قرأت لك من بلد المليون الشهيد.. كتاب" ابن سيدة اللغوي ومصادره في المحكم والمخصص وشرح مشكل شعر المتنبي"

تابعنا على:   21:39 2017-01-23

الأستاذ الدكتور/ صادق عبدالله أبوسليمان

 مدخل:

أسعدَني أنْ أقدمَ من فلسطين لهذا الكتاب القيِّم الذي ألّفه الأستاذ الدكتور/ عبد القادر سلّامي أستاذ اللسانيات في جامعة تلمسان في الجزائر" بلد المليون الشهيد". وأحب أن أنوه في البداية أنه لم يجمعْني بصاحب الكتاب لِقاء، وإنّما جمعَنا قاسِمٌ علميٌّ مشترَكٌ هو" علم اللسانيات" " Linguistics "، ومنهجٌ لُغويٌّ فيه يتخذ من فكر الأسلاف من علماء العربية في الدرس اللغويِّ أو" اللسانيِّ" أو" الألسني" ومنهجهم في التقعيد والقياسِ مصدراً رئيساً في الحفاظ على أنظمةِ لغتنا العربية الفصحى وتنمية متنها لتلبية متطلباتِ ما يَجِدُّ في مجالات العلوم والحضارة الحياة المعاصرةِ السريع تجددها.

لقد أثبت هذا المنهجُ العربيُّ الأصيلُ في تاريخه الطويل قدرتَهُ على الحفاظِ على هويةِ لغتنا العربية الفصحى، ومساراتِ أنظمتِها الصوتيةِ والصرفيةِ والتركيبيةِ المعبّرة عن ألوان حيواتهم المتنوعة، واستمرارِها عنوانَ وَحدةِ الأمةِ العربيةِ في مختلِفِ بقاعِ الأرضِ؛ تعبيراً عن سماتِ ارتقاءِ هذهِ اللغةِ، وانتصارِ الخلَفِ من أهلها في المحافظةِ عليها لساناً فصيحاً، وهويةً مميزةً لعروبتهم؛ وإصرارهِ على بقائها سليمةً قويةً، ومتجددةً ناميةً وفقَ خصائصِ أنظمتها الموروثة إلى أنْ يرث اللهُ الأرضَ وَمَنْ عليها. 

أقول:

وفي ضوء هذه العقيدة اللغوية المتمسكة بتراثها فإننا نأخذ على بعضِ أبناء جلدتنا احتكامَه في دراساتهِ اللغويةِ إلى معاييرَ مستوردةٍ يراها جديدةً، وما درى هؤلاء أنَّها بل أكثرَها قديمٌ في الكتبِ الصفراءِ لم يصلوا إليه، وإنهم إذا ما تعمقوا في الاطلاعِ على دراساتنا التراثيةِ فسنراهم يرون في أكثر ما رأوه جديداً أنه جاء من بضاعتنا التي رجعت إلينا منظّمةً مفيداً تنظيمها، أو مشوهةً في فهمها، أو مثيرةً للشبهات.

وعليه فإنني أقرر- في هذا السياق- أنه بات من الخطأ أن يتوجه بعض دارسينا للحكم على تراثنا اللغوي الذي صمدَ أمامَ كثيرٍ من التشويهِ والتحريف والاتهامِ وَفقَ معاييرِ لغاتٍ أخرى، وعقلياتٍ لا تعي موقع لغةِ الضادِ في فكر أهلها ولاسيما الفكر الديني المرتبط بالقرآن الكريم. وأن الصوابَ الذي أرتئيه يتمثلُ في جعل تراثنا اللغويِّ الذي أثبت جدواه عبر سني القرون الطوال مصدرَ الحكْمِ والتقييم والتقويم. إنَّ هذا الذي أرتئيه ويرتئيه كل منتصرٍ لعروبته وتراثها وفكر أهلها يجب أن يكون الأساس الذي نُغذّي به عقول ناشئتنا، ونعوّدُ ألسنتها عليه؛ بعيداً عن التعصب بإغلاق منافذ التواصل الإنساني المتكافئ بغيرنا؛ فجميع بني البَشَرِ من أصلٍ واحد، أراد الله  أن يعيشوا في كوكبٍ واحدٍ؛ ليعمروه؛ فهو القائل   هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ  من الآية (61) من سورة هود.

