"الجزيرة" تخرج السادات من قبره و"الحياة" تحضِّر روحه

تابعنا على:   11:31 2017-10-19

لينا أبو بكر

حال المشاهد مع الموالد الإعلامية في مصر، كحال من دعوا حمارا إلى عرس، إما ليحملوا دلاء الماء فوق ظهره وإما ليركبوه، وهو تورط إرادي بصناعة الفخاخ، طالما أن الحمق كامن في تلبية الدعوة أصلا، فإن أضفت إلى هذا عنصر المراءاة، التي تلغي النزاهة، تدرك أن مجاراة المنافق، جريمة تفوق إثم من ارتكبها، وهذا يشبه قصة القروي، الذي سأل مالك الحانة في القرية عن سبب تخلفه عن الذهاب إلى الدير، ليجيب: «لا أطيق ازدحام الدير بالكثير من المرائين».. ابتسم القروي بتعجب ساخر: «لن يضرهم أن يكون هناك متسع لمراء آخر»!
«المعلومات هي الشيء، الذي تحصل عليه بالدروس، أما المعرفة فهي ما يتم اكتشافه بالحدس»، ولأن الإعلام المصري أشبه ما يكون بحضانة أو مركز تلقين للأميين، فإن مقتل السادات نصف حقيقة، وليس كذبة كاملة، والحقائق الناقصة دائما أخطر من الأكاذيب التامة، بحيث يسهل تصديقها والتقاط أطرافها لتعميمها كمطلق، ولذلك لم يبحث الإعلام بتفاصيل المشهد إنما اكتفى بقراءة النشرة الجاهزة، وحرم المشاهد من تأمل الحدث المنقول على الهواء مباشرة، ولكن لماذا؟ ما الذي أخفته الكاميرات لـ 36 عاما؟
وفي ظل انتشار قنوات «اليوتيوب»، التي تعيد تأمل المشهد على طريقة: «ما تراه ليس ما هو موجود فعليا، وما قد رحل رحل» هل تصدق، تماما قصة أوشو لتلاميذه البلهاء، عن رب عمل، شديد الغضب، يوبخ موظفيه بشكل دائم وعنيف، تحملت إحدى الموظفات الأمر طويلا ولكن حين شكك بفضيلتها، ثارت ثائرتها، في اليوم التالي دخلت مكتبه وهي تحمل تقريرا طبيا وضعته تحت أنفه صارخة: «هذه شهادة طبية تثبت أنني طاهرة لم أمس بعد»… نظر إلى الورقة قليلا، ثم رفع حاجبيه وجفنيه وببرودة وجلافة: لا ينفع، إنها مؤرخة بتاريخ البارحة»!
هكذا هي الحقيقة، تثير الشكوك بفضيلتها كلما مضى وقت أطول عليها دون أن تتعرض للفحص والتدقيق الآني… ما يجعل الجهل نعمة لأولئك الذين يرون كل شيء بخير، حين لا يعرفون أي شيء، ما دام «كله عند العرب صابون»!!

قطع لسان على الهواء !

وقع الإعلام المصري في حيرة من أمره، لا يعرف هل يحتفل بنصر أكتوبر، الذي سرقه اللصوص من عبد الناصر، أم ينعى زعيم العصابة وعراب الاختطاف، على اعتباره «آل باتشينو العبور»؟
قناة «الحياة»، في برنامجها «الحياة اليوم»، خصصت حلقة عن تقديم «رقية أنور السادات» بلاغا للنائب العام، في مارس/آذار عام 2011، تتهم فيه حسني مبارك بالتورط في اغتيال أبيها، وتعال تفرج على إجراء عملية قطع لسان للمذيعة، على الهواء، فبمجرد ما وجهت المذيعة سؤالا للواء أحمد الفولي، أحد ضباط شرطة رئاسة الجمهورية آنذاك، عن السيارة المكشوفة التي ظهرت على قنوات «اليوتيوب» وعلى قناة «دريم»، التي تقوم بالتغطية على إخفاق القتلة وهروبهم بعد المحاولة الأولى، كدليل على تورط جهاز الأمن والجيش في جريمة الاغتيال، لم تستطع المخلوقة أن تكمل سؤالها، أمام استنكار اللواء، الذي بدا مصدوما ومرتبكا، في الوقت الذي علا فيه زعيق فريق التحكم في غرفة الإخراج، وتناهت إلى الأسماع أصوات ردح وزمجرة وتوبيخ، دفعتها لتدارك الموقف وتغيير السؤال والموضوع والجريمة والحدث برمته… دون أن يخطر ببالها المثل الشعبي: «إن قلت ما تخاف وإن خفت ما تقول»!
تتضارب الأقوال بين تصريحات جيهان والفولي على القناة ذاتها في هذا البرنامج وبرنامج عمرو الليثي، حيث يصر الفولي أن السادات كان أول من خرج من حلبة المجزرة فقد حمله مباشرة وتوجه به إلى الطائرة لنقله إلى المشفى، بينما كان الجميع يبحث عنه، لكن جيهان تؤكد، مثل قنوات «اليوتيوب»، أنه كان ملقى على الأرض وحده بلا حراسة ولا أمن، وأنها كانت تصرخ بالضباط، ألا يتركوه، وهم يمنعونها من التوجه إليه أو الاقتراب من المنطقة، متذرعين بواجبهم الأمني !

