا يولّد تنافرًا بين ثقافة الكاتب وثقافة شخصياته.

أبيض ليلي

تعتبر رواية "أبيض ليلي" أكثر الروايات الممثلة لأسلوبية بيجليا، والمتجسّد فيها طموحه الفني. ينطلق العمل من تحقيق في حادثة قتل، وعبره يحكي قصة مدينة تتطابق مع مدينته "أدروجيه"، ويلجأ فيها للهوامش لضخ معلومات أكبر، متبعًا في ذلك طريقة الصحافي الاستقصائي، وهي اللعبة السردية التي يؤكد من خلالها واقعية الأحداث وبناء أسوار الإيهام. اختار بيجليا بدايات السبعينيات كزمن، ومدينة تقع بالقرب من بوينوس آيرس كمكان، وكلاهما يحمل دلالته: الأرجنتين تحت حكم عسكري، وما يمكن أن يحدث في مدينة صغيرة ليست العاصمة. أثناء ذلك يتناول حياة الإقطاعية، طبيعة أهل المدينة القروية، الثراء الفاحش للبعض والفقر المدقع للأغلبية. لكن بيجليا لا يقع في فخ الخطابة، ولا يحمل خطابًا سرديًا ماركسيًا، بل ينشغل بالتحولات التي تطرأ على المدينة، بخلقها لأساطيرها الخاصة، وكراوٍ متشكك يقدم عدة روايات للحدث الواحد، ليتأمل كيف يمكن أن تضيع الحقائق. بذلك يحمل الكاتب الأرجنتيني خطابًا ثقافيًا، يروم بالأساس النبش في جذور الأرجنتين الثقافية، ليعيد طرح أسئلة بدت أجوبتها بديهية رغم أنها ليست كذلك في العمق

الجريمة الغامضة التي ينطلق منها العمل تبقى غامضة للنهاية، إذ ليست إلا حيلة فنية تهدف إلى التشويق، وهو ما يتحقق بالفعل. "البحث" هو اللعبة التي أثبتت نجاحها على طول تاريخ الرواية، منذ ثيربانتس وحتى الرواية الجديدة، وإن اختلف "المبحوث عنه". هنا يختار بيجليا البحث في جريمة قتل، غير أنه ينقل هذه الثيمة البوليسية إلى أرض ثقافية. وما بين بحث بورخس عن مخطوطات وبحث بيجليا عن قتلة، تنتقل الرواية من نخبويتها المجردة إلى واقعيتها الملموسة، لكن ما يجمع الاثنين عدم تخليهما عن النبش الثقافي، وإن كان بحث بيجليا أكثر التصاقًا بالمحلية الأرجنتينية وقضاياها الراهنة.

وداعًا بيجليا

حيث ولد الكاتب الأرجنتيني قرر أن يموت، ورغم أن له بيتًا في الولايات المتحدة، وحياة مستقرة منذ سنوات، إلا أنه اختار أن يودّع العالم من بيت بـ أدروجيه، بعد شهرين من احتفاله بيوم ميلاده الخامس والسبعين. وكسلوى لقرائه، ترك بيجليا عددًا من المخطوطات المراجعة لتصدر في الشهور القادمة، ستحمل بصمات الموت وأسئلته، إذ كان هاجسه في سنواته الأخيرة، كما ستحمل رؤيته الكلية للعالم من أقصى حوافه بعدًا: الحافة القريبة من النهاية.

مقتطف من "أبيض ليلي":

حين جاء إلى هنا وتعرف إلى صعلوك سري في "بيلا" ورأى مشاًة ينتعلون البُلَغ بالقماش وديكة قزمة تخلّف وراءها آثارًا في الرمال، بدأ يضحك ويقول إن الحياة لم تكن كذلك في بلده. لكنه في النهاية تحمّس بشجاعة انتحارية لرجل كان يستخدم قفازات كملاكم أعسر بوزن الريشة، يستخدم يديه ليضرب جسدًا بجسد، بسرعة، ضربات مميتة، بلا رحمة، بهدف قتل المنافس، تدميره، القضاء عليه، عند مشاهدة ذلك بدأ دوران يراهن ويتحمس للمصارعة، كأنه واحد منا(one of us.. لنقولها بنفس اللفظ الذي كان يستخدمه توني).