وتدبر- عزيزي القارئ- معنى" استعمركم" لترَ أن الزمخشري قال في معجمه أساس البلاغة في مادة( ع. م. ر)" استعمر الله تعالى عباده في الأرض؛ أي طلب منهم العمارة فيها". ولتنظر كيف حوّل دعاة الشر والاغتصاب معناها الإلهي إلى معنى القهر والاستعباد؟!.

وعودٌ إلى المنهج المستقيم منهج" العلم المستطيل" الموروث فسنرى أن هناك مِن أهل اللغة من يرى في مصطلحات قديمة ومفاهيمهما مصطلحات لسانية جديدة، مثل مصطلح" علم اللسان" الذي ذكره أبو نصر الفارابي( 339هـ) في كتابه" إحصاء العلوم". و" علوم اللسان العربي" مصطلح أبي حيان النحوي الأندلسي( ت. 414هـ)، وتابعه فيه عبدالرحمن ابن خلدون( ت. 888هـ) مع توسعٍ في المفهوم، وتسمية علومه في مقدمته أيضاً بـ" العلوم اللسانية".

وكذلك" اللسانيات" هذا المصطلح ذائع الصيت في دلالته الحداثية الآن قديمٌ قد ذكره ابنُ سيدة( ت. 458هـ) في مقدمة معجمه" المحكم والمحيط الأعظم" ضمن العلوم النافعةَ من الديانيات واللسانيات"، ولم يكتف ابن سيدة بهذا، وإنما ذكر في مقدمته لمعجمه" المخصص" وَلَيْسَ هَذا الَّذي نذكرهُ هَهُنا مَقْصوراً على اللِّسان الْعَرَبِيّ فَحسب بل هُوَ حدٌّ شامِلٌ لَهُ ولعلم كل لِسان فَأَرَدْتُ أَنْ أفيد المولَع بِطَلَبِ هَذِه الْحَقائِق هَذا الْفَصْل اللَّطيف وَالْمعْنَى الشريف؛ فَعلم اللِّسان فِي الْجُمْلَة ضَرْبان: أَحدهما- حفظ الْأَلْفاظ الدّالَّة فِي كل لِسان وَمَا يدل عَلَيْهِ لشَيْءٍ شَيْءٍ مِنْها، وَذلِكَ كَقَوْلِنا: طَويل وقصير وعامل وعالم وجاهل. وَالثانِي فِي علم قوانين تِلْكَ الْأَلْفاظ".

هذه إشارات من تراثنا الذي نعتز به، ونرى ضرورة تعميق ثقافةِ ناشئتنا فيه؛ لتتربى على قيمه، وتواصل مسيرته بخطىً لا تبتعد عنه، تهتدي بهديه، وتضيف إليه ما تحتاج اللغة العربية وعلومها إليه.

هذا ما أحببت أن أقدم به لتصديري لكتاب الأستاذ الدكتور/ عبد القادر سُلامي ليدخل القارئ إلى متنه، وهو يدرك قيمة العمل الذي غاص صاحبه في أعماق تراث مضمونه.

نص التصدير كما هو في الكتاب الأصل: ( ص 7- 14)

تصدير

الحمد لله العليِّ العظيم، الرحمن الرحيم الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسول الإنسانيةِ أجمعين بعثه الله هادياً وبشيراً ونذيرا، فَبلّغَ الرسالةَ، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء: ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك.

