"المثقف القلق" ضد "مثقف اليقين" و "مثقف القبيلة"

تابعنا على:   07:39 2017-02-26

خالد الدخيل

لأن النقاش الدائم والمقاربات حول مفهوم المثقف وأنواعه وأدواره كثيرة وعديدة، سأحاول هنا تفادي التكرار وتلخيص بعض من تلك النقاشات بما يخدم الفكرة الأساسية التي أحاول تأملها معكم وهي: المثقف القلق وتحولاته. في التعريف المبتدإي للمثقف ثمة توافق معقول بأن الفرد المنهمك في الهم العام والمشتغل لتحقق صيغة أو مشروع ما إزاء ما يُؤمل بأن يؤول إليه مجتمعه أو بلده أو العالم برمته.

في العصر الحديث، نشأ وتطور المفهوم في سياق بروز «الانتلجنسيا»، أو الطبقة المثقفة والناشطة، في بولندا وروسيا في أواخر القرن الثامن عشر وبعده، إلى أن ازدهر في القرن العشرين. تاريخياً، وفي شكل استرجاعي وسع البعض هذا التعريف ليضم علماء ورجال الدين وتماهى تعريف المثقف مع «الداعية»، باعتبار أن الإثنين سواء حديثاً أو قديماً يسعيان الى الترويج والدعوة لمشروع معين وسط المجتمعات. من المهم أيضاً في التقديم، الإشارة إلى أن تطور وتحول مفهوم المثقف وأدواره في العصر الحديث تأثر كثيراً بالرؤية الماركسية التي تفرق بين الفيلسوف الذي ينظر لفهم العالم والمفكر الذي يهدف إلى تغيير العالم، والمثقف بطبيعة الحال من الصنف الثاني الباحث عن تغيير العالم وليس فهمه فقط.

عوضاً عن سرد وتكرار ما في الأدبيات حول أنواع المثقفين، أفضل تقديم زاوية نظر جديدة نتأملهم من خلالها وتفيدنا في التمهيد لتقديم فكرة «المثقف القلق» التي أحاول عرضها هنا. وتبعاً لزاوية النظر هذه، فإن المثقفين يتوزعون مفهومياً conceptually على طيف عريض يمتد بين حديين: الأول هو «المثقف اليقيني» والثاني المضاد له على الطرف الآخر وهو «المثقف القلق»، وبينهما أنواع وتصنيفات عديدة تبدأ من «مثقف الوضع القائم» وهو الجهة الأقرب إلى «المثقف اليقيني» لكن ليس بالضرورة أن يكون يقينياً، معه سياسياً وأيديولوجياً، وقريباً من الاثنين هناك «مثقف القبيلة» أو المثقف التبريري، وبعيداً من هؤلاء بمسافة، وما زلنا على طيف المثقفين، هناك «المثقف العضوي (الغرامشي)»، وإلى جانبه بمسافة «المثقف الناقد» وإلى يساره الأقصى هناك «المثقف القلق».

شرائح «المثقف اليقيني» ربما هي الأوسع لأنها تضم مثقفي الأيديولوجيات الدنيوية والدينية وأصحاب النظريات الخلاصية المطلقة الذين يقودهم يقين راسخ بأن ما يحملونه من «رؤية» و «مشروع» هو الحل الوحيد والحقيقي ربما ليس فقط لمجتمعاتهم بل وللعالم والإنسانية جمعاء. «اليقين» هنا هو المفهوم المفتاحي لإدراك الجوهر التفكيري والمتسيس لمثقفي اليقين. شريحة «مثقفي اليقين» تمتد في اتجاهات عديدة لتشمل أيضاً مثقفين غير مؤدلجين لكنهم يقينيون لجهة الإيمان الأعمى بما يروجون له أياً ما كانت طبيعته. قريباً من هؤلاء، اليقينيون غير المؤدلجين، يقف «مثقف الوضع القائم» المدافع عن ما هو سائد سواء ثقافياً أو اجتماعياً أو، والأهم، سياسياً. التسويغ الذي يقدمه هذا المثقف يقوم على أسس براغماتية وقد تكون مخلوطة بمصالح ذاتية. الأشد منه اقتراباً للمصلحة الذاتية وتشدداً في الدفاع عن الوضع القائم هو «مثقف القبيلة» الذي لا يرى في الجهة التي ينتمي إليها ويدافع عنها بشراسة، الجماعة، الطائفة، الحزب، النظام السياسي، الدولة، الدين، أي نقص أو شائبة، ويستشرس في الدفاع والتبرير واجتراح المسوغات.

