وعـد بلفور قراءة ونتائج

تابعنا على:   19:15 2017-11-02

صلاح صبحية

مائة عام على تصريح بلفور ، والذي أصبح يعرف باسم وعد بلفور ، مائة عام وما زال أصحاب هذا التصريح يصرون على تنفيذه بالشكل الذي أرادوه منذ أن فكروا بالغاية والهدف منه ، لذلك نراهم اليوم يحتفلون بالذكرى المئوية لما وعدوا به ، حيث تصر بريطانيا على الوعد المجحف بحق الشعب العربي الفلسطيني ، ولم تتعظ بريطانيا من كل ما جرى للشعب الفلسطيني من ظلم وقهر وطرد من البيوت والممتلكات ، هذا أن دلّ على شيء ، فإنما يدل على أنّ بريطانيا مازالت تمارس عدوانها وعداءها لفلسطين أرضاً وشعباً .

وقراءة تصريح بلفور تعيدنا إلى ما قبل التصريح بشهور ثلاثة ، حيث تطورت صيغ التصريح بما يخدم مضمون التصريح نفسه ، فقد مرّ التصريح بعدة صياغات :

الصيغة الأولى : ( تقبل حكومة صاحب الجلالة المبدأ القائل بوجوب إعادة قيام فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي 0) ، وهنا علينا أن نلاحظ بأنّ فلسطين كلها وطن قومي لليهود ، وهذا ما يعطي مبررا لبريطانيا بطرد كل الشعب العربي الفلسطيني من وطنه .

الصيغة الثانية : ( تقبل حكومة صاحبة الجلالة المبدأ القائل بوجوب إقرار أية فرصة لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين .)، في هذه الصيغة يتم الحديث عن وجوب وجود فرصة واستغلالها لإقامة الوطن القومي في فلسطين وليس كل فلسطين ، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال الاستعمار والانتداب وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين .

الصيغة الثالثة : ( تقبل حكومة صاحبة الجلالة المبدأ القائل بوجوب إعادة فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي . ) وهذه الصيغة ترى أن فلسطين كانت وطناً قومياً لليهود ويجب استعادته ، وأنّ من يقيم في فلسطين الآن هم محتلون للأرض التي يقيمون عليها ، أي أن الشعب العربي الفلسطيني هو من يحتل أرض الوطن القومي اليهودي ، فيجب طرد هذا الشعب من الأرض التي يقيم عليها .

الصيغة الرابعة :(تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للجنس اليهودي .) وهذه الصيغة تجمع بين الموقف الإنساني والموقف السياسي والموقف العنصري ، فهي تسعى لعطف على اليهود كجنس بشري يختلف عن باقي الأجناس البشرية ، بحيث يعيش هذا الجنس البشري في وطن قومي يؤسس خصيصا له في فلسطين .

وفي 31/10/1917 تمت صياغة الوعد بشكله النهائي والذي صدر بشكل تصريح من قبل وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور نيابة الحكومة البريطانية بتاريخ 2/11/1917 ، والذي جاء فيه :(أنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين .) وهذه الصيغة تجمع بين الصيغ الأربع السابقة ، فهي تنطلق من موقف إنساني عاطف على اليهود ، وأن هذا العطف يتمثل بتأسيس وطن قومي لهم ، وأن مكان هذا الوطن في فلسطين وليس كل فلسطين ، وأن هذه الصيغة تضع على كاهل بريطانيا مهمة تأسيس هذا الوطن القومي .

ومن الصيغ السابقة نلاحظ أنها تعاملت مع اليهود كشعب واحد بغض النظر عن إقامتهم في دول وأوطان مختلفة ، وأنهم مواطنون طبيعيون في الدول التي يعيشون فيها ، فهل حقاً يشكل اليهود شعباً واحداً موحداً كما يدعون ، وهل أنهم كانوا يسكنون في فلسطين منذ ثلاثة آلاف عام ، وهل أنّ هؤلاء اليهود ينتمون إلى بني اسرائيل .

لقد أثبت علماء الآثار بأنّ هؤلاء اليهود ليس لهم علاقة بفلسطين ، كما أقرت بذلك منظمة اليونسكو ، التي نفت وجود أية علاقة لليهود بفلسطين وبالقدس خاصة ، لأنّ الوقائع تنفي وجود هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى في فلسطين ، وأنّ بني اسرائيل كانوا يعيشون في اليمن وليس في فلسطين ، وهذا ما يستدل عليه من كل الصيغ السابقة ، حيث أنً صيغ الوعد السابقة أجمعت على أنّ إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين ، ولم تسمي أية صيغة أرض فلسطين بغير اسمها ، فهي ليست أرض الميعاد ، أو أرض اسرائيل ، أو أرض يهودا والسامرة كما يسميها اليهود ، فهي فلسطين اسم الأرض الممتدة شرق البحر المتوسط والتي هي جزء من بلاد الشام .