أما قبل،

 فقد أطلعني الأستاذ سمير منصور على هذا العملِ اللغويِّ الرَّصينِ الذي آثر صاحبه الأستاذ الدكتور/ عبد القادر سلاّمي نشرَهُ وإذاعتَهُ من فلسطين، ولاسيما غزة المحاصَرَة مَنشأ" مكتبةِ سمير منصور" العامرة ومستقرها؛ فأكبرتُ هذا المؤلِّفَ العالمَ الذي لم ألتقه؛ ورأيتُ أنَّ هذا التوجهَ جديرٌ بالاحترامِ والتقدير، وإنْ دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على أن فلسطين ما زالت القضية العربية المحورية المحفورة في عقلِ كلِّ عربيٍّ ومسلمٍ، يَدقُّ نبضُها في قلبِ كلِّ غيورٍ على تراب وطنهِ الكبير وهويتهِ سواء في المشرق أم المغرب.

وليس من شكٍّ في أننا- نحن العربَ والمسلمين- بحاجةٍ اليومَ إلى ما يبعثُ الأملَ في نهوضِ ملكاتِ ذاتِنا الجَمْعِيةِ؛ لتستجليَ فينا ما تميّزَ به ماضينا التليدُ من معانٍ قِيميةٍ تهذّب النفوس، وإنجازاتٍ علميةٍ وفِكريةٍ ومساراتٍ حضاريةٍ راقيةٍ شاركَ فيها عُمومُ القادرين على المشاركة في دولةِ العربِ والمسلمين، وعمَّ نفعُها أهلَ الأرضِ بدونِ حجبٍ أو تمييز؛ لِيسير مَنْ يَهتدي بهديها سُبلَ الهُدى والرشاد،

لقد شعرتُ وأنا أقرأ الكتابَ، وأتفحص لغتَهُ ومنهجَهُ أَنّي أقرأُ ذاتي العربية؛ فلغته لغتي، وهدفُهُ هدفي في أنْ يعيش تراثنا فينا وفي أفلاذِ أكبادنا؛ فأمةٌ بلا ماضٍ ليست بذي حاضرٍ ولا مستقبل، وأنْ تعيشَ" لغتُنا الجميلة" مُعَبِّرةً عن أصولِها الأولى موصولةً بها إلى أنْ يَرِثَ الله الأرضَ وَمَنْ عليها.

إن هذا الكتابَ الذي صنَّفَهُ الأستاذ الدكتور عبد القادر سلامي لَيوجِّهُ رسائلَ كثيرةً تتجمعُ في رسالةِ الوطنِ العربيّ الواحد، وتوقِ أبنائهِ إلى تخطيطٍ ومنهجٍ وفكرٍ وتأليفٍ يُعبِّرُ عن طبيعة هذا الوطن الواحد الموحّد( بفتح الحاء المضعفة وكسرها)، وتآلف عموم أهلهِ أصلاً ولغةً، وهو ما سبق لمتنِ كتابِ" العقد الفريد" لابن عبدِ ربِّهِ الأندلسي أنْ عبَّرَ عنه نتيجةً دراسية؛ فَحقَّ للسانِ الصاحب بن عباد( ت. 385هـ) أنْ ينطقَ كاشفاً عن هذه الحقيقةِ العربيةِ المتجانسةِ فكراً ولساناً وإنتاجا:" هذهِ بِضاعتُنا رُدَّتْ إلينا"، وما كان لِأثرها أنْ يعودَ إلا بعودةِ المُناخِ العربيِّ الإسلاميِّ المفتوحِ الذي غُلّقَتْ مختلِفُ أبوابُ حُدودِهِ في هذه الأيامِ النَّكِدَة.

إنها جملةٌ جامعةٌ حكيمةٌ يمكنُ أنْ تقالَ في كلِّ إنتاجٍ عربيٍّ ينطلق معبِّراً عن روح العربية ولغةِ أَنْفاس أهلِها( )، كما هو الحال عند ابن سيده( ت. 458هـ) والجزولي( ت. 607هـ)، وابن مالك( ت. 672هـ)، و ابن آجروم أبو عبد الله محمد( ت. 723هـ)، وأمير الرَّحّالين المسلمين: ابن بَطوطة محمد بن عبد الله الطَّنْجي( ت. 779هـ)، وابن عصفور الإشبيلي( ت. 1271هـ)، والشنقيطي المدني محمد الأمين بن محمد المختار( 1325-1434هـ )، وعبد العزيز بنعبد الله( 1923- 2012م)، وعبد الهادي التازي( 1921- 2015م)، ومحمد بنشريفة( مواليد 1932م)، ومحمد رشاد الحمزاوي( مواليد 1934م)، وعبد الرحمن بودرع، وعبد القادر سلاّمي، وهلمَّ جَرّا.

