في توصيف اليسار في المشرق العربي لواقعه

تابعنا على:   14:40 2014-03-30

جميل هلال

 حول معنى اليسار في واقع العربي الراهن

لعل المهمة الأولى التي تواجه اليسار في المنطقة تتمثل في مراجعته لتجربته في سياق تحديد موقعه ومسار فعله إزاء التحولات الكبرى التي ولجتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية وما زالت تعيش خضمها. وهي تحولات تتطلب استنفار ما  تجمع لدى اليسار من خبرة ودراية وحكمة خلال العقود العديدة السابقة. لا يشكل هذا الكتاب خلاصة تجربة اليسار إذ ليس من بين المساهمين هذا الكراس، رغم تجربتهم وإلمامهم بأوضاعه،  من يرغب في مصادرة حق وواجب اليسار كقوى ومجموعات وتنظيمات في الاضطلاع بهذه المراجعة واستخراج دروسها. كما تبقى الحاجة لتقصي، بشكل موضوعي،  حجم تأثير اليسار (سواء الناشطين اليساريين بصفتهم الفردية أو  بصفتهم  الحزبية)  المباشر وغير المباشر في الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة وتقييمها  بهدف استنهاض اليسار و مشروعة السياسي الاجتماعي الثقافي وإبراز استقلاله الفكري  بعد أن عانى من المصادرة لفترة طويلة. ولا ضير من مراجعة مواقف ب اليسار  الشيوعي واليسار غير الشيوعي في التغطية على دور أنظمة مستبدة بذريعة موقفها المعادي للإمبريالية وإسرائيل  وتبرير بعض هذا اليسار لتدخل قوى خارجية (إقليمية ودولية)  معادية لأهداف الانتفاضات الشعبية الديمقراطية باعتبار أن  ذلك ضروريا للخلاص من أنظمة الاستبداد، وهذا ما يلمحه عدد من الأوراق  الواردة في هذا الكتاب.

 

  قد لا يخرج طموح اليسار في هذه المرحلة عن أن يكون البوصلة  الهادية لمشروع التغيير نحو الدولة الديمقراطية المدنية والمنبه لمخاطر ما يطرح من خطط ومشاريع لحرف الانتفاضات عن أهدافها  الأصلية، والانخراط، من هذا المدخل، في  الجهود  التعبوية (بين الشباب وعموم الشعب) من أجل إعادة بناء مؤسسات نظام سياسي جديد على أسس ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، رافضا الإملاءات الخارجية واشتراطات العولمة الرأسمالية النيوليبرالية ومساندا لنضال الشعب الفلسطيني التحرري في مواجهة السياسية  الاستعمارية الاستيطانية ونظام الفصل العنصري، ويدعم التطلعات التحررية في العالم.  

 

 لا يستطيع اليسار التقاعس عن المساهمة النشطة في إرساء ما أسمية الديمقراطية العميقة، أي الديمقراطية الراعية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي ما يستجيب للأهداف التي تطرحها الانتفاضات الشعبية العربية. الديمقراطية العميقة تعتمد أسس وقيم الحرية والمساواة،  وتستهدف إحقاق العدالة الاجتماعية القائمة على المساواة في فرص الحياة بين جميع المواطنين، بكل ما يستوجبه من قوانين وإجراءات وترتيبات ملموسة. تشييد أسس لنظام ديمقراطي يواجه مقاومة شديدة من قوى محلية وإقليمية ودولية ذات قدرات مالية واقتصادية وإعلامية واقتصادية وذات سطوة داخليا وإقليميا ودوليا/ مما يستدعى استنفار اليسار وكل القوى التي لها مصلحة في تشييد النظام الجديد والمشاركة في تغيير الواقع الاستبدادي والتمييزي القائم.

 تتناول هذه الأوراق مداخلات وصفية وتحليلي لحال اليسار الفلسطيني على جانبي الخط الأخضر، ولليسار في الأردن ولبنان وسوريا والعراق.  وهي تشير، وإن بخطوط تتفاوت في التفصيل، إلى مسار تجربة اليسار في هذه المجتمعات، مبينة خصوصية تجربة كل يسار  وفق شروط  ومحددات الحقل السياسي الذي  يشكل جزءا منه  ووفق البنية الاقتصادية-الاجتماعية  للحقل السياسي  ومتغيراتها، ووفق موقعه من التيارات الثقافية  والفكرية  (من ليبرالية وإسلامية ويسارية وقومية أو مزيج بين بعضها) التي  تتصارع للهيمنة على الحقل. احد مصادر ارتباك اليسار في تشخيصه للأنظمة العربية (وبالتالي في تحديد موقفه منها) يعود إلى تبني نظرة أحادية البعد تثمن الموقف المناهض لإسرائيل والولايات المتحدة  ولا ترى  تداعيات اعتماد سياسات اقتصادية نيوليبرالية ولتفشي الفساد والزبائنية بين النخب الحاكمة والمتحكمة ورفض دمقرطة الحيان السياسية[1].

 

تسأل هذه الأوراق بشكل مباشر أو موارب عن معنى أن يكون المرء يساريا في الشرط العربي والإقليمي والدولي الراهن، وهو سؤال مطروح على قوى اليسار بشكل عام[2]. وربما تحتاج الإجابة إلى التمييز بين مستويين؛ مستوى يتعامل مع ما هو مشترك من قضايا بين الفاعلين اليساريين في الحقول السياسية  المختلفة وما هو مماثل في سمات  مجتمعاتهم الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية، ومستوى آخر يتعامل مع خصوصية كل حقل من الحقول السياسية  المعنية، وخصوصية مكونات كل منها الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية وشروط النشاط اليساري فيه. هناك صراع  داخل الحقول الثقافية-الفكرية على مستوى الحقل السياسي "الوطني" (داخل الدولة الواحدة أو الحكة الوطنية الواحدة) وعلى مستوى الإقليم (التيارات الإسلامية في مواجهة التيارات العلمانية والقومية)، كما على المستوى الدولي (الحركات الاجتماعية  ضد الرأسمالية المتوحشة وضد السياسات النيوليبرالية[3]  والممارسات المدمرة للبيئة، ومن أجل تشريع سياسات التكافل المجتمعي).  هذه الصراع مهمة لكن تحتاج إلى بحث آخر.

