البحث عن حياة بيضاء "قصة قصيرة" محمد جبر الريفي

تابعنا على:   01:55 2017-08-17

عندما حان موعد الزيارة ارتدى أجمل ملابسه وكان على وجهه علامات القلق والارتباك، كأنه مقدم على اختبار ولكن لا يعرف كيف سيكون انطباع الأسرة التي سيركب السيارة ويذهب إليها، عامان من الانتظار وأخيراً أتى دور ذلك البيت الذي كان ينظر إليه من قريب كلما مر من ذلك الطريق الموصل إلى سوق المدينة.. كانت عيناه العميقتان تحدق في المرآة وكانت مخيلته أبعد من تلك النظرات، تصور وهو يصفف شعره أمامها بأنه يسمع بضع زغاريد تنطلق وأكف ناعمة تصفق وأبواق سيارات تتلاحق وأصوات لآلات موسيقية تصدح وأهازيج فرحه تتردد أمام البيت فابتسم، ارتسم على وجهه فرحة الأطفال ثم استدار نحو شقيقته الكبرى فخرية وقال: لم أعرف رأيك في هذه الزيارة؟

فقالت بعتاب: ومنذ متى كنت تهتم برأيي؟ فسألها بلهجة ناعمة: طيب ما رأيك هذه المرة؟ ماذا تقول له؟ أتقول له لقد كبرت؟ فمنذ عامين وهي من بيت إلى بيت وهي تبحث عن زوجة له وقد ملت من هذه المهمة التي كان يمكن أن تقوم بها أمه التي رحلت عن الدنيا وهو يقضي سنوات الأسر في السجن أخيراً قالت له: علينا ألا نتأخر عن الموعد.. في الخارج كان الجو بارداً لكنه شعر بدفء يسري في أوصاله كأنه مازال جالساً في الغرفة ومتحلقاً حول المدفأة التي تسخن الجدران، السيارة تسير بسرعة عادية يبقى ساهماً، يتأمل من مشاهد الطريق يبحث في وجوه المارة في شوارع المدينة ماذا لو عرفوا أنه يبحث منذ عامين أو أكثر؟، تذكر كلماته لفخرية، يومها قال: إنه تأمل قوامها عندما كانت تمر من هذا الشارع، يقول ذلك وفي كلامه لهفة كأنه عثر على شيء ضائع.. كانت لطيفة التي رآها في الطريق قد أعادته إلى مرحلة مبكرة من العمر، يوم كان شاباً صغيراً يدندن مثل كل الشباب في تلك الأيام بأغاني عبد الحليم ينتظر مرور فهيمه في الشارع ويتأمل قوامها فقط دون أن يقول شيئاً حتى لا يصغر في نظرها، لقد كان بمستطاعه بعد ذلك أن يخطبها لولا اعتقاله... حين وقفت السيارة أمام بيت الحاج صالح ظهر على وجهه سمات القلق، تذكر أنه قارب سن الأربعين من العمر وأن وجهه وشاربيه يبدو عليهما بصمات الزمن، في اللحظات الأولى للزيارة كان صامتاً، يمد بصره في نواحي الغرفة هنا وهناك فيرى صورة كبيرة للحاج صالح معلقة على الجدار، كان يظهر فيها بوضوح ملامح وجهه القاسية، أحس بقلبه يهوي وبساقيه يرتخيان وبجانب هذه الصورة كانت صورة أخرى لصابر رأى في عينيه إصرار وثقة، ظل جسد الحاج صالح مرتخياً على المقعد، دخلت لطيفة فتدفق من الباب هواء بارد، كانت تحمل بين يديها صينية مليئة بفناجين القهوة، تناول فنجان القهوة من بين يديها الناعمتين وحين اختارت لنفسها مكاناً لتجلس فيه بدا قوامها الممشوق ووجهها الأبيض وشعرها الطويل المنسدل حتي نهاية الكتفين ..قالت فخرية بتأثر لزوجة الحاج صالح التي نظرت اليها هذه الأخيره بعد ان رحبت بها بلهجة ودودة لتقول ما عندها من كلام : نعم أخي اشرف قد اضاع عمره في اسر الاحتلال, عشرون عاماً من حياة سوداء قضاها في سجن عسقلان.. كان في كلمات فخرية كلمات حزن فتأمل الحاج صالح بعد ان جلس ثانيه في مكانه وجه اشرف , شعر بالاشفاق عليه ثم اخذ يفكر بعد ذلك بابنه صابر الذي مازال يقضي هو الاخر سنوات الاسر في سجن عوفر واخذ يسأل نفسه : باي هيئة سوف يعود الينا صابر بعد ان يقضي محكوميته ؟