وبعد،

فقد جاء هذا الكتابُ ليدرس ثلاثةَ أعمالٍ مغربيةٍ لم يَخرجْ مؤلِّفُها" ابنُ سيده( ت. 458هـ)" عن المنهجِ العربيِّ العامِّ في استقراءِ مُفرداتِ متنِ اللغةِ العربيةِ الفُصحى لشرحِها وتصنيفِها التصنيفَ المعجميَّ الذي أنتجَ فيهَ مُعْجمَيْنِ كبيرين:" المُحْكَم والمحيط الأعظم" سار فيهِ على منهج الخليل بن أحمد الفراهيدي( ت. 175هـ) في ترتيبِ موادِّ مفرداتِ مُعجمِهِ" العين". أما معجمُهُ" المُخَصَّصُ" فهو أولُ معجمٍ مُبوَّبِ شاملٍ في مفرداتِ اللغةِ العربيٍّة، وما يزال المعجمَ اللغويَّ العربيَّ الوحيدَ الجامعَ في منهجه.

أما عن معجم" الإفصاح في فقه اللغة" الذي ظهر في مصرَ الكنانة في العصر الحديث عام 1929م لمؤلفَيهِ حسين يوسف موسى وعبد الفتاح الصعيدي فهو في جملتهِ مختصرٌ لمخصص ابن سيده، مع إضافاتٍ استخلصاها من الكتب والمعجمات القديمة.

أما العمل الثالث الذي اختاره مؤلفُنا فهو كتاب" شرح مشكل شعر المتنبي"؛ ولعلي بالدكتور سلامي حين اختاره مجالاً للشرح وبيان الأسرار والخصائص أراد استكمالَ استجلاء مكوناتِ صورِ اللغةِ ومعانيها في ذهنِ ابن سيده؛ بغيةَ الوصولِ الشاملِ لخصائصِ منهجِهِ في بيانِ المعنى وتوضيحِهِ لغةً نثريةً مفسِّرةً عمادُها العملُ المعجمي، وتجلياً شعريّاً مصدرُهُ لغةُ شعرِ شاعرِ العُروبةِ الأولِ المتنبي.

وعليه فإنَّ تسليطَ أضواء الدرس على هذه الكتب الثلاثة- لَأراه- يلبي متطلباتِ حاجتِنا المعاصرة المُلِحَّةِ في استقراءِ خصائصِنا التراثيةِ التي مكّنت لنفوذِ أسلافِنا العربِ في الأرض، وَبَنَتْ لهم أمجاداً قِيَميةً وفكْريةً وعلميةً وحضاريةً، وانفتاحاً مَكّنَ لكثيرٍ من غيرِ العربِ والمسلمينَ من الانخراطِ في مجتمعِهِم بِنَفْسٍ راضيةٍ مطمئنة، والإسهامِ فيه بلسانٍ عربيٍّ مبين.

وكذلك فإن الوقوفَ عند معجم " المخصص" لَيشكِّلُ تنبيهاً إلى أهميةِ منهجهِ وحاجتنا إليه، ودعوةً صريحةً إلى احتذائِه، وذلك بوضعِ معجماتٍ مُبَوَّبَةٍ عامةٍ، وأخرى خاصةٍ متعددةِ المجالاتِ والأهداف، تضم متونُها- بميزانٍ واحدٍ- مُكوناتِ اللغةِ العربيةِ عبرَ" زَمَكاناتِها" المتنوعة، ويأخذُ بعضُها بعيونِ الاعتبارِ حاجةَ غيرِ الناطقين بالعربيةِ لِمثلِ هذا النوعِ من المعجمات، وعرضِها ميسرةً لهم؛ نشراً لِلُغةِ العروبةِ وقيمِ أهلِها التي يَسعى الأعداءُ وتابعوهم إلى تشويهها، وتجريدِها من مضامينِها الإنسانية.