أمّا هؤلاء اليهود الذين وعـِدوا بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين فهم اليهود الذين هجروا مناطق بحر قزوين والبحر الأسود إلى أوربا في أواخر القرن الثالث عشر نتيجة انهيار دولتهم ، وهم بالأصل يهود الخزر ، الذين تهودوا على دين مليكهم في أواسط القرن الثامن قبيل الفتح الإسلامي لتلك المناطق ، وهؤلاء حاولوا العودة في أواخر القرن الخامس عشر إلى مناطقهم التي أصبحت تعرف باسم روسيا التي أغلقت الأبواب أمام عودتهم ، فرجع هؤلاء إلى أوربا ليصبحوا مواطنين في دولها التي استاءت منهم لسوء تصرفاتهم في المجتمعات التي يعيشون فيها ، ولا سيما عملهم بالربا وتجارة المال ، وانغلاقهم في أحياء خاصة بهم ، وبقي هؤلاء اليهود على هذه الحال حتى جاء هرتزل بفكرة الصهيونية التي عملت على ربط الشعور القومي المتصاعد لدى اليهود بوطن قومي خاص بهم على أرض فلسطين ، وذلك في ظل تنامي النزعة القومية في أوربا ، ولذلك نجد اليوم إنّ أكثر من 70% من اليهود الذين يستوطنون فلسطين هم من يهود الخزر ، أي أنهم المعتنقين للديانة اليهودية وليسوا المنحدرين من بني اسرائيل .

لقد جاء تصريح بلفور بوعد حكومته لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين ليس بهدف العطف عليهم ، وليس محبة بهم ، ولكن للتخلص منهم كعبء على المجتمعات الأوربية أولاً التي ضجت من قضية اللاسامية التي أطلقها اليهود آنذاك ضد الأوربيين ، وليكونوا أداة مشروعهم الاستعماري في المنطقة العربية ثانياً ، وخاصة بعد أن فشل نابليون بونابرت في حملته على بلاد الشام وانكساره أمام أسوار عكا الفلسطينية عام 1799 .

لم تكن فلسطين أولى الخيارات أمام الحركة الصهيونية وأمام الحكومة البريطانية بشكل خاص ، لأنّ فكرة الوطن القومي لم ترتبط بداية بهدف استعماري ، بقدر ما ارتبطت بالبحث عن أرض خصبة تنتج المحاصيل الوفيرة لليهود ، فكانت الأرجنتين وأوغندا وقبرص وسيناء ، بل أنّ آرثر بلفور نفسه اقترح إقامة الوطن القومي لليهود في كينيا في عام 1903 عندما كان رئيساً للحكومة البريطانية آنذاك ، فاختيار فلسطين وطناً قومياً لليهود كان مصلحة أوربية عامة ،هذه المصلحة التي اتفقت على تقسيم بلاد الشام إلى دول قطرية من خلال اتفاق سايكس بيكو عام 1916.

لقد ارتكبت بريطانيا أكبر جريمة في التاريخ عندما وعدت اليهود بوطن قومي لهم في فلسطين ، فهي لا تملك حقاً قانونياً أو حقاً تاريخياً بالتصرف بأرض ليست ملكاً لها ، وإن كانت بريطانيا الدولة الاستعمارية الكبرى التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها ، كما أنها وعدت جماعات سكانية منتشرة في أوربا لا يجمع بينها سوى الدين اليهودي ، وأطلقت عليهم اسم الشعب اليهودي ، تلك الجماعات التي لا تنطبق عليها صفة الشعب الواحد ، وليس لهم أية علاقة قانونية أو شرعية أو تاريخية بأرض فلسطين ، لذلك نجد الطائفة السامرية التي تسكن منطقة نابلس في فلسطين تكذّب ادعاءات هؤلاء اليهود بأنّ فلسطين وطنا قومياً لهم ، وهذه الطائفة تعتبر نفسها جزءاً أصيلا من الشعب الفلسطيني ، وأنهم هم وحدهم من ينحدرون عن بني اسرائيل ، كما أنّ حركة ناطوري كارتا ، هذه الحركة اليهودية الأرثوذكسية ترفض الصهيونية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة الكيان الصهيوني في فلسطين ، هذه الحركة التي أسست عام 1935 والتي يعني اسمها حراس المدينة .

لقد كان تصريح بلفور بمثابة وعد من لا يملك لمن لا ليس له حق ، فهذا التصريح الوعد باطل حقوقياً وتاريخياً وباطل في إطار الشرعية الدولية ، هذه الشرعية التي لا تجيز احتلال أراضي الغير بالقوة وطرد سكانها وتغيير قانونيتها .

