ما يمكن قوله فى هجوم رفح الإرهابى

تابعنا على:   11:42 2017-07-18

خالد عكاشة

يصنَّف الهجوم الإرهابى المسلح الذى وقع بقرية «البرث» جنوب رفح، بكونه عملية إرهابية نوعية، بالنظر إلى أعداد الإرهابيين المنفذين، وقدراتهم التسليحية المستخدمة فى العملية، بجانب المهارة والتدريب على إدارة التنسيق بين تلك الأسلحة واستخدامها بالطريقة الأمثل، التى تستهدف إيقاع أكبر قدر من الخسائر فى صفوف قوات التأمين. يسبق تلك المعطيات، كى يتسق وصف «النوعية» على هذا الهجوم، أنه جاء بغرض الاستيلاء على نقطة عسكرية؛ ليُعد هذا الاستيلاء (المرحلة الأولى) للعملية، حيث كان ملحقاً بها مرحلة تالية أظنها هى الأخطر، وهى التى ستتكفل بالإجابة عن أسئلة المرحلة الأولى للهجوم.

فيما بعد الحملة العسكرية التى تمت على منطقة «جبل الحلال» شهدت قدرات التنظيم الإرهابى انحساراً ملحوظاً، وانخفضت بشدة قدراته على تنفيذ عمليات إرهابية مؤثرة؛ لتنعم المنطقة بفترة هدوء ملحوظة امتدت لشهور. لم يتجاوز خلال تلك الفترة مجمل الهجمات الإرهابية رقم الـ«15 عملية»، الغالب فيها كان له طابع فردى كإطلاق نيران على أفراد الشرطة، أو زرع عبوة فى طريق إحدى الدوريات الأمنية. البعض من تلك العمليات تم إحباطه مثلما حدث كـ«مرة وحيدة» عندما حاولت سيارة مفخخة اقتحام حاجز أمنى بالعريش، وتمكّن أحد جنود الشرطة من استهدافها بالتسليح الاعتيادى، وانفجرت السيارة بالعنصر المنفذ. هذا المشهد عكس بوضوح الفقر الشديد لإمكانيات التنظيم البشرية والتسليحية، ووصل على أثره العمل العسكرى والأمنى لمحطة نجاح ظاهرة لم تخف عن أعين الجميع، لكن المشهد «تعكّر» فجأة من دون مناسبة عندما تم الإعلان عن مشاركة القبائل فى مكافحة الإرهاب. حيث جاء هذا الإعلان على خلفية حوادث مسلحة جرت ما بين التنظيم الإرهابى ومجموعة من «قبيلة الترابين»، تلك الحوادث عكست حينها خلافاً حول عوائد التهريب إلى قطاع غزة، كتبت عنه فى هذه الزاوية مقالاً بعنوان «ليس أخطر فى سيناء.. من سلاح القبائل وجهاد التبغ». سجلت فى المقال تفاصيل هذا الخلاف وما استتبعه من إعلان قبائلى ألحّ إعلامياً أن يصوره كانتفاضة قبائلية شاملة ضد الإرهاب.