والحالُ نفسُهُ في الوقوف عند كتابِ" شرح مشكل شعر المتنبي"؛ لِأنّي أري فيه دعوةً إلى ردٍّ جميلٍ لشرحِ شعرنا العربيِّ بإنتاجِ عقولٍ عربيةٍ بعيداً عن الإغراقِ الزائدِ في التحليلِ والتأويلِ والتلبيسِ بما لا يتلاءم وخصائصَ بناءِ أنظمتهِ لغةً وإيقاعا، فما أُنتِجَ من شعرٍ أو نثرٍ فَنيٍّ أو غيرِهما في أيِّ بيئةٍ من بيئاتِ الدنيا فإن أدمغةَ أهلِ بيئتهِ لَهيَ الَأْولى باستخلاصِ ما فيه من عناصرِ المضمون والبيانِ واستجلائها؛ فأهلُ مكةَ- كما يقول المَثَلُ العربي- أدرى بِشِعابها.

على أن هذا الذي أقول لا يعني الانغلاقَ وعدمَ الانفتاح على ما فيه فائدةٌ عند غيرنا لنا. وإذا كان الشيءُ بالشيءِ يُذكَرُ فإنّي أَتوجّهُ إلى علمائنا وأدبائنا ولا سيَّما لغويينا- مجال تخصصنا- لأقول: إن إغراقَ نفرٍ في فقهِ الفكرِ اللغويِّ العالميِّ غربيّاً كانّ أم غيرَه لا نرفضه، بل ندعو إلى الانفتاحِ على الفكرِ العالميِّ في مختلِفِ أصقاعِ المعمورة: غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، والتخصصِ فيه، وبيانِ ما فيهِ كما هُوَ، مع التوضيحِ والبيانِ لنا بإنتاجِنا العربيِّ ما أمكنَ؛ ولكنَّ الذي أحذِّرُ منهُ هنا هو لَيُّ النصِّ، والدخولُ في تحليلاتٍ وتأويلاتٍ ومصطلحاتٍ قد لا يكونُ لنا بها حاجة، أو قدرةٌ على فهمها؛ فليس كلُّ شيءٍ أجنبيٍّ حسناً وصالحاً في غير بيئته. ومع هذا فنحن لا نرفض التعرُّفَ عليه؛ لذا كان قولي:" كما هو"؛ لا أريدُ أنْ أقبلَ أو أقولَ ما قاله بعضُ أجدادنا في يومٍ ما:" كلّ إفرنجي ابْرِنجي"، بل أقول:" لنأخذ منه ما يناسبنا وفيه فائدةٌ لفكرنا وثقافتنا وحاجتنا.

وإذا جاز لي التمثيلُ في هذا المقام فأنا هنا أمَثّلُ بإنتاجِ عالِمٍ أَفنى شبابَهُ في التعمق في دراسته، وعاش في بيئتهِ التي هضمَ لغةَ أهلِها، وتنفّسَ أنفاسَهم، وَتَغذّى بغذائهم حتى بَشِم؛ وابتعدَ عن بيئتهِ الأمِّ حتى بات غريباً بل كالغريبِ عن طباعِ أهلِها وفكرِهم ولسانِهم؛ وهو من قبلُ لم يتعمقْ فيما أنتجوه، ثمَّ يأتي ويأخذُ في عَرْضِ إنتاجٍ اطّلعَ عليهِ غريباً؛ لِيقارنَ بين ما تَعَمَّقَ في دماغهِ منه؛ وآخرَ خَمَدَ وجَمَدَ وَتَعمّقُ سُكونُهُ غَضّاً في دماغهِ، وتقطعت حبائلُ وَصْلِهِ بما جَدَّ فيه؛ فَهنا- بلا ريب- قد نجدُ الخلطَ أو الخطأَ، وتلبيسَ المصطلحِ أو تحريفَهُ بمعنىً غيرِ معناهُ عند المصدر وما إلى ذلك.