ما دام هذا التصريح الوعد باطلاً من أساسه ، لأنه صدر عن جهة لا تملك الحق فيما وعدت به ، فما نتج عنه باطل ، فهذا الوطن القومي اليهودي الذي أقيم على أرض فلسطين باطل بطلاناً مطلقاً لا يمكن القبول به والاعتراف بوجوده تحت أية ذريعة من الذرائع التاريخية أو السياسية أو الشرعية الدولية .

وأنّ قبول هذا الكيان الصهيوني كدولة معترف بها في هيئة الأمم المتحدة يعتبر مخالفاً لما جاء في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة التي تشكلت من أجل انقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب ، ولإيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان ، ولبذل قواها للاحتفاظ بالسلم والأمن الدولي ، فإنّ قبول الأمم المتحدة بدولة الكيان الصهيوني في عضويتها أوقع الشعب الفلسطيني تحت ويلات العدوان والحرب المستمرة عليه ، كما أنها تخلت عن الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني بقبول هيئة الأمم المتحدة طرد الشعب الفلسطيني من أرضه وممتلكاته وعدم العمل الجدي الفعّال من أجل إعادته إلى وطنه ، بل ساهمت مساهمة كبيرة في أكبر نكبة عرفها التاريخ بتحويل شعب فلسطين من شعب يعيش على أرضه إلى شعب لاجىء خارج وطنه تتولى رعايته وكالة هيئة الأمم المتحدة لتشغيل وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين ، كما أنّ قبول هيئة الأمم المتحدة للكيان الصهيوني كدولة ذات سيادة هدد السلم والأمن الدولي وأصبحت المنطقة العربية من أخطر المناطق العالمية توتراً عسكرياً دائماً ، فبدل أن تلتفت الدول العربية للتنمية والتطور ، راحت تبذل جهدها في تنمية مجهودها الحربي لمواجهة تهديدها بالعدوان المستمر عليها من قبل الكيان الصهيوني .

وما دام هذا التصريح الوعد باطلا من أساسه ، فلا حلّ للقضية الفلسطينية إلا باندحار المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني عن أرض فلسطين وإعادة الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية الممتدة من البحر إلى النهر ، وكل حل لا يمنح الشعب العربي الفلسطيني حقوقه الكاملة فوق أرضه الكاملة هو حل منقوص لا ينهي القضية الفلسطينية ، وأي حل يمنح الغزاة الصهاينة حقاً مشروعاً في فلسطين إنما هو قبول بوعد بلفور بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، فإمّا الرفض المطلق للوعد الباطل ونتائجه ، وإمّا الإقرار بهذا الوعد ونتائجه ، ولا يمكن القبول بأنصاف الحلول والاعتراف الفلسطيني بالوطن القومي اليهودي على أي جزء من أرض فلسطين .

وما دام إصرار بريطانيا اليوم على الاحتفال بالذكرى المئوية لهذا التصريح الوعد باعتباره إنجازاً تاريخياً قامت به بريطانيا من خلال استعمارها فلسطين وانتدابها فيما بعد عليها بدون إرادة أهلها ، وعدم اعترافها بخطئها التاريخي والاعتذار للشعب الفلسطيني ، ولأن الاعتذار والخطأ غير كافيين ما لم يصحبهما الاعتراف البريطاني بالحقوق الكاملة للشعب العربي الفلسطيني فوق أرضه التاريخية والتكفير عن جريمتها بحق شعبنا التاريخي فوق أرضه التاريخية والتعويض عن كل ما لحق بالشعب الفلسطيني من غبن وأذى وضرر نتيجة هذا الوعد ، فإننا مطالبون اعتبار بريطانيا دولة معتدية على حقوق الشعب العربي الفلسطيني ، وعلينا إعادة بناء العلاقة الفلسطينية معها على هذا الأساس .

ونحن نعيش اليوم الذكرى المئوية لهذا الوعد المشؤوم ، فإننا نؤكد على تمسك شعبنا العربي الفلسطيني بمشروعه الوطني الفلسطيني النقيض المطلق للمشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين ، ولا يمكن أن يكون مشروعنا الوطني مكملاً للمشروع الاستعماري ، فأرض فلسطين التاريخية لا تتسع إلا لمشروع واحد هو دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني التي تحقق العودة الكاملة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها عام 1948 .

ولا يمكن لتصريح بلفور أن يكون مشؤوماً في ظل أي قبول يهودي على أرض فلسطين وتحت أي مسمى كان ، ففلسطين لا تتسع إلا لفلسطين ، ونحن أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا فلسطين وإمّا فلسطين ، وهذا يتطلب منا وحدة وطنية فلسطينية حقيقية حتى لا يتحقق لنتن ياهو حلمه بالاحتفال بالذكرى المئوية لإقامة كيانه الصهيوني فوق أرضنا الفلسطينية .

2

اخر الأخبار