يمكن الرجوع إلى المقال المشار إليه، وهو موجود بموقع الجريدة، وحظى بمتابعة واسعة حينئذ، وتلقيت بسببه «للمرة الأولى» انتقاداً حاداً من قبَل بعض الأبواق الإعلامية السيناوية التى كانت غارقة حينها فى إصدار بيانات الحماسة، فى الوقت الذى استند فيه رفضى المطلق لما كان يجرى لعنصرين رئيسيين، أولهما هشاشة الوضع القبلى وتوازنات النفوذ الاجتماعى والمصالح فيما بينها، وهو الذى ثبتت صحته سريعاً بعد أسابيع من تلك الفورة، ليظل المشهد المروج له قاصراً على «قبيلة الترابين»، فيما شهد غياباً لباقى المكونات الأخرى. والثانى كان بصيغة تساؤل استشرافى مزدوج، عن تلك الصحوة التى برزت حينها فى الوقت الضائع: هل جاءت لسرقة أضواء الانتصار على الإرهاب، بعد الجهد الكبير والتضحيات التى قدمتها «القوات المسلحة» كى تنجح فى الوصول بالمشهد إلى تلك المحطة التى بدا فيها الانتصار الكامل على مسافة أمتار من هذا الإعلان المريب. والأخرى كانت تستفسر عن المسافة التى ستقطعها «قبيلة الترابين» على طريق العداء المفاجئ مع التنظيم الإرهابى، قبل أن تعود أدراجها إلى الانحياز لمعادلة المصالح التى تجنيها من الخدمات المتبادلة مع عناصر التنظيم. وواقع الأحداث التى جرت فيما بعد أجاب وحده أن المسافة المقصودة يبدو أنها لم تطُل، وربما لم تُنتج شيئاً ملموساً على الأرض، سوى مزيد من الاحتقانات القبلية المكتومة والتعقيدات التى لم تكن مبررة بالمطلق.

بالطبع تلك الإشارة السريعة للمشهد القبلى ليست ذكراً لكل ما جرى فيه، ولكنها ملمح واجب طرحه بالعودة إلى الهجوم الذى وقع جنوب «رفح» التى هى، وللمفاجأة، ليست كذلك فى قلب أراض وقرى ونفوذ تام لـ«قبيلة الترابين». هذا ما استلزم الرجوع للمشاهد التى لم يُمر عليها كثيراً، وبالضرورة تفتح تساؤلات النكوص عن تلك المقاومة المزعومة، خاصة مع هذا العدد الكبير من الإرهابيين والسيارات المدججة بالسلاح التى يقيناً لم تهبط من السماء. ليصير التعقيد الذى حذرنا منه فى المقال السابق المشار إليه حاضراً اليوم فى ساحة طرح الأسئلة التى لها علاقة بمن قدّم دعماً لوجيستياً ما، كى يتمكن هذا العدد الضخم من الوصول للنقاط العسكرية المستهدفة، وهى حلقة وجوبية من حلقات تنفيذ العملية لا غنى عنها. ومكمن التعقيد هنا أن التساؤل صار مفتوحاً على اتساع هائل واحتمالات متناقضة ومتضاربة فى آن واحد.

فهل مَن تورط فى تقديم هذا الدعم من «الترابين»، حيث يُعد ارتداداً عما أعلنوه من الانحياز لقوات الجيش والأمن، بعد أن وجدوا أن المصالح مع التنظيم تدر ربحاً ونفوذاً أغلى ثمناً من هذا الانحياز المؤقت؟ أم أن المتورط من «الترابين» فعلاً لكنه جناح داخل القبيلة قام به بقصد ضرب هذا الانحياز المستجد، الذى فُرض من بعض الشخصيات المعلومة بالاسم، وتم جر باقى القبيلة إليه، مما تسبب فى الإضرار بمصالحها؟ وعليه قام بذلك، خاصة أن العملية تمت على أرضهم وبين ظهرانيهم، وهم الأقدر على هذا التلاعب. كلا الاحتمالين قائم بذات النسبة، لكن من تعقيد الواقع أنهما ليسا وحدهما، بل تتشارك معهما احتمالية قيام قبيلة أخرى بهذا التورط متعمدة تنفيذه على أرض «الترابين»، فالحدود ما بين نفوذ القبائل على الأرض غائمة وسائلة بالقدر الذى يمكن معه التخطيط لضرب مكاسب ونفوذ «الترابين» مع سلطات الدولة، بالأخص عندما تكون الأحداث قد استبعدت هذا الطرف الآخر الذى وجد نفسه «مهمشاً» من الطرفين. وليس بالضرورة أن يكون هذا الآخر قرار «قبيلة» كاملة، فيكفى البعض منهم أن يجلس بعيداً يرقب «الغبن» الذى وقع عليه وعلى عشيرته، ليتقدم مستهدفاً نقض هذا الغزل.