 

أجماع اليسار على ضرورة الديمقراطية

 لعل ما يجمع بين قوى اليسار هو الموقف من الرأسمالية  كونها المولد الرئيس لللامساواة والامتيازات والاستغلال  والحروب وتدمير البيئة.  فمن الصعب أن يكون المرء يساريا ويعتقد، في الوقت ذاته، أن الرأسمالية هي أعلى مراحل التطور البشري، بل نجد أن غالبية بين قوى اليسار تتفق أن الاشتراكية هي النظام الأفضل للبشرية باعتبار أنها  توجيه الموارد لصالح البشر ككل وليس لصالح فئة صغيرة تتولى مراكمة الأرباح والثروة ووضع آليات (قوانين وشرطة وجيوش ووسائل دعاية وإعلام، وغيرها)  لحماية مصلحة هذه الفئة الصغيرة جدا من البشرية.

 

يرتبط الموقف من الرأسمالية باهتمام اليسار - وهو اهتمام متأخر لدي اليسار في العالم العربي بسبب غياب استقلاله الفكري -  بالديمقراطية. فقد بات ينظر للديمقراطية باعتبارها مكون أساسي للاشتراكية، وكضمان لتجنب مصير التجربة الاشتراكية السوفيتية التي غيّبت الديمقراطية كمكون ضروري لنظام الاشتراكي.  هذا هو مصدر الرأي الذي يقول بأن الماركسية في العالم العربي "ساهمت في صناعة أزمتها، فهي بررّت ونظرّت لبنية سياسية لن تحتمل وجودها ولا لوجود غيرها على الساحة. وكل ذلك سيكون تحت العناوين التي دافعت عنها الماركسية نفسها، وتغاضت في الوقت نفسه عن أحد أهم شروط هذا الوجود؛ الديمقراطية"[4].

 

في الشرط العربي الراهن بتضاريسه المتنوعة يعود الاهتمام بالديمقراطية إلى ضرورة تفكيك الأنظمة المستبدة واستبدالها بأنظمة ديمقراطية مدنية تتبنى مؤسساتها وتشريعاتها أسس المساواة (في الحقوق والواجبات) والحرية (التعبير والتظاهر والمعتقد والانتماء السياسي والنقابي) للجميع بعيدا عن اعتبارات النوع الاجتماعي، الدين، الطائفة، الإثنية أو القومية. ولذا نجد من يعرف اليساري بأنه "من يحاول الربط بين قيمتي الحرية والمساواة، وهو من يعي، في ظروف بلادنا المخصوصة، أن تحقيق الديمقراطية السياسية مهمة تاريخية متكاملة تتطلب تفكيك أنظمة الاستبداد واستبدالها بأنظمة ومؤسسات وتشريعات ديمقراطية مدنية. واليساري هو من يدرك... أن تجاوز سلبيات الديمقراطية السياسية لا يتم بديكتاتورية تقمع الحرية دون تحقيق المساواة وإنما بتعزيز الحرية بالمساواة، أي بفك الارتباط بين الديمقراطية و سيطرة رأس المال وتطويرها نحو الديمقراطية الاقتصادية الاجتماعية"[5].  بتعبير آخر على اليسار أن يناهض مساعي اختزال الديمقراطية إلى مجرد صندوق اقتراع  معزولا عن قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتجسيداتها المؤسساتية والقانونية.  فصندوق الاقتراع استخدم وقابل لأن يستخدم لتشريع سيطرة رأس المال ولتسويغ اللامساواة في توزيع الثروة والسلطة  وتقيد الحريات  وعرقلة حق الجميع في التعليم ومرافق الصحة والسكن  والبيئة اللائقة بالإنسان[6].

 

العدالة الاجتماعية باتت الصيغة أكثر رواجا في خطاب اليسار من الاشتراكية

من الملاحظ أن انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وغيره، دفع إلى الابتعاد عن الحديث عن بناء الاشتراكية في أدبيات قوى اليسار في العالم العربي. هذا لا يعني، بالضرورة، أن اليسار "تخلى عن هدف بناء الاشتراكية بل باتت تطرح باعتبارها الحل الأفضل لمشاكل الإنسان والمجتمع على المدى الأبعد"، مع رؤية للاشتراكية باعتبارها "تسعى إلى تحقيق أعظم قدرة من العدالة الاجتماعية من دون أن  تربط ذلك بثورة عنيفة تقضي على النظام الرأسمالي، ورؤية ترفض أن تجعل من الماركسية الكلمة التي ستفشل الإنسانية في قول أي شيء بعدها... بل مشروعا  يسعى لتحرير الإنسان كذات حرة وعاملة"[7]. لقد دفع التقدير بغياب إمكانية التحول نحو الاشتراكية في المدى المنظور اليسار إلى التركيز على قضايا أخرى، منها؛ قضية التحرر الوطني (بناء الدولة الوطنية المستقلة بكل ما يستدعيه ذلك من النضال ضد الاحتلال الأجنبي والاستعمار والسيطرة الامبريالية)، وقضية الديمقراطية .... وقضية العدالة الاجتماعية ... وقضية المساواة .... وقضية المرأة. وتقدمت مهمة بناء الدولة الديمقراطية مهام قوى اليسار أمام افتقداها عربيا"[8].  رغم ذلك هناك من يذكر بما يجري في أمريكا اللاتينية للتدليل على ضرورة الحفاظ على هدف بناء الاشتراكية في برامج اليسار في العام العربي. فلمعرفة "ماهيّة اليسار اليوم يجب أن ننظر إلى "اليسار القائم فعلاً،" أي الأحزاب والحركات التي تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعيّة في أرجاء مختلفةٍ من العالم. وأشير بشكل خاصّ إلى أمريكا اللاتينيّة، حيث نجد بدايةَ تكتّلٍ جديدٍ يسعى إلى العمل على نطاق عالميّ، لا محلّيّ فقط... وفي بوليفيا حقق إيفو موراليس فوزًا باهرًا في الانتخابات الرئاسيّة التي عُقدتْ في ديسمبر 2009. اللافت للنظر أنّ اسم الحركة التي ينتمي إليها موراليس هو "الحركة نحو الاشتراكيّة" ـ ولعلّ كلمة "نحو" هي أفضلُ معبِّرٍ عن برامج الحركات اليساريّة في عالم اليوم، لأنها تشير إلى التوجّه العمليّ لا التوجّه الإيديولوجي "الخلاصيّ،" ....اعتبارُ البرامج، لا الغايات النهائيّة ("خلاصيّةً" أو غيرَ ذلك)، هي محكَّ ما هو يساريّ، ولو كانت تلك البرامجُ مرحليّة"[9].  