في بدايات الجهة الأخرى للطيف الافتراضي نفسه للمثقفين نجد «المثقف العضوي» والذي اكتسح مثقفي العالم الثالث في حقب التحرر الوطني، وكان قد صك المصطلح والتعريف انطونيو غرامشي المفكر الشيوعي الإيطالي في ثلاثينات القرن الماضي الذي ناضل ضد الفاشية وسجنه موسوليني. «المثقف العضوي» هو الملتحم عضوياً مع المجتمع الخاضع لبطش نظام توتاليتاري قد يكون محلياً وقد يكون خارجياً استعمارياً. وبسبب هذين التعريف والدور أصبح تعريف «المثقف العضوي» هو الأكثر جاذبية، رغم أنه ينطوي على دفاع غير نقدي عن المجتمع أو الجماعة المعنية التي ينخرط المثقف عضوياً فيها. لهذا وتطويراً على «عضوية وغرامشية» هذا المثقف تطور مفهوم «المثقف الناقد» والذي قدم تعريفاً أكثر عمقاً إزاء دور المثقف في مجتمعه وإزاء مصفوفة السلطات التي تواجه الأفراد. «المثقف الناقد» هو الذي يعتمد النقد رؤية لمقاربة المواقف والأنظمة والسياسات، حتى إزاء الشرائح والطبقات والشعوب المضطهدة. مقارباته ابستمولوجية أكثر منها أيديولوجية، وتضامنه مع المظلومين وإن كان قائماً وحاسماً بيد أنه ليس تضامناً أعمى بل مرفقاً ومشروطاً بالنقد أيضاً، ذلك انه «لا تضامن من دون نقد»، كما قال إدوارد سعيد. «المثقف الناقد»، إذاً، ينقد ديكتاتورية السلطات وينقد أيضاً، بتمايز عن «المثقف العضوي»، ديكتاتورية المجتمعات وأنظمتها الثقافية والدينية والاجتماعية.

توسع الفضاء الذي احتله «المثقف الناقد» وأصبح الأكثر شهرة ... وسطوة، بخاصة في حقبة ما بعد نزع الاستعمار وخفوت موقع ودور «المثقف العضوي». متسلحاً بالنقد إزاء كل سلطة، سياسية أم ثقافية، تطورت لدى «المثقف الناقد» ذاته أنماط من «السلطوية الثقافوية» و «أنا عُلْوية» بوعي أم دونه، فقد صار الناقد للجميع وفوق الجميع، وارتقى لمرتبة ما فوق النقد. من هذه النقطة الأخيرة بالضبط، من ينقد «المثقف الناقد»، يأتي تأمل وطرح مفهوم «المثقف القلق»، الذي هو في جوهره التكويني مثقف ناقد لكنه اكتشف خطورة تفاقم سلطة معيارية عليا بين يديه تطلق النقد والأحكام على الآخرين، لكنها لا تخضع للنقد والمساءلة، فأخضع نفسه للنقد والمساءلة.

