أين مصر؟ سؤال طاردنى فى سوريا

تابعنا على:   10:20 2017-02-05

مصطفى السعيد

فى أى مكان فى سوريا، وبمجرد معرفة أنك مصري، فستجد سؤال «أين مصر»؟ والذى يتكرر بعتاب يخلط بين المحبة العميقة والمرارة الأعمق، ويرى معظم من يطرحون عليك هذا السؤال أن ما حدث للعرب فى العقود الأخيرة لم يكن ليحدث لولا غياب مصر عن الساحتين الإقليمية والدولية، ولولاها ما شن العرب الحروب ضد بعضهم البعض، بعد أن سقطوا فى هوة التبعية، وغابت القيادة التى تستطيع التقدم بمشروع يجمع العرب ليواجهوا تحديات الحاضر والمستقبل.
لم يكن بالإمكان الرد على التساؤل إلا باستعراض الصعوبات التى تتعرض لها مصر، والحرب المعلنة ضدها من الجماعات الإرهابية وداعميها، والحرب الخفية التى تستخدم الضغوط الاقتصادية لإضعاف مصر فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة.
الحقيقة أن مخطط تغييب مصر يرجع إلى جملة من العوامل، وبدأت بضرب المشروع الناصري، الذى تلقى ضربة قوية فى نكسة 1967، تلاه ما حدث فى عهد الرئيس الأسبق أنور السادات من اتباع سياسة الانفتاح الاقتصادي، والتى ترتب عليها تدهور الصناعة المصرية، وظهور شريحة من المهربين والتجار ووكلاء الشركات الأجنبية، التى أصبح من مصلحتها تحويل مصر إلى مجرد سوق للمنتجات الأجنبية.
عقب حرب أكتوبر، والارتفاع المفاجئ والحاد لأسعار النفط، الذى قفز من تحت 3 دولارات للبرميل إلى أكثر من 30 دولارا، وتحولت دول الخليج إلى مركز جذب للعمالة، وتسبب النزوح الكبير والسريع للعمالة المصرية فى عدة تشوهات اقتصادية واجتماعية وسياسية، أولها أن الجزء الأكبر من تروس العملية الإنتاجية يقع فى الخارج، حيث موقع الإنتاج والعمالة، بينما تأتى الفوائض إلى مصر، ويجرى إنفاقها على السلع الاستهلاكية المستوردة عادة، وكان من نتيجتها إنعاش الاستيراد ووكلائه وتجاره، الذين أصبح لهم نفوذ اقتصادى وسياسي، وهذه الشريحة تفتقد لمشروع وطني، بل تعمق ربط الاقتصاد المصرى بالتبعية، وهذه الشريحة غير المنتجة والطفيلية بطبيعتها أنتجت ثقافتها ووسعت هيمنتها، وكانت بؤرة الفساد الكبيرة التى توسعت منذ أواخر السبعينيات وحتى الآن، واستطاعت اختراق أجهزة الدولة ومراكز النفوذ.
كما أن العمالة المصرية فى دول الخليج اعتادت علاقات العمل هناك، التى يتحكم فيها الكفيل، والتى لا يضمنها عقد عمل أو أى نوع من التوازن الذى تضمنه الدولة أو التنظيمات النقابية، بل إن ضمانته الوحيدة هى تجنب غضب الكفيل ومحاولة كسب رضاه بأى شكل، وهو ما ترك بصماته الواضحة على منظومة القيم السائدة فى العمل، بانتقال هذه المنظومة إلى داخل مصر، فأصبح كل صاحب عمل أو مسئول صغير أو كبير يمثل صورة «الكفيل». ومع اعتماد مصر على المساعدات الاقتصادية، من الولايات المتحدة وأوروبا ومراكز التمويل الدولية،والتى استهدفت تخريب القطاعات الإنتاجية فى مصر، تمدد الوهن إلى مختلف المجالات الإنتاجية والخدمية، وضرب جذورها فى التعليم والصحة، لتصبح مصر عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من الاستقلال الاقتصادي، وبالتالى السياسي، ليتحقق هدف تهميش دور مصر فى المنطقة، بل بدأ النفوذ السلفى يتمدد داخلها بفعل الأفكار والتمويل الخارجي، وينخر فى العظام، وينشر أفكار الكراهية والفتنة، ويقطع العلاقة مع العلم والتقدم المعرفى والتقني، ويمزق النسيج الوطنى بأفكار التكفير والجهاد والإرهاب.
هذه بعض الجوانب التى أسهمت بشكل رئيسى فى تراجع دور مصر الإقليمى والدولي، والذى أضر شعوب المنطقة، مثلما أضر الشعب المصري، والذى تجسده الآن انتشار الجماعات الإرهابية والحروب العربية العربية، التى تكاد تأتى على كل موارد ودماء العرب، وتنقلهم إلى خارج التاريخ والجغرافيا.
إن مكانة مصر ليست مجرد شعار يتحقق بإرادة شخصية أو حتى جماعية، وإنما يتحقق بالقضاء على العوامل التى أضعفت الدور المصري، سواء كانت محلية أو إقليمية، وتبدأ بسياسة تنمية شاملة، تستند على القطاعات الإنتاجية، لتحقق قدرا كافيا من استقلال القرار الاقتصادى والسياسي.
استعادة مصر لمكانتها الإقليمية والدولية ليس مستحيلا، خصوصا مع ترنح المشروع الأمريكى فى المنطقة، وقرب هزيمة مخطط «الفوضى الخلاقة» الذى استخدم الجماعات الإرهابية لتمزيق المنطقة وهدمها من الداخل، إن تحقيق هذا الهدف ليس سهلا فى ظل النفوذ القوى لوكلاء الشركات الأجنبية والمستوردين ورجال الأعمال الفاسدين، وهيمنة الفكر السلفى وعلاقات العمل التى تدور حول «الكفيل»، والتى تلقى بظلالها القاتمة على الثقافة السائدة والذوق العام، بدءا من الفن وانتهاء بالعمل السياسي.
لاحت لمصر فرصتان للنهوض، ارتبطتا بالتوازنات الدولية والإقليمية، الأولى فى عهد محمد علي، والثانية فى عهد عبد الناصر، وأعتقد أن العالم مقدم على فترة طويلة من التوازنات الدولية الجديدة، وأن الهيمنة الأمريكية ستتقلص ببزوغ قوى اقتصادية وسياسية وعسكرية جديدة، وأن الفرصة مهيأة لنهضة مصرية جديدة، يمكن الاستفادة منها، إذا ما توافر مشروع للنهوض الوطني، يمكن أن يلتف حوله القطاعات الأعرض من الشعب، صاحبة المصلحة فى النهضة المستقلة، المستندة على تطوير القدرات الإنتاجية، وإعلاء قيم العمل والكفاءة والعلم والعدالة والمواطنة، وبإمكان مثل هذا المشروع أن يلهم الشعوب العربية المتشوقة للخروج من مخاطر الهيمنة ومخططات الفتن والتقسيم.

عن الاهرام

اخر الأخبار