 

 يمكن القول أن مدرك العدالة الاجتماعية بات أكثر محددات اليسار  شيوعا في العالم العربي. فقد بات مفردة شائعة بين اليسار.  نايف حواتمة يعتبر أن أول محددات اليسار الديمقراطي يتمثل بارتباط  اليسار "بجوهر مفهوم العدالة الاجتماعية وتوزيع عائدات الدولة والمجتمع على اكبر قدر من الناس، فضلا عن ارتباطه بمفهوم التقدم حيث تتمثل رؤيته بالأهداف العامة التالية المترابطة في قوتها عضويا وبنيويا لتحقيق السيادة الوطنية والقومية والتحرر من التبعية والتنمية الإنسانية المستدامة بكل أبعادها" داعيا إلى حلول ديمقراطية للمشكلات "الاثنية الطائفية والمذهبية" المزمنة في اغلبيه الأقطار العربية والمساواة في المواطنة  للجميع دون تمييز، و"فتح نوافذ الحريات الفكرية والثقافية والسياسية الحزبية والنقابية بدون قيود سلطوية"[10].

 

 أحد المثقفين اليساريين المعروفين اعتبر أن اليسار "هو القادر افتراضياً على الأقل على الجمع بين المسألة الوطنية ومسألتي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولكن الشرط الأول لهذا الموقع والدور هو تقيّده بمقياس بسيط هو أن ينحاز إلى الشعب. وهذا يعني التحرر من النزعة النخبوية الطليعية التربوية تجاه الشعب، وهو تراث مشترك بين الأحزاب الشيوعية والقومية يقوم على "سلطان الكلمة". والكلمة عندما تصير مُقدسة، بها يقاس الإيمان والكفر، تتولد تكفيرية علمانية أورثتنا إياها الأنظمة الاستبدادية الشمولية. وهذه النزعة التكفيرية تسوّغ بدورها الاستبداد والدكتاتورية لأنها تؤسس علاقة تربوية بين الطليعة والشعب، فالشعب جاهل بمصالحه وبالتالي فمهمة "الأنبياء الصغار" أن يتولوا إرشاده وقيادته"[11].

 

بسبب فضفاضية تعبير العدالة الاجتماعية ونظرا لحركة الجدل الدائرة  بين أطرافه في العالم العربي محدداته الفكرية والبرنامجية والسياسية  والتنظيمية هناك حاجة  للتمييز بين الليبرالية  (بمفهومها السياسي والاجتماعي) وبين العدالة الاجتماعية  بمفهومها اليساري. فالليبرالية تنادي بحقوق الإنسان وبحقوق المواطنة وبالمجتمع المدني (وإن بات يختزل بالمنظمات غير الحكومية) مع تأكيدها على أولوية الفرد  على الجماعة وعلى تشجيع التنافس بين الأفراد وعلى أهمية حرية السوق. اليسار يبرز أهمية العدالة الاجتماعية. فالليبرالية لا تهتم كثيرا أو قليلا بالعدالة الاجتماعية ولا تركز على المساواة بقدر ما تركز على الحرية وحرية الفرد أساسا. لكن السنوات الأخيرة شهدت تداولا متزايدا لتعبير العدالة الاجتماعية في خطاب النخب الحاكمة بما فيها في الأنظمة الملكية، لذا بات من الضروري على اليسار توضيح كيف يفهم العدالة الاجتماعية ومتطلبات تجسيدها.

 

بعض اليسار، بحكم ما تعرض له أفراده وتنظيماته من قمع وتنكيل من قبل النخب العربية الحاكمة، أمعن في إعلاء شأن مكون الحرية الذي هو أحد أبرز مكونيّن  للديمقراطية وتبهيت المرتكز الثاني، أي مكون المساواة[12]، مما طمس الفرق بين الديمقراطية و الليبرالية التي لا تقييد الحرية بالمساواة الأمر الذي يحول  دون اختزال الديمقراطية بالليبرالية، واستخدام الديمقراطية، بالتالي، كمسوغ لكل أشكال اللامساواة والامتيازات وللتوزيع  غير العادل والمتكافئ والمتسع دوما للثروة والسلطة والامتيازات والحقوق،  بالإضافة إلى الاحتفاء باقتصاد السوق الحر كمحدد رئيسي وأساسي للنظام الاجتماعي ولفرص حياة الأفراد، كما  تبشر الليبرالية الجديدة.  لذا على اليسار إعلاء  مبدأ المساواة بالتوازي مع مبدأ الحرية.  والمقصود هنا ليس مجرد مساواة الجميع أمام القانون، بل بالأساس مساواة الجميع في فرص الحياة من المهد إلى اللحد. وهذا يطرح تفكيك بنى اللامساوة في المجتمع من خلال توسيع مجال الحقوق (بكل ما يترتب على ذلك من واجبات) لتشمل بالإضافة إلى الحقوق السياسية والمدنية المتعارف عليها، الحقوق الاجتماعية والحقوق الاقتصادية والحقوق الثقافية[13]، واعتماد مبدأ التمييز الإيجابي للتعويض على الظلم والحرمان الذي تعرضت له فئات اجتماعية.   