إذا أعدنا ترتيب الأشياء وتأملنا المثقف العضوي منتقداً ديكتاتورية السلطة التي تُمارس ضد المجتمع، والمثقف الناقد منتقداً ديكتاتورية السلطة وديكتاتوريات المجتمع معاً، فإن المثقف القلق يمتاز بنقدين إضافيين على أقل تقدير: الأول هو نقده ذاته إضافة لنقده ما ينتقده المثقف العضوي والمثقف الناقد، وهو نقد يقوم على التشكك في أحكامه وإعادة النظر فيها، وعدم التردد في تعديل أو تغيير موقفه. الثاني، هو مأسسة نقده في مربع القلق (ولنا أن نقول «القلق الإيجابي») ويشمل قلق الفكرة وقلق الموقع، وهذان القلقان هما جوهر مقارباته. القلق في الفكرة يعني مواصلة توليد أفكار جديدة من الأفكار التي بدت لفترة ما جديدة، لكن جدتها انتهت، حتى لو كانت هذه الأفكار نتاج المثقف المعني ذاته. والقلق في الموقع يعني عدم التكلس والتجمد في نقطة مراقبة استعلائية، تفترض بوعي أم دونه امتلاك الحقيقة وتوزع الأحكام والمواقف إزاء القضايا والأطراف والأفراد. قلق الموقع هو ديمومة الحراك وعدم الوقوع فريسة وهم «الثبات على المبدأ» بل امتلاك القدرة والممارسة على التجاوز الدائم لأية ثوابت أيديولوجية تفقد معناها في ظل التحولات الظرفية.

أين نموضع في ضوء هذا النقاش أصناف المثقفين من ناحية أيديولوجية: مثلاً المثقف القومي، والماركسي، والليبرالي والديني؟ الجواب يكمن في موضعتهم على الطيف ذاته وتبعاً للتصنيف المفاهمي، أي ربما ينطبق وصف «المثقف اليقيني» أو «مثقف القبيلة» أو «المثقف الناقد» أو «المثقف القلق» على أي من هؤلاء. وهكذا فإن كلاً منهم يحمل عملياً صفتين في آن واحد، الأولى تصنفه مفاهميماً والثانية تصنفه أيديولوجياً، فيكون لدينا، مثلاً، مثقف ماركسي يقيني، أو مثقف ماركسي عضوي، أو مثقف ماركسي قلق. وحول هذا الوصف الأخير، القلق، يمكن التأمل في آلية قلق كل صنف من أصناف المثقفين الأيديولوجيين ضمن منظومته المعرفية والأيديولوجية الخاصة به، إن كان مُتصفاً بـ «القلق». وهذا القلق الذي يستفز الأفكار الراكدة ويثور على السائد ويمارس النقد بكل الاتجاهات بما فيها انتقاد الذات وانتقاد الموقع، هو الذي يزيح أتربة التكلس عن بعض الأطروحات الأيديولوجية ويجددها، وبذلك يكون قلقاً ايجابياً ومُنتجاً حتى ولو كان في إطار أيديولوجي مُحدد.

وأين نموضع في ضوء النقاش ذاته، مفاهيمياً وأيديولوجياً صنفاً من «المثقفين» برز في العقدين الماضيين وصار من ذوي التأثير الكبير والشعبية اللافتة وهو «المثقف الشعبوي» أو المثقف المهرج: مثقف الإعلام التلفزيوني. يبدو هذا المثقف نسبياً عصياً على التعريف وعلى تلزيمه مكاناً ما على خط طيف المثقفين. تعريفياً، يمتلك هذا «المثقف» القليل من الثقافة والعمق، لكن الكثير من الدراما والأداء والفرصة الإعلامية لمخاطبة شرائح كبيرة. لديه هوس كبير في جذب التصفيق والمتابعين ولو أدى ذلك إلى ممارسة تهريج يومي من دون ثقافة. «المثقف الشعبوي» في الواقع ليس له مكان محدد في طيف المثقفين لأنه دائم الحركة والتنقل بين المواقف: فهو تارة مثقف يقيني (قد يكون دينياً، أو ماركسياً، أو قومياً، أو محافظاً، أو تابعاً لنظام ما)، وهو مثقف قبيلة تارة أخرى، ومثقف ناقد جزئي، أي ينقد طرفاً من دون أطراف، وهكذا (ولكن ليس بالإمكان أن يكون مثقفاً قلقاً في أي حالة من الحالات).

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار