السيسي.. و"يدُ الله"

تابعنا على:   11:09 2017-02-01

أحمد الدريني

حين سجل اللاعب الأرجنتيني دييجو مارادونا هدفه الأشهر في مرمى المنتخب الإنجليزي في تلك المباراة المثيرة من بطولة كأس العالم 1986 كان الكوكب قد تفسطط لفسطاطين بعدها– كما كان يحلو لأسامة بن لادن وصف الأمور فيما يتعلق بمسألتي الكفر والإيمان!- فسطاط يرى أن الأرجنتيني الماكر سجل الهدف بيده.. وفسطاطٌ يرى أنه الأرجنتيني الفذ سجله برأسه.

ورغم احتساب الحكم للهدف صحيحًا، ورغم فوز الأرجنتين بالمباراة، بل رغم تتويجها بطلا للكأس في تلك الدورة، ظل الجدل حول صحة الهدف قائمًا، عالقًا في سماء ملبدة بالتساؤلات والشكوك، وكأنه أمرٌ من أمور الفلسفة والعقيدة، لا شأنًا من شؤون الكرة والرياضة.

وتحت ملاحقة الصحفيين وضغوط الرأي العام، قال ماردونا إنه سجل الهدف برأسه.

وتمضي الأيام وتتعاقب السنون، ويظل السؤال قائمًا، يردده الصحفيون على مسامع مارادونا في كل محفل.. إلى إن قال إجابته المثيرة للدهشة والداعية للريبة: حسنًا.. لقد سجلته بكثير من رأسي وقليل من يدي!

ويدور الزمان دورته ولم يزل العالم بحاجة إلى إجابة شافية حول الهدف الملغز، رغم انقضاء الغرض من معرفة إذا كان صحيحًا أم لا، فقد فازت الأرجنتين بالكأس وانتهى الأمر.

وفي مرة من مرات تكرار السؤال على لمارادونا، سيقول الثعلب الماكر: حسنًا لقد سجلته بكثير من يدي وقليل من رأسي!

وسيتفجر الجدل مجددًا حول التصريح الذي يأخذ منحى غريبًا في كل مرة يجاوب فيها النجم الاستثنائي الذي سلب ألباب الجماهير بمراوغاته المتقنة ومهاراته الفذة.

وذات يوم، وبينما يتكرر السؤال فوق رأسه كالنذير الهادر في كل موضع يحل فيه، سيقول دييجو مارادونا الإجابة الأغرب مطلقًا: «حسنا.. لقد كانت يدُ الله!»

ومع هذه الإجابة سيتيقن الجميع أن اللاعب سجل الكرة بيده، لكنه تملص حتى اللحظة الأخيرة من الاعتراف بها صراحةً ليقول إنها «يد الله» في تورية ستصبح ذائعة الصيت فيما بعد.

حتى إنك لو بحثت عن «يد الله» باللغة العربية على شبكة الإنترنت ستجد مزيجا من جدالات السلفيين والأشاعرة حول مسألة «يد الله» وتجسيد الذات الإلهية، مع قراءات رياضية (عابرة) لهدف مارادونا وقصته الطويلة.. جنبًا إلى جنب.

ولو بحثت بالإنجليزية سيبدو التعبير مرادفًا لهدف الأرجنتيني المخادع، الذي توارى خلف تعبير بلاغي بديع، ليتهرب– بعد سنين- من الاعتراف بأن الهدف لم يكن إلا بيده.

(2)

يمر شريط طويل يضم مشاهد هذه القصة «الطريفة» و«المثيرة» و«المؤلمة» – على الأقل بالنسبة لي- وأنا أتابع منحنى تصريحات وتعبيرات السيد رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي.

فبادئ ذي بدء..كنا «نور عينيه».. و«تتقطع إيدينا قبل ما تتمد عليكم»../ لقد كان الهدف برأسي.

ثم تحولنا إلى «شبه دولة» / لقد كان الهدف بكثير من رأسي وقليل من يدي..

ثم «محدش قالكم إن إنتم فقرا أوي؟»/ لقد كان الهدف بكثير من يدي وقليل من رأسي..

وأنا الآن، من موقعي مواطنًا مصريًا، أتابع تصريحات رئيس بلادي بكل شغف واهتمام أنتظر اللحظة المرعبة التي سيقول فيها: «لقد كانت يد الله».

أيًا كانت الصياغة الصادمة التي سيختارها الرئيس ليختم بها مسلسل المصارحة التدريجية الآخذ في المكاشفة/ المعايرة المؤلمة، ولو بجملة كاسحة، تعصف ببقية بواقي الأمل في نفوسنا.

(3)

أشار الرئيس السيسي في غير موضع، إلى أنه ينتقي ألفاظه وتعبيراته جيدًا، وأنه يصارح بأمور بعينها في مواقيت بعينها فحسب، وكم تكرر على لسانه تعبير (هقولكم حاجة للمرة الأولى أقولها) في تأكيد إلى إدراك الرجل جيدًا لما يتفوه به.

لذلك، حين قال الرئيس غاضبًا هادرًا: «محدش قالكم إن إنتم فقرا أوي؟» لم أستوعب المشهد، راجعته مرة واثنتين وثلاثة، بينما يستولي على مجامعي إنكارٌ لما أرى.. لابد أنني لم أسمع جيدًا.. لابد أنه يقصد شيئًا آخر.. لابد أنه هناك شيء ما لا أفهمه.

لكن الرئيس كان واضحًا قاطعًا، في واحدة من المرات القلائل التي يخرج فيها رأس الدولة المصرية من عهد مينا نارمر، ليعاير شعبه بحالته، كأنه يلتمس لنفسه بطء الخطى وتعثر النتائج مقارنة بما كان يرجوه، مجافيًا بديهيات السياسة قبل أوليات الذوق.. وهو رجل مشهودٌ له بالأدب والتهذيب والدماثة.

قلت بيني وبين نفسي لعلها المداراة، لعلها التعمية عما يخطط له، لعل لها في نفسه مرد، لعله يراوغ من لا نرى، لعله يناور ويباغت كعادته.. إلى أن خذلتني الـ«لعلات» جميعًا، والغضب يستولي على الرجل فينطِقه بما يبدو أنه مكنونه الحقيقي!

لا أجادل هنا في أهمية المصارحة والمكاشفة بين القيادة والشعب، وفي اطلاع الناس على حقيقة الأوضاع والثروات، بل في هذا المنحى التدريجي المرعب الذي تتجه إليه كلماته، بينما تزكم الأنوف رائحة الخوف من الغد المجهول الذي ينعق حواليه الغربان والبوم دون بادرة أمل تلوح فتداوي من الجراح المفتوحة شيئا.

ولا أجادل في مسألة ثروات مصر وطرق استغلالها المثلى التي تقول كل أدبيات السياسة والاقتصاد إن بلدانًا لم تهبها الطبيعة معشار ما وهبتنا إياه، وقد قامت من نكباتها عفية قوية في وجه الزمن، بالقيادة الرشيدة والإدارة العلمية الواعية.

بل أجادل في هذا الملمح الكئيب الذي يرتسم على جانبي طريق الرجل وهو يتحدث حتى أوشك أن يقول لنا «لقد كانت يد الله»، بصياغته الخاصة التي لا أدري كيف يمكن أن يلطف من خشونتها بعد كل ما قال.

ثم- وهذا هو الأكثر قسوة والأكثر مدعاة للتساؤل- فيما هو مطلوبٌ منا ومطلوبٌ منه بعد المصارحة الأخيرة المرتقبة!

اخر الأخبار