وتظل الأسئلة مفتوحة، طالما لم يتقدم أحد للإجابة، حيث يتخبّط الرأى العام خارج سيناء فى انتظارها؛ ما بين اتهام شامل للجميع هناك بالمساعدة والعمل لصالح استمرار الإرهاب المسلح، وهذا تقدير فادح لا يمس الحقيقة. وبين منصرف الذهن عن المعركة الشرسة، لافتقاره إلى الإلمام بالبيئة المعلوماتية الغائبة، وهذا قصور فى المشهد، آن أوان تداركه سريعاً.

المعلومات الشحيحة التى خرجت عن الهجوم الإرهابى، أشار معظمها إلى واقعة تسلل تمت لنقل العناصر الإرهابية وتجهيزاتهم إلى داخل سيناء، والإشارة ذاتها كانت تُحدد وجهة القدوم بالجانب الآخر فى قطاع غزة. والقطاع لا يدخل بتلك القوة على خط تنفيذ عمليات بهذا المستوى، إلا بتكليفات مباشرة ومحدّدة بتفاصيلها حتى يمكن السماح بعبور هذا الكم البشرى والتقنى. فعادة دعم القطاع للنشاط الإرهابى فى سيناء، أنه كان يتم بصورة غير مباشرة وخلف الكثير من السواتر المموهة. فى تواريخ سابقة ومحطات بعينها ربما ظهر مثل ما كان فى الهجوم الأخير، وعادة ما تكون هناك ظلال سياسية تقبع فى خلفية تدخلات ودعم «نوعى» مثل المشار إليه.

بالتفتيش فى تلك الظلال هذه المرة، لا يوجد أبرز من الموقف المصرى فى إعلان مقاطعة قطر واتهامها صراحة بدعم الإرهاب، وبدء خطوات التضييق عليها وملاحقتها إقليمياً ودولياً مع شركاء مصر فى هذا القرار. امتداد تلك المعادلة يضع قطر فى محل اتهام منطقى بتحريك أذرعها الإرهابية للرد على هذا الموقف السياسى الكاشف، الذى وضعها فى موقع عزلة ضاغطة، ولن تكون الرغبة القطرية بعيدة عن محاولة صناعة فاتورة باهظة تصدرها إلى الطرف الآخر. وعبر الأذرع التى هى بالأساس متهمة بدعمها يمكنها الوصول إلى مشهد مثل ما تم بـ«هجوم رفح» الإرهابى، الذى استتبعته مجموعة هجمات أخرى «متوقعة»، بأذرع أخرى، لكنها مكلفة بصياغة المشهد ذاته ومكون إضافى لتلك الفاتورة. وقطر فعلياً تملك مفاتيح استخباراتية ومالية بقطاع غزة، تقدر حتى الآن بأنها تفوق أى مستجدات متبادلة ما بين قيادات حماس والسلطات المصرية، فالأمر ليس وليد اليوم، بل تم إنفاق الوقت والأموال لضمان جاهزيته عند الطلب، وقد جاءت المحطة التى حان فيها أوان سداد بعض المواقف لصالح «حلف الإرهاب» القطرى.

