فكرة رفعت السعيد

تابعنا على:   14:20 2017-08-28

أسامه سرايا

رحل عن عالمنا فى منتصف أغسطس 2017 شخصية استثنائية فى السياسة والفكر والتاريح الوطنى هو الدكتور رفعت السعيد، وهو من الجيل الذهبى لليساريين المصريين الذين يحظَون باحترام من الذين يؤمنون بهم، ومن الذين، مثلي، يختلفون معهم. وأنا الآن أقف أمام مسيرته على مدى خمسة عقود من العمل الوطنى، وأرى فيه مفكرا من طراز فريد، ترك فكرا وثقافة لكل المصريين، يساريين ويمينيين، وحتى إسلاميين حقيقيين، وليس متأسلمين، على حد تعبيره العبقري، الناطق بحق عن خلط السياسة بالدين. فعلى غير عادتى غيّرت ما كنت أنويه، وأجلته إلى وقت آخر، فكنت قد خططت، قبل نهاية أغسطس، للكتابة عن أشهر وفاء النيل، النهر الخالد ، وهو يشهد تطورات كبرى على الصعيدين، الداخلي، وفى حوض النهر فى إثيوبيا والسودان! ولكننى مضطر لتغيير المسار فى إطار تنفس الوفاء لواحد من أبناء مصر والنيل، وقد رحل عن عالمنا، فرفعت السعيد، المعارض، أعطى للمعارضة قيمتها عندما وقف مع الوطن فى القضايا الكبري، ولم يستخدمها للمزايدة السياسية، فطالما التقت رؤيته مع رؤية متخذ القرار، فقد تحمل بشجاعة نقد السياسيين الابتزازيين من جناحه الذين يضعون مصالح أحزابهم الضيقة، ومصالحهم الشخصية فوق الوطن والمواطن. وللتاريخ هنا، أُبرئ رفعت السعيد، من أنه كان المفجر لانتفاضة 1977، المسماة بانتفاضة الخبز، فالكل يعرف ملابسات الانتفاضات، والثورات، وهذا ليس موضوعى اليوم، وإن كنت أدعو إلى لجنة وطنية لدراسة الانتفاضات والثورات، ومعرفة كيف تتحرك الجماهير فى مصر؟ فالمصريون، بطبعهم، لا يهدمون، ولا يحرقون، ولا يسرقون، حتى عندما يثورون ويغضبون، ومَن يفعل ذلك ليس منهم، بل هو دخيل عليهم، أو موظف يؤدى مهمة بالأجر، ولا يعرف المعنى الحقيقى للثورة أو الانتفاضة، وأمامكم، انتفاضة المصريين ضد الإخوان فى 30 يونيو 2013!

أما انتفاضة الخبز، فقد اندلعت قبل رفع الأسعار، وقبل أن يشعر بها المواطن ، فَمَنْ حركها، وَمَنْ استفاد منها هو المتهم والمجرم، ويجب أن يحاسب، وهى تهمة لا تسقط بالتقادم. فلم يكن رفعت السعيد هو الذى قام بتحريكها، ولا اليسار المصري، ولكن السعيد واليسار كله (شرب) هذه (الفرية)، وحاول البعض أن يتبناها، وكأنها عمل إيجابي، فى حين أنها تسببت فى تأخير مصر سنوات طويلة عن التقدم واللحاق بالعصر! فقد أدت إلى غياب التسعير الحقيقى للسلع، كمؤشر لضبط الاقتصاد، وضبط الاستهلاك، وزيادة الإنتاج، والحد من الاستيراد، وكلها إيجابيات كان يسعى إليها رفعت السعيد، فهو لم يكن ضدها، رغم وقوفه مع البسطاء، والفقراء، ومساعدتهم حتى لا يتأثروا بالغلاء.

وفى شخصية الراحل رفعت السعيد جوانب عديدة مع رحلة عمر امتدت ما بين (1932و 2017)، قضاها بين السياسة والثقافة والفكر والتنوير والوطنية المصرية، انضم بعدها إلى مجموعة كبيرة من اليساريين المصريين العظام: خالد محيى الدين- لطفى الخولي- محمد سيد أحمد- فؤاد مرسى - إسماعيل صبرى عبدالله - محمود أمين العالم- يوسف صديق- حسن فؤاد- محمد سيد سعيد، ومنهم معاصرون كثيرون، مازلوا يؤدون دورهم، آمنوا بالمعارضة والفكرة اليسارية، ولكنهم فى نفس الوقت آمنوا بأن المعارضة، يجب أن تكون فكرية وثقافية، فهم لم يحملوا السلاح أو يمارسوا الإرهاب، كالتنظيمات السرية الدينية.