 

اهتمام اليسار، بأطيافه الماركسية وغير الماركسية، بالعدالة الاجتماعية، كما يتضح من قراءة الأوراق المرفقة ومن برامج أحزاب اليسار في العالم العربي، يشير إلى اهتمامه بتميز نفسه الأحزاب والقوى الليبرالية عبر توجيه الأنظار إلى موضوع توزيع الثروة وإلى إيصال الخدمات لمحتاجيها من باعتبارها استحقاق من استحقاقات المواطنة.  لكن لا بد من يسعى اليسار إلى طرح مضمون واضح لمفهومه للعدالة الاجتماعية وكيفية تطبيقه في المجتمعات المختلفة والمتباينة الموارد والاقتصاديات.   البعض من النخب الحاكمة  العربية  يقول بأن الدولة ملتزمة بتطبيق العدالة الاجتماعية  كونها تتولى توفير  خدمات للمواطنين  عبر توزيع جزء من ريعها على المواطنين. لكن هذا ليس هو المقصود بتطبيق العدالة الاجتماعية لأن ما تقوم بها هذه الدول (كما في بعض دول الخليج)  لا يغير من بنى اللامساوة (بل يثبتها) لأنه لا يغير  من توزيع الثروة والموارد في المجتمع  ولا يحد من الاستئثار أو احتكار السلطة على المستويات المختلفة. مأسسة العدالة الاجتماعية  يستدعي تغيير البنية الاجتماعية-الاقتصادية بما يغير من موازين القوى الطبقية بحيث لا تعود البنية القائمة تنتج لللامساوة وتعيد إنتاجها باستمرار.

 

كخلاصة  يعني تبني العدالة الاجتماعية[14] من قبل اليسار ربطها بقضية الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادي، أي منح اليسار اهتماما خاصا للقضايا الاجتماعية (العمال، والمرأة والقوانين الشخصية والبطالة والفقر، والفساد، والزبائنية، وغيرها )، وهو ما أشارت إليه  الأوراق في هذا الكتاب، وما تطرق إليه  العديد من أدبيات اليسار،  حذر بعضها من نزعة العمل الحلقي و"الصالوناتيّة"  والنظرة الضيقة للسياسة،   مقارنة  بنشاط  التنظيمات الإسلامية  التي أولت القضايا الاجتماعية اهتماما خاصة وإن من مدخل خيري[15].  وهناك من يعتبر أن "النواة الدلالية الأساسية لمفهوم اليسار تحيل إلى المسألة الاجتماعية"[16].

 

في موجهات اليسار الفكرية والقيمية

أ. العلمانية

وقد يكون صحيحا أن  فشل التجربة الاشتراكية السوفيتية (والصينية) قد ساهم في توليد نظرة جديدة في التعاطي  الماركسية  ليس كعقيدة أو أيديولوجيا شمولية تفسر حركة التاريخ منذ بدء الخليقة وحتى الآن الذي تسيره قوانين موضوعية ستقود حتما إلى انتصار الاشتراكية والشيوعية. النظرة الجديدة أقرب إلى  فهم الماركسية كأداة تحليل للواقع الملموس والمتغير الذي  يعتمد على الفعل الإنساني الجماعي المنظم  والحي  باعتباره العامل الحاسم  في  عملية التغيير الاجتماعي. كما دفع باتجاه إعادة التفكير بدور الحزب كأداة تغيير يقاس مدى أدائه لوظيفته المجتمعية بقدرته على التغيير باتجاه مجتمع أكثر حررا ومساواة وعدالة اجتماعية،  وبمدى ديمقراطية علاقاته داخل التنظيم الحزبي ومع الشعب، بالإضافة إلى حكمته في إدارة علاقاته مع القوى السياسية الأخرى.

 

ما هي الموجهات القيمية لليسار؟ بالإضافة إلى الحرّية  التي أتيت على ذكرها، وتشمل الحرّيات العامّة الوثيقة الصلة بالديمقراطية  (كحرّية الإعلام، والتعبير، والتنظيم، والترشّح، والانتخاب،...)، و الحرّيات الفرديّة (وتشمل حرّية  المعتقد)، التي تستدعيها الديمقراطية؛ وبالإضافة إلى المساواة التي تستدعي  تأصيل الديمقراطية الاجتماعية؛ المساواة التامّة بين الجنسين، وحقوق الأقلّيّات الثقافيّة والإثنيّة، والنضال البيئيّ، والدفاع عن الفئات المهمّشة من مُعطّلين عن العمل ومعوّقين .. والديمقراطية الاقتصادية  التي تستهدف مع الديمقراطية الاجتماعية إنهاء آليات إنتاج بنى اللامساواة.  هناك العديد من قوى اليسار الذي يصر، عن حق، على اعتبار العلمانيّة (البعض يستخدم تعبير “المدنية" بعد أن  أضفي على تعبير العلمانية، لأهداف أيديولوجية وسياسية  أبعاد ومعاني سلبية) كمكون ضروري  من محددات لمواقف ورؤية اليسار[17].

 إظهار أن اليسار ليس معاديا للدين هذا لا يبرر على الإطلاق أخذ بعض قيادات وكوادر  أولى في اليسار بمظاهر التدين الشكلي من قبيل التملق  للتدين الشعبي والتدين السياسي الممول جيدا من عائدات النفط الخليجي.  