إنني أقرأ كتباً وبحوثاً منها ما قَيَّمْتُهُ أو حَكّمتُهُ التحكيمَ العلميَّ الأمينَ فوجدتُ في بعضها خلطاً شديداً، أو غموضاً ناتجاً عن سوء فهم، أو غموضِ أسلوبٍ أو رِكّة. لا أريد أن أخوضَ- هنا- في تفاصيل المشكلة؛ فقدت غدت ظاهرةً منتشرةً استفحلَ خطرُها لغةً ومضموناً ومصطلحاً سيء فهمُهُ؛ فالتعبيرُ عنه، وَتَشَتَّتَ شملُهُ بترادفِ ترجماتِ دوالِّ المصطلَحِ الواحدِ أو خطئِها.

وعلى هذا فإنَّ انصرافَ نفرٍ من دارسينا إلى الانتصارِ لِما استوردَهُ من علمٍ ألسنيٍّ، وَسَعْيَهُ إلى تطبيقِ نظرياتهِ وقواعدَ أنظمةِ لغةِ مصدرهِ إنْ أفادنا في التعرفِ على ما يدورُ حَوْلَنا في هذا السياقِ فإنَّ فَرْضَ تطبيقِ كلِّ ما فيهِ على عربيتِنا لَيّاً وتأويلاً أو سوءَ فهم لَأراهُ ضاراً بلغتنا وهويتنا اللسانية الموحّدة بكسر الحاء وفتحها.

إنَّ الخروجَ من هذه الورطةِ التي تهدد وَحدةَ ثقافتِنا لَأراه في توجهِ جامعاتنا ومراكزِ البحث العلمي في بلادنا إلى عقدِ ندواتٍ دَوريةٍ جادّةٍ أسميها مجالسَ السَمَرِ العلميِّ- بدلاً من كلمة سِمِنار- يتسامرُ فيها علماءُ التخصصِ الواحد، كلٌّ فيها يَعْرِضُ بِضاعتَهُ بحريةٍ تامةٍ؛ ليدورَ التَّسامرُ الموضوعيُّ بين الفريقينِ بروح المحبةِ والأُخوَّةِ، وبعيداً عن التعصب؛ وصولاً إلى تفاهماتٍ ومصطلحاتٍ ومضامينَ تكونُ أكثرَ وُضوحاً، وأقربَ فهماً. أمّا أنْ يُتْرَكَ الحبلُ على الغارب؛ فيبقى الأمرُ رهينةَ اجتهاداتٍ فرديةٍ، أو يَبقى كُلٌّ- دونَ لقاءٍ أو حِوارٍ علميٍّ هادِف- متشبثاً بما عندَهُ محتذياً مضمونَ الشاهد النحوي المتعصِّب طرفاه، القائل ناظمه:( البحر المنسرح)

     نَحنُ بِما عِندَنا، وَأَنتَ بِما       عِندَكَ راضٍ، وَالرَأيُ مُختَلِفُ

فهذا سيؤدي إلى نتائجَ لا تُحْمَدُ عُقباها، وسنجني منها بلبلةً في الفكرِ والمصطلح، الأمرُ الذي سيعود حَتْماً بالضرر على الفريقين: فريق المجددين أو المتنورين أو المستنيرين، وفريق المحافِظين أو التراثيين ما لم يتناقش الفريقانِ النقاشَ الشفهيَّ الموضوعيَّ الهادئَ الذي أدعو إليه، وقد لمستُ فوائدَهُ في مناقشاتي الذاتية وبعض أساتذةِ اللغاتِ ولاسيما اللغة الإنجليزية والعِبْرِيةِ في كليتي.

