الثوابت الفلسطينية بين الأمس واليوم

تابعنا على:   03:05 2014-03-04

رمضان عيسى

المتتبع لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية لا ينظر اليها من خلال الأحداث والصدامات العسكرية طول فترة الصراع فقط ، بل ينظر اليها من خلال الشعارات التي رفعت طوال هذا الصراع ليرى كم هي المسارب التي عبرتها هذه الشعارات ونوعية القوى التي تناوبت على رفعها ومدى تشظيها وتشرذمها وتآكلها حتى كادت أن تفقد محتواها الهادف الى تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال في دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة وعاصمتها القدس .

فقد عرفنا الثوابت الوطنية على أنها تعكس طموحات الشعب الفلسطيني في دولة فلسطينية على كامل حدود فلسطين التاريخية مشفوعة بشعار ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة ، ولا اعتراف ولا مفاوضا ولا سلام مع إسرائيل . ولم يسرح خارج السرب السياسي الفلسطيني إلا حزبا واحدا أعلن تأييده منذ البداية لقرار التقسيم الصادر سنة 1947م ، وهو الحزب الشيوعي الفلسطيني لإدراكه أن اضراب سنة 1936م في فلسطين قد أفرز وجود كيانين اقتصاديين منفصلين . ولكن هذا الحزب لم يكن من الوزن والتأثير لتفعيل هذا الشعار وتطبيقه على أرض الواقع .

وبعد هزيمة سنة 1967م بدأت المناورات واختلط الشعار الوطني الفلسطيني واندمج مع الشعار القومي الذي لا يزيد عن ازالة آثار العدوان وحل مشكلة اللاجئين .

ولما فشلت كل المناورات وصلنا الى حرب التحريك وخلق توازن سنة 1973م ، انفصلت بعدها مصر بحل منفرد عادت بموجبها سيناء الى مصر ، كما دخلت سوريا الى نموذج الاتفاقات المنفردة والتي كان نتيجتها اعادة جزء من الجولان لسوريا .

ومنذ ذلك الحين فقد عامت القضية الفلسطينية في بحر التجاذبات العربية القومية ودخلت في مسارات متشعبة ومرت قوى الثورة الفلسطينية في مآزق هادفة لتصفيتها عسكريا في دول الجوار لفلسطين .

ونتيجة للهزات العنيفة التي واجهتها قوى الثورة الفلسطينية والطرد من الأردن وبعدها لبنان ، وبالنظر الى اختلال التوازنات الدولية والعربية ، تحجم الشعار الوطني الفلسطيني في اقامة دولة في الأراضي الي أحتلت سنة 1967م تماشيا مع المبادرة العربية للسلام والتي تنص على أن تعترف الدول العربية باسرائيل مقابل الانسحاب من كامل الأراضي العربية التي أحتلت سنة 1967م واقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية منها وتكون القدس عاصمة لها .

ولكن اسرائيل لم يبدر منها أي استجابة أو اعارة انتباه الى ما يدور عند الآخر ، سواء كان عربيا أو دوليا ، بل الى ما يدور في مخيلة مبرمجي سياسة اسرائيل من الصهاينة ذوي المخططات الاستيطانية .

وفي المقابل ساعدت ظروف عربية ودولية منظمة التحرير الفلسطينية في كسب اعتراف دولي بها كممثلة للشعب الفلسطيني ، وهذا فتح الباب لحشرها ضمن " اتفاقية أوسلو " الذي تكونت بموجبه " سلطة وطنية فلسطينية " والذي دشن موافقة فلسطينية لاتباع سياسة المراحل مما أوقع المفاوض الفلسطيني في اطار تفاوضي تسويفي يشرذم الهدف الوطني ، ويدخله في تفاصيل لا نهاية لها ، مما تولد الاحساس كأننا نحرث البحر ، فمن مأزق غزة أريحا أولا ، الى مناطق – ا ، ب ، ج - والأمن أولا .

أما اسرائيل فكانت تهدف الى شق الشعب الفلسطيني ما بين مؤيد لاتفاقات أوسلو ومعارض ، بل وتوظيف قوى فلسطينية ضد قوى أخرى لخدمة مخططاتها الأمنية .

وغرق المفاوض الفلسطيني في بحر بلا مجداف تتقاذفه أمواج تفاصيل التفاصيل ، الأمنية والاقتصادية والحركية ، دون أن يلمس الشعب مردود فعلي لتحقيق الشعارات الوطنية على الأرض ، وهذا ما فجر انتفاضات متكررة وهجمات اسرائيلية كانت وبالا على الاقتصاد والبنية التحتية وتبع ذلك صراع داخل البيت الفلسطيني وحصار أدخل الشعب الفلسطيني في حالة من ضبابية الهدف والطريق .