الرقص في الجنائز وحَبَل العجائز

صدق من قال، «اللي تعرف ديته اقتله»، وهذا ما حصل في حقيقة الأمر، فمحاججة المذيعة للفولي بمسألة الحراسة، كانت هي الإنجاز الوحيد للغباء، الذي يبدع بالرقص في الجنائز، فيصنع المعجزات في زمن تصدق فيه حَبَل العجائز، كحال الذي «كان يحجل زي الغراب، بقى يلبس جزمة وشراب»، وأنت تراها تستبسل بالاعتراض على رضوخ أمن الرئاسة لأوامر السادات بعدم الاحتياط من الشعب، متسائلة عن الواجب والحس الأمني، الذي يتحسب للطوارئ، حتى لو اضطر لمخالفة أوامر الرئيس، وهو بالطبع ما لم يستطع الفولي الرد عليه، بل اكتفى بمشاركة المذيعة رقصتها الاستعراضية وهو يردد على طريقة «شاهد ما شافش حاجة»: أنا أعرف، أقول على طول، ما أعرفش، ما أقلش خالص، أنا»!
الضيف ومضيفته فولة اتقسمت نصفين، يتبادلان التوهان للدخول في نفق جديد، وإضافة تيه آخر، كعازفي الموالد: «طول ما إنت طبال وأنا زمار تضحك علينا الرقاصة»!
حسنا إذن، لم يستطع الإعلام المصري بكل مُراءاته، أن ينصف السادات أو يسعف الخونة، كل ما هنالك، محاولات بدائية لتحضير الأرواح، يخرج فيها السادات من المصباح السحري كعفريت، لا ليخبرك عن قاتله، إنما ليأخذك بالأحضان، مشفقا عليك، وهو يراك تتابع المشهد وأنت فاقد وعيك، ثم يودعك بعد انتهاء كل مولد، قائلا في سره: اللي ما يعرف أمك وأبوك، يفتكر العفاريت ولدوك… أيها المشاهد الغلبان، أنت لا تستحق سوى الضحك عليك أو البكاء منك !

«الجزيرة» تشرح الجثة !

أنا أتابع «الجزيرة»، إذن أنا موجود، وأي متعة هي الوجود يا إلهي، فكل حقيقة تظل خطيرة، إلى أن تدخل «الجزيرة»، بسلام، آمنا مطمئنا، تشاهد التحقيق الإعلامي على أصوله، ضمن ضوابطه القانونية والمهنية والأخلاقية، نظيفا خاليا من الشوائب الفضائية ومخلفات الشهب الفالتة من زمام المدار، تماما كذلك الذي قال حين ركب حافلة محتشدة بالركاب: «أنا مليء بالبنسلين، إن عطست في هذا الحشد، سأعالج شخصا ما».
منذ اللحظة الأولى تؤكد لك «الجزيرة» أن الوضع الصحي للسادات في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981، كان في أحسن حال حسب تقرير الفحص الطبي اليومي، قبل أن تصل في الجزء الأخير من الحلقة إلى تقرير من أحد عشر طبيبا قدموا تقريرهم النهائي عن سبب الوفاة: صدمة عصبية !
الصدمة الإعلامية الثانية هي اختفاء ثلاث جهات منوط بها حماية الرئيس: أمن الجيش والمخابرات الحربية والرئاسة، وأما الصدمة الثالثة فكانت الأسلحة الخارقة الحارقة بحوزة القتلة، بينما كان التفتيش على أسلحة طابور الاستعراض يمر عبر احتياطات أمنية صارمة، تسربت القنابل المحرمة دوليا إلى المنصة؟!
الصحافي سمير تادرس قرأ «أنا والإخوان» لكاتبه اللواء فؤاد علام، نائب رئيس مكتب مباحث أمن الدولة وقتها، عن تسرب معلومات عن خطة لقتل الرئيس، وعن محاولات إيصال هذه المعلومة للجهاز الأمني في موقع العرض ولكبار المسؤولين في الداخلية، والذين بدورهم أنكروا تلقيها، أما الصدمة الحقيقية فكانت تصريح الإسلامبولي، أن توقعاتهم بنجاح العملية كانت صفرا، وتفاجأهم بساحة مكشوفة لهم وبيئة متاحة ومفتوحة كأنها معدة خصيصا لإنجاح مهمتهم!
«الجزيرة» كشفت أن إذاعة لندن ومونتي كارلو كانتا السباقتين لنقل المشهد، بينما عجز مبارك عن النظر إلى عين المشاهد وهو يتلو بيان النعي، عداك عن توقف التحقيق والمحاكمات بقضية الاغتيال وفضائح ترقيات المفتشين ومدراء الفروع والسفراء، وضياع ثلاث ساعات ثمينة هباء ضاعت معها حياة الريس، ثم التقاط «النيويورك تايمز» لصور السادات ملقى على الأرض بلا أي محاولة لإنقاذه أوانتشاله، فهل كانت هذه المشاهد مجرد صدف؟ أم مؤامرة خارجية؟ أم فتنة؟ أم تقصيرا أم تواطئا أم خطة !
«الجزيرة» تثبت لك، أن الإعلام خرافة، ولا يمكن للخرافة أن تصنع حقيقة أو تكتشفها، وأن السادات يخرج من قبره كل عام، لا ليدل على قاتله، إنما على جريمته التي استحقها لأنه ارتكبها بحق نفسه في آخر مشهد من مشاهد العبور، فهل تبرئ جريمته قاتله، أم أنها قتلته قبل أن يقتله!

كاتبة فلسطينية تقيم في لندن

عن القدس العربي

اخر الأخبار