 

 تشديد بعض اليسار على العلمانية في مواجهة تيار الإسلام السياسي والسلفي الذي برز كقوة سياسية وازنة عبر الانتخابات العامة (بالأساس نتيجة لضعف القوى السياسية الأخرى بما فيها اليسار)[18]  التي تلت الانتفاضات الشعبية وأخذ يستخدم موقعه في السلطة لفرض أجندته الخاصة على الدولة والمجتمع  (بنما فيها إزالة التشريعات العلمانية والمدنية التي بقيت من الأنظمة السابقة)، بالإضافة إلى التقرب من السياسية الأمريكية  في المنطقة وتأكيد تمسكه بالسياسة النيوليبرالية السابقة، وبمهادنة إسرائيل. لقد ولدت سياسة التيار الإسلامي (ألإخواني والسلفي)  استقطاب حاد في المجتمع كان أبرزها ما أعقب  مظاهرات 30 حزيران/يونيو  2013  من دخول الجيش على السياسة وتواتر التدخلات الخارجية (الإقليمية والدولية) في الشأن الداخلي المصري. لكن  طرح العلمانية في مواجهة سياسية أسلمة الدولة  والمجتمع يستدعي من اليسار شرح وتوضيح  أن العلمانية لا تعني معادية التدين، بل  منع تدخل الدولة في دين الأفراد ومنع القيادات الدينية فرض تفسيرها للنصوص الدينية على المجتمع الدولة. وهذا يتطلب نصا دستوريا يشرّع "الحياد الإيجابيًّ" للدولة تجاه كلّ الديانات والمعتقدات المذهبية، ويرسم الحدود الفاصلة بين الحقل الديني والحقل السياسي. بهذا المعنى تشكل العلمانية شرطا للديمقراطية.

 

ب. الاستقلالية

 يمكن القول أن  مراجعة تجربة اليسار أولا لعلاقته التابعة مع المرجعية الشيوعية السوفيتية (وهذه انتهت) وثانيا لعلاقة قوى اليسار مع الأنظمة العربية، وهذه قضية ما زالت قائمة  مما ولد ضرورة  حفاظ اليسار على استقلاله  عن الأنظمة العربية، بل اعتبار "أنّ أحدَ أهمّ شروط إعادة بناء اليسار في منطقتنا هو استقلالُه الكاملُ عن الأنظمة العربيّة القائمة، لا بل إدانتُه لطبيعتها وممارساتها القمعيّة. فلا مصداقيّة لأيّ طرفٍ يدّعي اليسارَ ويدّعي تبنّي قيَم اليسار ـ والديمقراطيّةُ من بديهيّاتها ـ ثمّ يَعْقد علاقةً مع نظامٍ غير ديمقراطيّ. ولو أردنا أن نميِّز حالة اليسار الفلسطينيّ في هذا المجال، لكونه صاحبَ مكاتب وتسليحٍ وهلم جرا، فسيحيلنا التمييزُ على تقدير الفارق: بين حالة العلانيّة البيروقراطيّة التي تحتِّم العلاقة بنظام بلد الإقامة، وحالةِ السرّيّة الثوريّة التي سبق أنْ عرفها هذا اليسارُ في البلدان التي يعمل علانيةً فيها اليوم؛ فقد كان نموُّه أقوى، وجاذبيّتُه أعظمَ بكثير، في مرحلته السرّية، ممّا هما عليه الآن, والأحزاب اليساريّة التي تنسج علاقة اليوم مع النظم القمعيّة تفعل ذلك على حساب صدقيّة مواقفها وعلى حساب هويّتها. هي في النهاية تبيع روحها. ومن أجل ماذا؟ لا شيء تقريبًا، سوى حفنةٍ من الدولارات وترخيصٍ بفتح مكاتب تحت رقابةٍ مخابراتيّة شديدة"[19].  كما نجد  الدعوة توجه إلى مثقفي اليسار العربي  إلى  فك ارتباطها بالنظام الخليجي كدور وحكومات ووسائل لأمور ونشاطات ثقافية لما يقوم به النظام الخليجي من دور امبريالي جديد[20].    وليس من الصعب إدراك أن ما يقوم به الحكام في دول الخليج من دعاية إعلامية ومن تمويل لقوى سياسية في الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية ديمقراطية المنطقة هو السعي من أجل الحيلولة دون قيام  ديمقراطيات حقيقة  فيها،  فما يحركهم  هو تعميم  نموذجهم في الحكم  القائم على الريع الرأسمالي التابع الإسلامي بجناحيه ألإخواني  والسلفي.

كما تتباين قوى اليسار في  رؤيتها  للقوى  السياسية التي يمكن التحالف معها، والاتفاق معها على قواسم مشتركة، وتحديدا  في  المجتمعات التي تمر في حالة من الانقسامات والتجاذبات والصراعات العنيفة، كما هو حال معظم الحقول السياسية التي تناولها هذا الكتاب (الحقل السياسي الفلسطيني، والأردني واللبناني والسوري والعراقي). ففي هذه الحقول (ومعظم الحقول السياسية في دول المنطقة، إن لم يكن جميعها) هناك استقطابات حادة، تأخذ معظم الأحيان أبعادا  طائفية أو مذهبية  أو إثنية.  هذا بالإضافة إلى  ما تشهده المجتمعات العربية من  توترات ناتجة عن التباين في توزيع الموارد  والامتيازات (والبين تشكيلات ما دون دولانية (طائفية، مذهبية، قومية، أثنية) بما يفضي إلى الحرمان للبعض والإحساس بالاستثناء على أساس طائفي أو أثني أو مذهبي أو عشائري أو مناطقي..

 

ج.  رؤية لمشروع وحدوي

 يجري التداول بين قوى اليسار في العالم العربي (وإن لم يبرز الموضوع بشكل ملحوظ  في أوراق هذا الكتاب) لمشروع عربي وحدوي بالاستناد إلى المُشترك اللغوي والثقافيّ   والتاريخي للعالم العربي  وبما يملكه من قدرات بشرية و موارد طبيعية متنوعة ومن  تباين في توزيع هذه القدرات والموارد، وبالاستناد إلى مقتضيات عصر العولمة والتكتلات  الإقليمية. يستند  المشروع إلى رؤية يسارية تقوم على العناصر التالية:

 أولا، الطوعية، لأن  جميع المشاريع الوحدوية ألعربية فشلت لأنها لم تكن طوعية وجاءت بقرارات فوقية ومن أنظمة غير ديمقراطية؛

 ثانيا، التدرّجية في التنفيذ  بحيث يمكن أن تبدأ بسوق مشتركة وتتدرج نحو توليد مؤسسات سياسية وتشريعية ومالية جامعة لتكريس المساواة في حقوق وواجبات المواطنة؛

ثالثا، أن تأخذ بعين الاعتبار التكوين الأتني والديني والطائفي والمذهبي والقومي بحيث تضمن بحقوق هذه الجماعات في تقرير المصير وأن تعمل على تصحيح بقدر ما يمكن  ما تعرضت له، وما زالت، من ظلم  وإجحاف وتمييز، وشرط هذا الضمان يتم عبر تشييد الدولة الديمقراطية المدنية  التي توفر الحرية  والأمن لمواطنيها والرعاية الضرورية لهم بعض النظر عن انتماءاتهم الموروثة (العشائرية والدينية والطائفية والمذهبية والأثنية والمناطقية والقومية)[21].