أقول:

إن الحاجةَ ماسةٌ- في هذا الأَوان وكلِّ أوانٍ- إلى العودةِ إلى تراثِنا لا لِنَجْمُدَ عندهُ بل لِنَنهلَ منه الأصالةَ والتأسيسَ المبنيَّ عليها، ونعرضَ عليه بالروح العلميةِ الأمينةِ مضامينَ هذهِ البضاعةِ الجديدةِ، فنأخذَ منها ما يتناسبُ واحتياجاتِ أَمْنِنا اللغويِّ وعلومِه، ونتعرّفُ على ما لا يناسبنا فيها.

بهذا المنهج- ليس غير- تنجسرُ الفَجَوات، وتتقاربُ المفاهيم، وتتحصلُ الفوائدُ المشتركةُ لِكِلا الفريقين. وسيقفان إنْ تلاقيا اللقاءَ التحاوريَّ الموضوعيَّ على أرضٍ صُلْبَةٍ تعودُ بالنفع عليهما، وعلى طلبتهما بل علينا جميعا؛ وهو منهجٌ صالحٌ لأيِّ أمةٍ تريدُ الحِفاظَ على هُويتِها اللسانيةِ المعبرةِ عنها في كلِّ أحوالِها.

وإذا كان الأمرُ- فيما قد يُظَنّ- أني انصرفتُ عن تقديم كتاب عالمنا الجليل الدكتور عبد القادر سلاّمي فإن ما استطردتُ فيه ما كان إلا إلهاماً استلهمتُهُ من قراءتي لكتابين لمؤلفنا آثر بعروبته ووطنيته نشرَهما في فلسطين: هذا الكتاب الذي جالَ دَرْسُهُ في المضمون المعجميِّ التراثي، وسلّط الأضواءَ على نضجِهِ المبكّر، واستلهمَ صائغُهُ بِعقلٍ عربيٍّ مستنيرٍ جوانبَ مفيدةً من مناهجِ البحث الألسني الحديث، أضاء بها تجلياتِهِ في استقراءِ لغة كتب ابن سيده الثلاثة التي جعلها فيه مجالاً للبحث والشرح والتحليل والنقد. وجاءت صياغته لتراكيبها بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ تجلَّت بسلامةِ الأسلوبِ وتماسكه. أما الكتابُ الآخرُ فهو معجمٌ في لغةِ ثلاثةِ قصائد من ديوان شاعرنا الفلسطيني المعاصر محمود درويش( 1941- 2008م)، وعنوانه:" معجم محمود درويش الشعري: قصائد              ( أبي) و( نشيد للرجال) و( صلاة أخيرة) نماذج"، وهو معجمٌ يَسيرُ وَفْقَ منهجِ صاحبهِ الجامعِ بين القَدامة والحداثة.

إنني أعتزّ بأني قرأتُ هذين المصنفَينِ المغربيَّين اللذين صاغهما عقلٌ عربيٌّ مستنيرٌ؛ أتانا بهما إنجازاً عربياً خالصاً، جاء ناضجاً في متونٍ عربيته، ومستفيداً مما جدَّ في البحثِ الألسني المعاصر، بعيداً عن غموضِ تراكيبَ استعجمت- في الأغلب- دوالُّها ودلالاتها. وهما- كما أرى- مثالٌ صالحٌ لِما أدعو إلى تطبيقه في دراساتنا الألسنيةِ المعاصرة؛ لتجمع بين الأصالةِ والجِدّة، أو إنْ شئت فقل بين القَدامةِ والحَداثةِ الملائمةِ لطبيعتنا وفكرنا.

إنني أدعو إلى الأخذ بهذا المنهجِ التفاعليِّ الهادف، وأدعو إلى زيادة التواصل بين المشرق والمغرب بل فتح حدود التواصل البَنّاء، وأدعو المشرقيين والمغربيين ألا يقفوا في نشر مصنفاتهم ومباحثهم في حدود أقطارهم. وساقَ اللهُ أياماً يعود فيها تَواصلُ بني العروبة إلى عهدِهِ السالف.

والله الموفق والمستعان

  أستاذ اللسانيات والعَروض في جامعة الأزهر- غزة/ فلسطين

  عضو مجامع اللغة العربية( القاهرة- القدس- مكة المكرمة)

 

اخر الأخبار