قلب الظلام الجديد..!

تابعنا على:   11:54 2017-08-13

علاء الدين أبو زينة

لا يستطيع الذي يقرأ روايتي عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط"، و"شرق المتوسط مرة أخرى" أن يخرج بسهولة من الألم الذي تصنعانه فيه. وسيكفي مجرد تخيُّل ما يعانيه السجين السياسي من العذاب في معتقلات أنظمة المنطقة لتضييق الروح وتجريد الهواء من الأكسجين. ومع ذلك، صورت هاتان الروايتان تجربة شريحة صغيرة فقط من المواطنين العرب في العقود السابقة، هم الناشطون في الأحزاب والحركات المحظورة. وكان الذين يعرفون عن محنتهم غالباً هم العائلة والأصدقاء الأقربون، بينما تواطأت المؤسسة الاجتماعية السائدة المتعصبة ضدهم أيضاً، باعتبارهم مصدراً لمتاعب العائلة أو متمردين على الأعراف.
لكن معظم مواطني المنطقة العربية أصبحوا الآن ضحايا لتبعات سوء عمل الأنظمة. فإذا لم يكن الناس معتقلين في سجن حقيقي لدى اللاعبين الكثر من غير الدول –التنظيمات الإرهابية- فإنهم سجناء لضيق الدنيا، وانغلاق الآفاق، وتهديد الرزق، والخوف من الإرهاب، ورقابة الدول، وإقفال الحدود، وعنف مواطنيهم. وإذا خرج أحدٌ من شرق المتوسط كرهاً أُغلقت في وجهه الحدود. وإذا أراد المغادرة ضيقاً وبحثاً عن الهواء، سبقته سُمعة المنطقة كموطن للعنف والإرهاب، وجعلته مشبوهاً وغير مُرحَّب به.
كل هذا شرحته دراسة استقصائية صدرت حديثاً عن معهد القياسيات الصحية والتقييم التابع لجامعة واشنطن، والتي بيّنت الآثار الكارثية التي أنتجتها الصراعات في الشرق الأوسط. وأظهرت الدراسة أن "الحرب والعنف" هما السببان الرئيسيان لوفاة الأفراد في خمس دول على الأقل، هي أفغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن. وكشف التقرير أن معدلات الانتحار في منطقة الشرق الأوسط تضاعفت في العام 2015 عما كان عليه في العام 1990. وفي مقابل الانخفاض الكبير في آثار الأمراض المعدية والكوارث على السكان، جاء الارتفاع في حالات إلحاق الأذى بالنفس، والتضرر من العنف والاعتداءات الجنسية والأمراض العقلية ليعوض عن هذا الانخفاض.
وكما وجدت الدراسة، فإن هناك –إلى جانب ارتفاع الإصابة بمرض الإيدز بنسبة 943 في المائة خلال 25 عاماً، فإن هناك زيادة كبيرة في الأمراض غير السارية في الشرق الأوسط، مثل الاضطراب ثنائي القطب، والفصام، والإصابة بالاكتئاب والقلق. وبالإضافة إلى شدة خطورة الأمراض العقلية في ليبيا والسودان واليمن بشكل خاص، هناك التفاوت الهائل في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين الدول العربية، والنسب المرتفعة لانعدام الأمن الغذائي في بعضها.
يقول الدكتور علي مقدار، مدير مبادرة الشرق الأوسط  في المعهد المذكور، في تعليقه على نتائج الدراسة، إن "العنف المستعصي والمستوطن في المنطقة يخلق جيلاً ضائعا من الأطفال والشباب". ويضيف أن "مستقبل الشرق الأوسط سيكون قاتماً ما لم نتمكن من إيجاد وسيلة لتحقيق الاستقرار في المنطقة". وحسب الاتجاهات الحالية، لا يبدو أن هناك أفقاً منظوراً لجلب الاستقرار إلى الأماكن الكثيرة التي تشهد الحروب أو تعاني من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة.
باختصار، يعني الاتجاه الصاعد في حالات القتل والانتحار والاغتصاب والعنف، كما أظهرت الدراسة، أن شرق المتوسط أصبح الآن "قلب الظلام" الجديد في العالم، باقتباس وصف الروائي جوزيف كونراد لأحوال الكونغو تحت الاستعمار الأوروبي في بدايات القرن الماضي. وفي الحقيقة، لا يحتاج مواطنو المنطقة إلى دراسات لكي يشعروا بوطأة آثار العنف والأزمات الاقتصادية والعداوات الطائفية والقطرية والإقليمية على أحوالهم ونفسياتهم وعيشهم اليومي. ويعني ارتباط هذه المظاهر القاتمة بثورات "الربيع العربي" في العام 2011 توجيه ضربة شديدة لأحلام أُمة بكاملها وإفقادها التوازن، مجموعة وأفراداً.
كما هو معروف، لم تنجُ الدول التي لم تطلها الحروب مباشرة من اختبار الآثار الحتمية لأزمة المنطقة، وانعكاس الحالة العامة على سلوك مجتمعاتها. ولا تخطئ العين مظاهر التوتر الاجتماعي الذي يعبر عن نفسه في زيادة الانتحار والقتل والاعتداء الجنسي والجريمة في معظم الأماكن. لكن هذه الاتجاهات المقلقة للغاية لا تبدو كافية لإقناع جهات اتخاذ القرار وتوجيه السياسات بضرورة الارتقاء إلى مستوى مخاطبة التحديات بأي طرق خلّاقة. وعلى الأغلب، تكشف معظم التحركات الرئيسة والمحلية في المنطقة عن ارتباك يفضي فقط إلى تعميق الاستقطاب وتوتير المواطنين.
ربما أمكن الخروج من أجواء "شرق المتوسط" في روايات منيف، بتغيير الجو أو التناسي، لكن الخروج مستحيل من قلب الظلام في شرق المتوسط الحالي غير الروائي، الذي بلا نوافذ!

عن الغد الأردنية

اخر الأخبار