"روبوتات" الإرهاب والقتل ومقاومة تحررية منحازة إلى العقل

تابعنا على:   16:35 2017-02-14

ماجد الشّيخ

ها هو "ذئب منفرد" آخر، يقع في المصيدة، "لتنقذه" القوى الأمنية اللبنانية من موت التشظي المحقق، ولتنقذ العشرات من ضحاياه في ذلك المقهى البيروتي ممن تواجدوا في تلك اللحظات من مساء الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني 2017. إلا أن عملية اسطنبول ليلة رأس السنة، ستبقى أحد أبرز معالم الجرائم الوحشية الناتجة من فقه التوحش، الخاصة بعصابات "مافيا التدين" الذي ينسب نفسه إلى نوع من "الالتزام" المتشدد بـ "طبيعة" و"طبع" تديّن يبيح لمعتنقيه ممن يجري غسل أدمغتهم وتفريغها من أي ماهية لقيم الحياة والإنسانية، وحشوها بفقه التوحش؛ ارتكاب الفظائع والكبائر التكفيرية، من دون أي قيد أخلاقي أو ديني أو إنساني أو قيمي؛ إنه الانفلات الفردي و"الجماعاتي" من قيود الضوابط والمعايير البشرية، فكانت أفعال هذه الفئة الضالة، خليقة بإطلاق تسمية "الذئاب المنفردة" وغير المنفردة عليها، كما في حالة أنظمة الطغيان الاستبدادية، وهي تطمح لتخليد "أبديتها" في مواجهة شعبها، متسلحة بدعم وإسناد وشراكة مثيلاتها من الأنظمة والميليشيات الطائفية وأسلحتها الفتنوية الفتاكة.

وفي المقابل سيبقى الكفاح التحرري على اختلاف أساليبه أكثر التزاما بقيم البشرية والحقوق الإنسانية والوطنية والكونية، لهذا مثلت عملية "شاحنة القدس" وتمثل إحد أبرز معالم النضال الفردي النابع من معاناة بلغت أقصى ما تحتمل، في مواكبة معاناة ونضالات شعب يسومه الاحتلال شتى أصناف العذاب والعنف والعنصرية والتمييز، وكل ما جادت به قرائح النازيين والفاشية الصهيونية.

لهذا ليس بين شاحنتي نيس الفرنسية، وتلك الألمانية في برلين، اللتان قتلتا وجرحتا غيلة وغدرا أكثر من مائة إنسان، أي صلة بشاحنة القدس، هناك قاد الإرهاب اثنان من "ملتزمي" التدين العنفي والتكفيري لقتل أناس أبرياء، وهنا قاد مقاوم فلسطيني شاحنته لقتل من يحتلون أرض وطنه، ويسومون شعبه أقسى وأقصى صنوف العذاب النفسي والجسدي والتهديد الوجودي.

هناك إرهاب إجرامي معاد للبشرية، يفتقد لكل شرعية أو مشروعية، إلا ما يتراءى له من "صوابية" نظرته إلى نفسه، وما تؤمن به من تدين زائف، و"التزام" أكثر التزاما بهذا الزيف، وهنا مقاومة عمادها الدفاع عن الإنسان والأرض وقيم الوطنية الحقة، والأخلاق الإنسانية، المتسامية عن كل ترهات منطق التكفيريين الإرهابي، البعيد كل البعد عن السلوك البشري؛ حتى وهو يتمنطق بالدين ويرطن برطانة فقهاء الظلام، ويسلك مسلكيات فقه التوحش.

بمثل هذا المنطق الذي يحوّل منتسبيه "المبايعين" إلى روبوتات مسيّرة، وبفضله تحولت العديد من بلداننا إلى ساحات لحروب طائفية ومذهبية وإثنية، واستجلبت معها كل أصناف الفتن، واستثارت نزعات ثأرية وانتقامية، استلت من المواضي البعيدة مادة ثاراتها القديمة، وها هي تجددها طلبا للسلطة أو دفاعا عنها، حيث لا علاقة للدين بها من قريب أو من بعيد؛ فلا السلطة دينية، ولا أربابها دينيون، إنما هم يتماهون بالدين، كونه وسيلتهم لنيل شرعية ومشروعية مشكوك فيهما على الدوام.

هذا الظلام الإرهابي الذي يراد له أن يحكمنا، ويحكم كل العالم معنا، ليس خليقا بالحياة، وهو الذي يذهب طواعية نحو العديد من تمثيلات ووقائع وسرديات الموت والانتحار، تلك مهنته وامتهانه الأكبر للحياة البشرية، كما تجسدت للإنسان منذ بدء الخليقة، لذلك دأبت وتدأب الذئاب المنفلتة والضالة، على مطاردة الحياة وأبناء الحياة على امتداد القارات، وهم يحلمون واهمين أن يطفئوا أنوار العالم واستناراته المشهود لها بالتقدم والحداثة، كي يحلّوا ظلمات وجهل القرون، تلك التي تجاوزتها البشرية منذ مئات القرون، ليصنع الناس بإراداتهم الحرة دروب التنوير والعقلانية، وبها أناروا واستناروا، فجعلوا من الحياة أمرا ممكنا رغم إشكالياتها المعقدة، ومن الموت أمرا طبيعيا، لا أمرا مطلوبا أو مرغوبا، ممزوجا بروحية وتجسيدات الانتحار والقتل المجاني والجريمة "المقدسة" باسم الدين، والدين منها ومن القائمين بها براء.