 

بتعبير آخر على المشروع الوحدويّ أن يحمل مضمونا ديمقراطيّا عميقا، و أن يُنجز عبر مسار ديمقراطيّ تدريجيّ، "يحفظ لكلّ شعبٍ عربيّ سيادةَ قراره، ولكلّ بلدٍ خصوصيّاتِه الثقافيّة".  وفي تصور اليسار فإن "الوحدة العربيّة ليست غاية لذاتها، وإنّما وسيلة لتحقيق النهضة العربيّة ذات المضمون التقدّميّ الاشتراكيّ"[22].

 

ومن حيثيات طرح اليسار لمشروع وحدوي عربي تطوير قدرة  العالم العربي على مناهضة سياسات العولمة الرأسماليّة  النيو ليبرالية  ووقف سياسات التدخل  الإمبريالي في شؤون دول المنطقة، وتنمية قدرته على محاصرة  القوى الرجعية والعنصرية والفاشية والطائفية والتكفيرية في المنطقة، وقدرته على دعم  قضية الشعب الفلسطيني بما هي قضية تحرر وطني وتقرير مصير وبالتالي  مجابهة  سياسية إسرائيل بما هي دولة استعمارية استيطانية عنصرية تحتل بالإضافة لكل فلسطين التاريخية أراض من الجوار العربي ولا تتوانى في شن الحروب  العدوانية ضدها.  لكن نجد اتفاقا بين قوى اليسار على ماهية الحل للمسألة الفلسطينية؛ فبعض أحزاب اليسار  يؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 مع إرفاق عبارة إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في حين يرى البعض الآخر من اليسار أن الحل التقدمي يشترط  قيام دولة ديمقراطية علمانية واحدة على أرض فلسطين التاريخية، وتخلي إسرائيل عن الأيديولوجية الصهيونية بما هي أيديولوجية كولونيالية استيطانية  اقتصائية أو دولة واحدة ثنائية القومية على أرض فلسطين التاريخية تنهي نظام الأبرتايد الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين.  

 

د. بين التركيز على الهوية الفكرية والهوية الاجتماعية

ينقسم اليسار بين اتجاه يركز على أولوية الهوية الاجتماعية-البرنامجية، واتجاه يشدد على الهوية الفكرية. و يعتبر الاتجاه الأول أن تقصير اليسار يكمن في تغيبه في الممارسة الفعلية (وليس في النصوص في النظام الداخلي والبرنامج السياسي والاجتماع) القضايا الاجتماعية المختلفة. في حين يعتبر الاتجاه الثاني أزمة اليسار تتمثل "في التراجع الفكري والضعف النظري لدى أحزاب وفصائل اليسار، إلى جانب حالة الاغتراب عن الواقع، ومن ثم فشل هذه الأحزاب في وعي الواقع... وفي هشاشة وضعف الوعي في معظم الهيئات القيادية، التي عاشت نوعاً من غياب الوعي الماركسي أو اللامبالاة ... إلى جانب الاغتراب أو العزلة عن قواعدها التنظيمية وجماهيرها، فضلاً عن حالة الجمود الفكري والتنظيمي البيروقراطي و تراكم المصالح الطبقية الانتهازية بتأثير العلاقة مع هذه السلطة أو هذا النظام أو ذاك".  ويشير كدليل على هذه الأزمة الضعف الشديد للتأثير اليسار "أو غيابه في أوساط الجماهير، بدليل اشتعال الانتفاضات العربية دونما أي دور ملموس لأحزاب وقوى اليسار فيها"[23].

 

لم تعد معظم أدبيات قوى اليسار في العالم العربي (وفي الدول التي تتناولها أوراق هذا الكتاب) تعتمد الماركسية–اللينينية   كمرجعية  وحيدة  أو حتى أساسية في تحديد هوية  الحزب اليساري وفي تحديد الأدوات الفكرية لفهم وتحليل الواقع  ولا كمحدد لبنية التنظيم الداخلية أو بعلاقة الحزب مع الجمهور (باعتباره الحزب القائد والطليعي للطبقة العاملة). لا تزال مجموعات هنا وهناك تعلن التزامها بالماركسية اللينينية  وتتبنى مقولات قادة شيوعيين،  لكن معظمها  مجموعات حلقية  صغيرة أو من أفراد[24].  لعل السبب الرئيس وراء  التحول في المرجعيات الفكرية والتنظيمية لليسار في العالم العربي (وخارجه)  يعود لفشل التجربة الاشتراكية السوفيتية (واعتماد اقتصاد السوق الرأسمالي من قبل قيادة الحزب الشيوعي الصيني).  معظم المراجعات التي جرت داخل الأحزاب الشيوعية واليسارية الأخرى استخلص، بدرجات متفاوتة من الوضوح، قصور المقولات التي اعتمدت بناء على المرجعية السوفيتية في تحليل وفهم الواقع المعاش من قبل اليسار. كما تولد إدراك، بهذا القدر أو ذاك،  للتغييرات التي دخلت على  هذا الواقع  الفعلي (وليس المتخيل في الكتابات الكلاسيكية) في البنية الاقتصادية –الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى  السياسية، في العالم المعاصر، والتي شملت تغيير بنية وحجم الطبقة العاملة، والتوسع في حجم الطبقة الوسطى ودورها (وتقلص حجم ودور البرجوازية الصغيرة) وصعود دور وتأثير البرجوازية المالية والتجارية، والشركات المتعددة الجنسيات و العولمة الرأسمالية النيوليبرالية التي شملت معظم أرجاء الكرة الأرضية تقريبا، و الانتفاضات ضدها في معظم بلدان العالم، والتطور السريع جدا في وسائل الاتصال والمواصلات؛ وتراجع دور النقابات في الدول الرأسمالية المتطورة. وفي العالم العربي ترتب على لبرلة الاقتصاد وتقليص دور الدولة الرعوي (من الرعاية) معدلات عالية من البطالة  (وبشكل واسع بين فئات الشباب) والفقر في الدول العربية غير النفطية ( وفي بعض الدول النفطية) وتوطد السمة الريعية  للدول النفطية ولدول عربية أخرى.