لحظات يسودها الصمت ولكن علي اشرف ان يتحدث , ان يقول أي شيء والي متي ستظل شقيقته فخرية تتحدث عنه , لماذا لا يقول انه قرر بصدق ان يتزوج هذه المرة وان الفتاة التي وقع عليها الاختيار تجلس الان قبالته في الغرفة , اما الفتاة التي احبها في زمن الثانوية حين كان في ريعان الشباب فقد تزوجت منذ زمن بعيد .. رغم القلق فقد احس بالراحة فقد ايقظته تلك الافكار من حالة الصمت فقد صار بامكلانه ان يتكلم عن نفسه , ان يقول صراحة انه يريد لطيفة زوجة تشاركه حياته الصعبة , بعد ان قال ذلك وهو لايريد ان يقول اكثر من ذلك , وبعد صمت قليل سألت زوجة الحاج صالح :

اصحيح ما يقول عنك الناس ؟

-ماذا يقولون؟

-يقولون انك تبحث منذ عامين وفسخت الخطبة مرتين !

فنظر اليها اشرف بشئ من الضيق علي الرغم من انه يعرف ان ما تقوله ام صابر هو الصحيح ولكن كيف يرد علي مثل هذا السؤال؟ ايكتفي بلحظة صمت ليفسح لشقيقته فخرية ان تقول شيئاً ؟ كانت فخرية هي الاخري قد تفاجأت بما قالته ام صابر واحست بان نبرتها في السؤال تحمل شيئاً من الاتهام وعدم الرضا علي سيرة اخيها اشرف وقالت وهي مقتنعة بطباع وشخصية اخيها : مالنا وما يقول الناس .. المهم ياام صابر ماذا تقولون انتم ؟! عند ذلك ثبت اشرف عينيه في عيني الحاج صالح .. نعم يريده ان يقول رأيه وألا يكتفي بكلمات الترحيب القليلة والنظرات .. لكن الحاج صالح حتي في تلك اللحظة ظل صامتاً , لم يقل شيئاً فقط التفت نحو زوجته ام صابر , كانه يقول لها انه من الصعب عليه ان يتخذ في الزيارة الاولي القرار . قالت العمة ام امين حين عرفت في اليوم الثاني بموضوع الزيارة: في الحقيقة لطيفة مناسبة لاشرف تصغره فقط بخمس سنوات اما الخالة ام العبد فقالت هي الاخري حين علمت بالخبر الي متي ستظل لطيفة بدون زواج ؟! فاحست لطيفة عند ذلك بشئ من الراحة لهذه الكلمات مثل أي فتاة بهذا السن تتاخر في الزواج , لقد بعثت تلك الزيارة في صدرها النشوة

قالت ام صابر لام امين وهي تقف لتأخذ طريقها الى المطبخ لتحضر ابريق وكاسات الشاي :ابنتي لطيفة لم نعط كلمة بشأن زواجها حتي الان وان ما جري فى تلك الزيارة كان مجرد تعارف فقط .. لقد قال الحاج صالح بهدوء وهو يقف بعد ان انتهت الجلسة وغادر اشرف وشقيقته فخرية الغرفة :لماذا تلك العجلة فى موضوع الزواج ؟!