لم يبق في أيدي السلطة الفلسطينية وهي مركز التمثيل الفلسطيني غير نصوص من وثائق دولية تقول بعودة اللاجئين واعترافات اسمية بدولة معلقة في الهواء تنتظر قطعة من الأرض لترسو عليها ، دون معرفة متى سيحدث هذا ؟

 والآن ، ما هو الواقع الفلسطيني ، وماذا يجري ، وماذا بقي من الثوابت ؟

 فالملاحظ أن كل النيازك والشُهب والفيضانات والبراكين والأعاصير البشرية قد صبت جام غضبها على اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار في سوريا ولبنان وصولا الى العراق ، فكل صراع مهما كان شكله أو محتواه يجري توجيهه في النهاية ليكون للاجئ الفلسطيني منه نصيب ، دافعا اياه للجوء للمرة العاشرة ، الى أي مكان في العالم ، أما الى فلسطين فلا .

أما في الداخل فيوجد الآن أربعة ملامح تترك أثرها النفسي والعملي على طموحات الشعب وتأملاته في تحقيق اهدافه وهي : " المفاوضات " ، و" الهدنة " ، و" الانقسام " و " الحصار " . وكل هذه الملامح تترك أثرها على الثوابت الفلسطينية ، فكل يوم تتولد مصطلحات ومبتكرات ومسميات سياسية للتحايل على ثوابت الهدف الوطني الفلسطيني والتي تتلخص في " دولة " ، وعودة " لاجئ " . فالثوابت بين مطرقة وسندان تتغير شكلها مع كل جولة مفاوضات .

المفاوضات والتهدئة وجهان لعملة واحدة .

المفاوضان مع الاحتلال بهذا الشكل قد وضع الشعب الفلسطيني في وضع يظهر الضعف يوما بعد يوم وكل يوم نرى سقف الثوابت ينخفض الى أدنى مستوى ونرى أن الحقوق الوطنية تتآكل - من هنا وجب ايقاف مثل هذا المسار التفاوضي الذي يقيد الخيارات . فالمفاوض الفلسطيني وجد نفسه مقيدا بقيود زمنية ، وحسابات مالية أفقدته خيارات العودة لخيار المقاومة .

وأيضا : القول بالهدنة وتوقف الأعمال العدائية ، ماذا يعني هذا ؟ انه يعني الإقرار للمحتل ببقاء احتلاله دون الاحتكاك به ومقاومته ، والدخول في حسابات ردود الأفعال ، وهذا يعني أيضا تقييد يد المقاومة ضد الاحتلال بحجة وجود تهدئة .

من هنا فالمفاوضات والتهدئة وجهان لعملة واحدة تهدف الى تقييد يد المقاومة ضد الاحتلال .

كما أن الحصار والانقسام وجهان لعملة واحدة تهدف الى تشتيت الهدف وتزييف المشاعر الوطنية المخلصة واخراجها من مسارها الوطني الى المسار الغير وطني الذي يشتت التحالف الوطني بين فصائل المقاومة ويضعه في مسار الصراع الداخلي بدل أن يكون مع الاحتلال .

ان اتفاق الاطار الأمريكي الجاري الحديث عنه الآن في جولات من المفاوضات والمعلن عنه أنه يجب أن يتضمن دولة الفلسطينية تقام في القدس الشرقية، يتضمن أيضا تنازلات فلسطينية في قضايا أخرى قد تتصل بتعديل الحدود وموضوع اللاجئين. وستدرج هذه المواضيع وهي الحدود واللاجئين والمستوطنات والمياه في ملاحق للاتفاق على أن تبحثها لجان مشتركة. وأن اتفاق الاطار هذا «لن يكون مرحليا ولا مؤقتا وأنه سيكون اتفاقا نهائيا بين الجانبين». مع العلم أن اتفاق الاطار هذا لا يشمل غزة ، بل سيجري الحاق غزة لاتفاق الاطار بعد أن تتذوق الضفة حلاوته وما جر عليها من نِعم .

والآن ماهي خيارات القيادة الفلسطينية اذا فشل اتفاق الاطار هذا ؟ هناك خطة تُعرف بالخطة «ب» تتضمن انضمام فلسطين إلى الهيئات والمؤسسات الدولية، لكن هذه الخطة تلقى معارضة إسرائيلية وأميركية، وقد ترد عليها إسرائيل بتنفيذ انسحاب أحادي من الضفة الغربية، وهو ما سيضع الفلسطينيين في أزمة سياسية وأمنية ومالية.

والآن وبعد مرور عشرون عاما على بدء المفاوضات ، والممكن أن تستمر لعشرين سنة قادمة ، ماذا سيبقى من الأرض ، وماذا سيبقى من الثوابت ؟

اخر الأخبار