لقد باتت العديد من جرائم القتل "الداعشية" تتم على خلفية كره الحياة، مع أن تقديسها أولى وأوجب واجبات الإنسان المستنير، العاقل والواعي والمدرك، وما تلك العمليات الإجرامية "الداعشية" في بلادنا، كما في بلاد الشرق والغرب، سوى إعلان عن ذلك الكره النابع من متلازمة كره الذات واحتقارها أولا، كونها "الأمّارة بالسوء" وتحض على مسلكيات من الدنس، تستحق الموت والانتحار؛ لهذا يهون القتل الوحشي لدى "الدواعش" للذات وللآخر، حتى ولو لم يكن هناك تلك المبايعة للخليفة المعلن أو ذاك المضمر والمنتظر، فقيمة "الداعشي" في نظرته لنفسه ولغيره لا تساوي "شروى نقير" على ما يذهب المثل العربي الذي يدل دلالة قاطعة على التبخيس وعدم الأهمية، وما يجري لمن أطلق عليهم تسمية "الانغماسيين" والانتحاريين وبالجملة أو بتلك الكثرة الكاثرة، سوى موت الضرورة ومعها حرية هؤلاء في أن يكونوا أحياء، بل هم عبيد عند عبيد من أمثالهم، لا تروق لهم الحياة كما يراد لها أن تكون، وآثروا ويؤثرون الموت والفناء والعدم على الحياة والوجود، وذلك كله على ذمة الخلافة التي لم تقم يوما وفق أي معيار من معايير الخلفاء والأمراء والولاة الجدد، لا سيما وهم يتماهون أو يتساوون بأنظمة استبداد طغيانية "حديثة" و"معاصرة"، تطلب الحياة "الأبدية" للسلطة الزائلة، فيما "الداعشية" المعاصرة تطلب الموت الأبدي في مهمة "مقدسة" لإفناء العالم.

عكس كل هذا الوخم "الداعشي"، تقوم المقاومة وثقافتها الإنسانية الواعية والمدركة لقوانين الصراع مع العدو، على قواعد صارمة وحديدية لحفظ القيم والمعايير الانسانية، في مواجهة عدو ينتهك يوميا ومنذ احتلاله أرض الوطن الفلسطيني التاريخية وقيام كيانه الاستيطاني، تلك القيم والمعايير وكل ما تعارف عليه المجتمع الإنساني من قيم وحقوق للإنسان، وأبرزها الحق في تقرير المصير للشعب أو الشعوب التي تعرضت أوطانها للاحتلال، فكانت تلك الشاحنة أداة لمقاوم أجاد استعمالها كسلاح، يواجه به عدوه، بعقل واع ومدرك لأهمية الحياة، والشهادة في سبيل الحرية للوطن وتحرر المجتمع والشعب، ليس من الاحتلال، بل ومن كل سلطة قاهرة مستبدة، لا تسعى إلا لتأمين مصالحها ومصالح من يشاركها ويستثمر أفعالها في قهر الوطن والمواطن.

وها هنا الفرق واضح وبيّن، بين أوهام "الخلاص" الديني الذي يشتغل عليه إرهاب يضيق ذرعا بالحياة وبأبناء الحياة، ومقاومة تحررية يقوم اشتغالها الأساس على الاحتفاء بالحياة: حياة الناس في مجتمعات وأوطان مهما اختلفت أو تنوعت، فهي تبقى أوطان الناس الأسوياء، لا مقابر لجثث تتشظى، حتى تستحيل فتاتا وبقايا بشر كانوا، وما عادوا يمتون بأي صلة للكينونة؛ وهذا ما يحث عليه منظرو الهيمنة الدينية ومتصدرو سلطتها الاستبدادية، ومنفذو إرهابها الوحشي؛ عبر اشتغالهم على الاستثمار في تغذية مصانع روبوتات الإرهاب المبرمجة والمسيّرة، فيما الواقعية الراشدة والرائدة في اشتغال عقل المقاومة التحررية الهادفة لتحرير الوطن والإنسان، عملت وتعمل على الاستثمار في الإنسان، لجهة حفظ البقاء والحفاظ على الحياة، في إطارات ومجالات أكثر رشدا وحنكة وحكمة وإنسانية، برغم فاشية وإجرام العدو.

اخر الأخبار