****

فى مساء يوم اخر مشرق مليئ بالامل ركب اشرف سيارة الاجرة مرة اخري , رأه صاحب الدكان المجاور للبيت وهو يفتح باب السيارة ويدع قدمه فيها ..اما بشير صاحب المطعم القريب الذي هو رجل فى مثل سنه والذي اصبح له زوجة واطفال صغار يلعبون فى الشارع فقد قال لمؤمن صاحب المكتبة القريبة حيث كانا الاثنان يجلسان بكرسيهما على الرصيف بعد العصر : مسكين اشرف .. منذ عامين او اكثر والبحث قائم عن زوجة مناسبة , يحدث ذلك والسيارة ما زالت لم تتحرك بعد.. عندما فتحت فخرية باب السيارة لتركب بجانب اشرف انقطع كلامهما..

دقائق وتكون السيارة امام الباب, هكذا يجد اشرف نفسه من جديد فى غرفة الضيوف وجها لوجه مع الحاج صالح بملامح وجهه القاسية التي لا تعرف الا تعبير واحد وصارم,تحركت نظراته القلقة باتجاه صورة صابر المعلقة على جدار الغرفة ,قال فى نفسه :ماذا لو يهل علينا فى هذه اللحظة متحررا من حياة الاسر,لابد انه سيرحب بي اجمل ترحيب وسيربت على كتفي وسيعطي القرار بسرعة بالموافقة على زواجي من اخته لطيفة..عيناه تنغرس مرة اخري فى وجه لطيفة,تبادله النظرات ولكنها تبقي خجولة صامتة,ماذا يقول لها فى الزيارة الثانية حتي ينتزع من بين شفتيها الرقيقتين هذه المرة اعترافا صريحا وواضحا بالقبول به كزوج؟, وهل كان والدها الحاج صالح بحاجة الى تلك الرغبة التي تصدر من ابنته لطيفة حتي يقول رأيه الاخير فى هذا الموضوع الذي ينتظره بفارغ الصبر؟ كانت صورة صابر تذكره بماض يعتز به قد أعاده إلى سنوات عديده مضت، ماذا لو عرفه الحاج صالح وعرفته أيضا زوجته لكان كل منهما وقفا له إجلالا واحتراما وعانقاه، يوم أن حمل بندقيته واقترب من المستوطنة ورأها عن قرب على حقيقتها وفي البعيد لاحت له سيارة تقترب فأحس لأول مرة بالقوة فضغط على زناد البندقية وأخذ يطلق النار بقوة على ركابها من المستوطنين وعندما أحاط به الجنود الاسرائيلين كي ينهض رأي فوهات بنادقهم تلامس رأسه. قالت فخرية وهي تتعلمل بعصبية: ماذا تقول يا حاج؟ وهل مازلت تريد أن تسأل الناس عن أخي أشرف؟

كوب ماء وفناجين قهوة على الصينية وعينان عسليتان يرى في بريقهما أشرف أحلامه وايامه البيضاء القادمة وإنتظار قرار وسنوات الأسر هي عنوان الشرف والرجولة وهي كل ما يملكه من رصيد في هذا الوطن..

تسأل فخرية الحاج صالح بصوت مسموع أكثر من ذي قبل وكأنما تريد إنهاء تلك الزيارة ويدرك الحاج صالح في قرارت نفسه العميقة أن قراره الحاسم يجيء في مثل هذا الوقت من المساء موعد النطق به وأنه لا بد من القول الآن بما يريده من كلمات قليله وبصوت هادئ فعدل من جلسته وإتجه ببصرة نحو أشرف الذي كان لحظتها يستجمع شجاعته منتظرا هذه اللحظة غير أن الحاج صالح قبل أن يجيب يومئ برأسه الكبير المعمم علامة على القبول ثم يرسم أول إبتسامه حقيقية يراها أشرف على وجهه منذ أن جاء هو وشقيقته فخرية إلى هذا البيت.

اخر الأخبار