- لكنه لم يكن واحدًا منا، كان مختلفًا رغم أنهم لم يقتلوه لهذا السبب، وإنما لأنه كان يشبه من كنا نتخيل أنه بالضرورة مثلهم- قال المحقق، غامضًا كعادته وكعادته صعب الفهم-. كان ظريفًا- أضاف ونظر إلى الحقل-، أنا كنت أحبه- قال المحقق وبقي مسمرًا في الأرض، بالقرب من النافذة، وبظهر ملتصق بالحديد وغارقًا في أفكاره.

آخر النهار، وفي بار بلازا أوتيل، اعتاد دوران أن يحكي أجزاء من طفولته في ترينتون، عن محطة البنزين التي كانت تمتلكها العائلة بجانب Route One، وعن أبيه الذي كان يستيقظ مضطرًا عند الفجر لبيع البنزين لسيارة قد ضلت طريقها وظلت تطلق زمارتها ممزوجة بقهقهات وموسيقى الجاز تصدح من الراديو، وتوني يتطلع من النافذة نصف نائم، يشاهد السيارات السريعة الفارهة وبداخلها البيضاوات المبتهجات في المقعد الخلفي، بمعاطفهن الفرو. كان مشهدًا مضيئًا في منتصف الليل يلتبس معه- في الذاكرة- مع أجزاء من فيلم أبيض وأسود. كانت الصور سرية وشخصية ولم تكن تنتمي لأحد. ولا حتى كان يتذكر إن كانت تلك الذكريات تخصه، نفس الشيء كان يحدث أحياناً لكروثي في حياته

-أنا من هنا- قال المحقق فجأة كأنه استيقظ للتو- وأعرف جيدًا جسم القط ولم أر أبدًا قطًا بخمسة أرجل، غير أني أستطيع أن أتخيل جيدًا حياة هذا الصبي. يبدو أنه جاء من جانب آخر- قال كروثي مضطربًا-، لكن ما من جانب آخر.- نظر إلى مساعده، الشاب المحقق سالدياس الذي كان يتبعه في كل الجوانب ويوافق على خلاصاته-. ما من جانب آخر، كلنا في نفس الحقيبة.

كان دوران أنيقًا وطموحًا، وكان راقصًا ماهرًا في الصالات الدومينيكية بمنهاتن، لذلك دخل في منتصف السبعينيات مع بلوغه العشرين كمحفّز في مقهى بلوسا دانسينج، وهو مقهى رقص بشارع 122 إست. وصعد سريعًا لأنه كان سريعًا، لأنه كان مسليًا، ولأنه كان جاهزًا ومخلصًا على الدوام. بدأ بعد قليل في العمل في كازينوهات لونغ آيلاند وأتلانتك سيتي.

كل من كان في القرية يتذكّر الدهشة التي أثارتها فيهم الحكايات التي كان يرويها عن حياته بصوت خفيض في بار بلازا أوتيل، كأنها سره الخاص، بينما يشرب الجِن- تونيك ويمز بالفول السوداني. ما من أحد على يقين من أن هذه الحكايات كانت حقيقية، لكن أحدًا لم يهتم بهذه التفصيلة، فكانوا يسمعونه ممتنين لصراحته مع أبناء الضواحي الذين كانوا يعيشون في نفس المكان الذي ولد فيه هو وأبواه وأجداده ولم يكونوا يعرفون طريقة حياة أمثال دوران إلا في المسلسل البوليسي تيلي سافالاس، الذي كانوا يشاهدونه مساء السبت في التلفزيون. ولم يكن يفهم لماذا يريدون الاستماع لقصة حياته، التي تشبه قصة حياة أي أحد، كما كان يقول. "ما من اختلافات كثيرة لو تحدثنا عن الثراء- كان يقول دوران-، الاختلاف الوحيد في الأعداء".

اخر الأخبار