 

أمام حقيقة أن "الخارطةُ السياسيّةُ الجديدةُ للعالم لا تعترف باليسار كما كان يحدَّد في السابق"،  يستخلص يساريون أنّ "الواقع الجديد يستوجب... ولادةَ يسارٍ جديدٍ يبني هويّتَه على نواةٍ مستقلّةٍ عن ذاك الصراع، وعلى بحثٍ جادٍّ ومتحرِّرٍ من أسْر المفاهيم المنجَزة عمّا يحقّق بالفعل مصالحَ الطبقات الشعبيّة، سواء بتعبيراتٍ أهليّةٍ أو نقابيّةٍ أو سياسيّةٍ أو سواها"[25].

 

في أسباب هامشية أحزاب اليسار في العالم العربي

بعض مثقفي اليسار يرىأن اليسار الحالي في العالم العربي  قوى معظمَها محدودُ الحجم والتأثير.  ولذا فهم يفضلون الحديث عن "مشروعَ يسارٍ عربيٍّ جديد؛ ثمة بقايا من جهة، وأجنّةٌ من الجهة الأخرى. والكلّ محدودٌ جدّاً: البقايا قياسًا بماضيها، والجميعُ قياسًا بمجتمعاتهم.... لقد حصل احتضارٌ وموتٌ وفناء، والمطلوب إعادةُ بناء! لم تعد المسألة بالنسبة إلى اليسار العربيّ تفسيرَ "الأزمة" بقدْر ما هي معرفة "ما العمل؟"... وهذا السؤال نفسُه مطروحٌ لدينا في ساحةٍ لم يعد فيها يسارٌ جديرٌ بالذكر....غير أنّ الأهمّ يبقى أنّ أمامنا مشروعَ يسار، بينما نقف في حاضرٍ يتميّز بشبه غيابٍ لليسار.... وإذا قارنّا بين الحركة الشيوعيّة الأوروبيّة منذ الخمسينيّات، والحركةِ الشيوعيّة العربيّة، فسنرى الفارق جليّاً في ما يتعلّق بالدور السوفياتيّ: ففي حين تقلّصتْ كثيرًا قدرةُ السوفيات بعد السبعينيّات على التأثير في معظم الأحزاب الأوروبيّة، كانت تبعيّةُ العديد من الأحزاب الشيوعيّة العربيّة للسوفيات كاملةً إذ ارتهنتْ إلى حدٍّ كبيرٍ بدعمهم المادّيّ بعد أن فقدتْ زخمَها الخاصّ بسبب تعرّضها للقمع... والمقارنةُ مع كوبا مفيدةٌ في هذا الإطار: فقد اضطرّت كوبا، بسبب الحصار الأميركيّ الخانق المستمرّ، إلى الارتهان بالاتحاد السوفيتي اقتصاديّاً، بما جعلها تَخضع لسياساتٍ انتقصتْ من دورها الثوريّ؛ لكنّ زخمَ الثورة الكوبيّة وتماسكَ قيادتها في استقلالها عن موسكو لجَما ارتهانَ التجربة بحيث استطاعت كوبا أن تستمرّ في الصمود بالرغم من انتهاء الاتحاد السوفيتي، ثم جاء فكُّ عزلتها في أميركا اللاتينيّة مع المدّ اليساريّ الجديد ليصلّب صمودَها ". لكن تردي الوضع الراهن لليسار في العالم العربي لا  يحول دون الانتباه إلى "الأثر الإيجابيّ أو التقدميّ لنضال القوى العمّاليّة والاشتراكيّة في المجالات الوطنية والاجتماعية، وأعني ما حقّقتْه في مجال المقاومة ضد الاستعمار والصهيونيّة، أو في العملين النقابيّ والنسويّ، وكل ما يتعلق بالحقوق وحركة التأميمات وغير ذلك"[26].  

 

الدولة الوطنية تحاصر اليسار

يتساءل أحد الكتاب اليساريين عن أسباب هزيمة اليسار العربي بأطيافه المختلفة ويجيب: "هزمته، أولاً، الدولة الوطنية الوليدة التي اعتقدت، بصدق، أن آمال الأمة تقضي بوحدة الأمة، فلا شقاق ولا اختلاف، منتهية إلى سلطة أحادية، يتجسّد فيها المجتمع والمثقف والحزب والصحيفة والنقابة، تضع كل شيء داخلها ولا تترك خارجها شيئاً. وهزمته، ثانياً، هزيمة 1967، التي هزمت الدولة الوطنية وكل ما احتفظت به من "الشعارات التنويرية" و"القومية". تم توطيد الهزيمة، مرة ثالثة، بتحالف، معلن أو مضمر، بين السلطات القمعية والدولار النفطي الذي روّض، بنسب مختلفة، الأحزاب والمثقفين وعمل، أولاً، على استئصال ما لا يتفق مع "الأصالة"... يتأمل كريم مروة }أحد قادة الحزب الشيوعي اللبناني التاريخيين{.. هذا المشهد العربي كله ذاهباً إلى الجوهري، أي شروط الحداثة الاجتماعية، التي لا سياسة ولا أحزاب ولا مستقبل إلا بها. يصبح اليسار، بهذا المعنى، مجازاً نهضوياً واسعاً، اجتماعياً ووطنياً وقومياً في آن، لا يختزل إلى «حزب» واسع الطموح أو فقير الهموم. وتصبح الدعوة إلى التنوير، رغم «هزيمة الكلمة»، دعوة يسارية بامتياز، «تحلم» بمجتمعية السياسة والثقافة قبل أن ترى إلى الأشكال الحزبية القائمة .... يدعو كريم مروة، في كتابه «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» إلى مبدأ المساواة، حيث للبشر حقوق متساوية في العمل السياسي، وحيث الاعتراف بالمساواة في السياسة مدخل إلى النهضة، ومبتدأ لبناء أحزاب جديدة، تتوزع على اليمين واليسار معاً. يظل تعبير اليسار، في الحالات جميعاً، مجازاً مركباً، يتضمن الوطنية والتنوير والدفاع عن المعرفة، والانتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن الحاضر إلى المستقبل. ومن دون هذه العناصر المتداخلة يغدو تعبير اليسار فارغاً، ... اليسار مشروع وطني نقدي وهوية غير مكتملة وموروث وسيرورة، لها شروطها، ترهّن الهوية والموروث، وذلك الفكر التنويري الممتد من الطهطاوي إلى قسطنطين زريق، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل وسمير أمين، ومن معارك أحمد عرابي ويوسف العظمة وعبد القادر الحسيني إلى المقاومة الوطنية اللبنانية"[27].             