ضباط الاستخبارات التركية الموجودون بقطاع غزة منذ عام 2010م، لم يغادروها، والسفير القطرى محمد العمادى، رئيس اللجنة القطرية لإعمار غزة، هم الشخصيات التى بنت منذ هذا التاريخ نفوذاً هائلاً داخل القطاع، وصل إلى حد انتزاع القرار الحمساوى بالكامل تقريباً، ومعه تم إعادة تشكيل منظومة ما كان يُسمى سابقاً بـ«المقاومة الفلسطينية» على المقاس الإسرائيلى، وضبطت على تردد العمل لخدمة المصالح التركية - القطرية بالمنطقة. لذلك جاء على سبيل المثال خروج قيادات مكتبهم السياسى المهين من سوريا، عقب خذلانهم المفاجئ للرئيس السورى بعد سنوات من احتضانهم ودعم دمشق غير المحدود لهم، تم التضحية بذلك فى لحظات لم تتجاوز دقائق بعد لقاء بشار الأسد وخالد مشعل، الذى سبقه قرار تركى - قطرى بمغادرة حماس لسوريا فى فصول مأساتها الأولى، وحظر تورط عناصر حماس وتشكيلاتها بالمخيمات هناك فى تقديم أى نوع من الخدمات لنظام «بشار». فقد كانت المحرقة السورية تتجهّز حينها وتركيا وقطر قد اتخذتا أماكنهما فى صدارة الفاعلين الرئيسيين.

العالم بتفاصيل وبواطن المشهد السابق، لن يصيبه اندهاش أو ارتباك من أى نوع وهو يتابع قراراً مماثلاً اتخذ من كليهما أيضاً، تمثل فى قيام قطاع غزة بالدعم والإشراف على النشاط المسلح الموجّه إلى سيناء، كاستنزاف لمكون «ثورة يونيو» وما أنتجته؛ فى الوقت الذى لم يضمر أحد لمصر حينها عداوة استراتيجية بأشد من تركيا وقطر صاحبى مشروع الإخوان و«الإسلام السياسى». وعبر تلك اللافتات ظلت تجوب التظاهرات شوارع غزة مؤيدة للإخوان المصريين وقادتهم تحت ضوء الشمس، وفى ظلمات سراديب وغرف الأنفاق السرية تحت أرض القطاع، كانت اجتماعات الإدارة والمتابعة الاستخبارية تتم ما بين تركيا وقطر وقيادات كتائب القسام. ظل هذا المشهد يُدار بتلك الآلية طوال سنوات 2013 و2014 و2015، حتى بدأ الجيش المصرى يكسر إمكانات وأذرع الدعم الهائل الذى تم تقديمه للتنظيم المسلح فى سيناء، وبدأ حصاد ما يمكن وصفه بانتصارات تشكلت ملامحها على الأرض، ودفع فيها الوطن فاتورة دماء غالية من شهدائنا ومصابينا ووجع لم يندمل بعد فى نفوس الكثيرين.

ونحن فى منتصف عام 2017، ونتحدث عن عملية كبيرة بحجم «هجوم رفح» الإرهابى، نجدنا أمام عدة أجنحة داخل القطاع لن يخرج التورط عن أحدها؛ منها الجناح الأكثر اقتراباً والتصاقاً بالمشروع الإخوانى، وهو ما زال يضمر كراهية عميقة لمصر تؤهله لتقديم خدمات فورية لقطر، بغض النظر عن أى تداعيات محتملة، منها ضرب أى تقارب أو ترميم للعلاقات ما بين حماس والقاهرة وهو هدف ثمين فى حد ذاته. وهناك أيضاً الجناح الإيرانى بالقطاع وهم الأكثر تشدداً؛ ويحملون قلقاً مماثلاً للصياغات الجديدة ما بين قادة حماس الجدد والمسئولين المصريين، ويمتلك هذا الجناح الجاهزية، فضلاً عن الدوافع التى قد تؤهله للانخراط فى عملية ستلقى بظلالها ليس فقط على التقارب بين جانبى الشريط الحدودى، بل ستمتد إلى ضرب التقاربات الإقليمية المتشكلة حديثاً، وهذا هدف إيرانى خالص يصطف كما هو ظاهر مع قطر وتركيا، بالصورة التى تماثل الواقع اليوم على ضفاف الخليج بالدوحة فى ما بعد المقاطعة العربية.

عن الوطن المصرية

اخر الأخبار