وعندما أسقطوا، العمل السرى والتنظيمات السرية الشيوعية فى فترة حكم عبد الناصر، لم يعودوا إليها، ولم يكذبوا، ولم يمارسوا (التقيّة)، كما فعلت الجماعات الدينية الإسلامية عندما حملت السلاح، وضربت، وقتلت مواطنين مصريين، دفاعا عن سلطة يتوهمون بأنهم أحق بها، مثلما يفعل الإخوان الآن من عمليات تحريض وقتل وإرهاب، وهى جرائم كاملة فى حق الوطن والمواطنين، وسيدفعون أثمانها حتما، فالأجيال الحالية والمقبلة، لن تنسى مثل هذه الجرائم النكراء.

ولكننى أقول إن الحالة السياسية لن تزدهر دون السياسيين الحقيقيين الكبار، أو الاحتفاء بهم فى حياتهم وبعد رحيلهم، وإبراز أدوارهم، ومؤسساتهم، وأحزابهم. ورفعت السعيد أول من يتقدم أجيال الكبار، فهو صاحب خصال متعددة، أسهم فى إنشاء حزب التجمع، وحافظ عليه مع الزعيم السياسى اليسارى الوطنى خالد محيى الدين، ولا شك أن مؤسسية هذا الحزب كان لها الدور البارز، كمعارضة وطنية، فى الحفاظ على النسيج الوطني، مسلمين ومسيحيين، فقد احتضنت الإخوة المسيحيين وقت الأزمات. ولا يمكن أن ننسى لراحلنا السعيد أنه حاول مقابلة البابا شنودة فى أثناء أزمته مع الرئيس السادات، ثم أصبح رجل الحوار والتفكير مع البابا والإخوة المسيحيين، وتلك، والله مهمة وطنية جليلة للرجل، يجب ألا تنسى فى زحمة الأحداث. ولا يمكن لأى مفكر سياسى أن يهمش دور اليسار المصري، فهو مدرسة سياسية وطنية، وضرورة لا غنى عنها فى صياغة مستقبل هذا الوطن. ورغم أننى لست يساريا، ولم أنتخب اليساريين قط، فإننى أحسدهم على ما يتركه مفكروهم من دراسات، تكشف عن أن اليسار المصري، كان ولا يزاٍل مبدعا، ولم يكن ناقلا فقط للفكر الشيوعى العالمي، وقد استطاع، عبر سنوات صعبة، أن يحفر لنفسه مكانة مصرية، ثم انتقلت للوطن العربي. وليس مهما أن يصعد السياسى إلى السلطة، وأقول لليسار: يكفى أن تفخروا بأنكم جذرتم أهمية العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الفقراء والمساواة بين أبناء الوطن، وأنه لا فرق بين غنى أو فقير، فى بيئة سياسية جعل منها، التيار الدينى أو المتأسلم، اليسارى المصري، ملحدا أو كافرا غير مؤمن بالأديان، أو بالحياة الأخري. تحية إلى روح رفعت السعيد، فقد خاض معارك شجاعة، كان الأول فيها الذى يفتح الطريق للآخرين، ليدخلوا بلا خوف، واستطاع بتراكمية فكرية نادرة، واستمرارية حتى اليوم الأخير أن يفضح ويعري، تجار خلط السياسة بالدين. إن بطلنا الراحل شخصية متعددة الأبعاد، وجرت عاداتنا أن نبخس السياسيين حقهم، فبارت السياسة! وعلى كل حال لقد برأت نفسى من هذه التهمة، فأنا لا أبغض الرأى الآخر، بل أحبه وأحترمه، إلا إذا حمل السلاح، ومارس الإرهاب ضد ناسى وأهلى ووطنى. وفى هذه الحالة أقول بوضوح: قاتل الله الإرهاب وأهله. فلا تخلطوا بينهم وبين أهل السياسة، فهم إرهابيون، وليسوا سياسيين

عن الاهرام

اخر الأخبار