فشل التجربة الاشتراكية كما جسدها الاتحاد السوفيتي

معظم الأدبيات تعيد وهن  اليسار العربي الراديكالي الراهن إلى فشل التجربة الاشتراكية كما جسدها   الاتحاد السوفيتي  (وبدرجة أقل  الصين الشعبية) لاعتبارات عدة ؛ أولها أن الاتحاد السوفيتي  شكل حليفا استراتيجيا لليسار في "العالم الثالث" في مواجهة القوى الاستعمارية واختفائه غير من موازين القوى الدولية في مواجهة هذه  القوى وحلفائها المحليين، وثانيهما، و هو السبب الأهم يكمن في الإجابة على سؤال "لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع ؟! ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية ؟! ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية؟!"  الواجب وجه أحد أهم قيادات اليسار الفلسطيني في اعتماد اليسار العربي "بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة ، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية... وإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته... وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي"[28].   والسبب الثالث الهام يعود إلى درجة عالية من الجمود التنظيمي تجلى في اعتماد اليسار العربي على نموذج التنظيم الداخلي للحزب الشيوعي وللدولة وتغيبه الديمقراطية (كممارسة تعتمد على قيمتي الحرية والمساواة معا) سواء في علاقات الحزب الداخلية وفي علاقات الحزب مع المجتمع حيث سادت أشكال تعتمد على الأوامرية والفهم الأبوي  التثقيفي لعلاقة مع الشعب (تحت مسمى المركزية الديمقراطية الممارسة كمركزية بيروقراطية). لكن لا يكتمل تحليل أسباب وهن اليسار،الشيوعي وغير الشيوعي، بدون التذكير بما تعرض له معظم  أحزاب اليسار العربي من قمع وتنكيل على يد أنظمة ما بعد الاستقلال الوطني، وهو أمر  تشير إليه  معظم الأوراق الواردة في هذا الكتاب.

 

هناك من اليسار من يرى أن الواقعُ العربيُّ الراهنُ  لا يُقرأ "على ضوء الماركسيّة (وهو أمرٌ ممكنٌ بشكلٍ ما)، وإنما تُقرأ الماركسيّةُ على ضوء تحوّلات ذلك الواقع، بما يعترف بأولويّته على النظريّة، ويَصْرف المفاهيمَ الجاهزةَ عن الطبقات والصراع الطبقيّ، وينفي "كيف؟" بـ "لماذا؟"، منتقلاً من توصيف الطبقات إلى شرح أسباب ضمورها والتباسها، ومن فلسفةٍ أحاديّةٍ (هي الماركسيّة) إلى فلسفةٍ محتملةٍ متعدّدةِ العناصر". وهو يرى إلى ضرورة "الاعتراف بالأزمة في شكلها الراهن، من دون مقايساتٍ تستدعي الماضيَ أو تستقدم المستقبلَ اعتمادًا على تفاؤلٍ متواترٍ قوامُه "أزمة الرأسماليّة المتجدّدة". ويستطرد  معتبرا أن المجتمعُ العربيّ،  سمح "في زمنٍ مضى، بـ "اختراع" الطبقة العاملة، بسبب وجود "برجوازيّة كولونياليّة" (بلغة مهدي عامل)، قبل الوصول إلى مرحلةٍ راهنةٍ تحتاج إلى "بناء المجتمع العربيّ" الذي اختُصر إلى سلطاتٍ تمنع السياسة، وإلى "أغلبيّةٍ خاضعة،" أو إلى "جماعاتٍ" لا تعرف معنى السياسة لأنها لا تعرف معنى الفرد والفرديّة المستقلّة". ويستخلص بأن إعادة تأسيس  اليسار الشيوعي ينبغي أن تتم "بعيدًاً عن أصوليّةٍ إيديولوجيّةٍ تحتفي بالواحد وترفض المتعدّد، وعن أصوليّاتٍ تنظيميّةٍ تقول بـ "اللجنة المركزيّة" و"المكتب السياسيّ" و"المركزيّة الديمقراطية"، وتبشّر بالجديد وتنقضه في آن". وأن المطلوب هو "توليدُ حركةٍ شعبيّةٍ جديدة، انطلاقاً من الحاجات اليوميّة، ومن ضرورة إعادة بناء الهويّة الوطنيّة والقوميّة.
ومع أنّ الهويّة الإيديولوجيّة ـ السياسيّة ضرورةٌ أكيدةٌ لكلّ حركةٍ نضاليّةٍ تبحث عن أفق، فإنّ على الهويّة الشيوعيّة المحتملة أن تنتسب، قبل أيّ شيءٍ آخر، إلى نقد أخطاء الحركة الشيوعيّة الماضية... ولهذا فإنّ الحديث عن "علميّة الماركسية" لا معنى له، لأنّ المطلوب هو آثارُها الماديّة في الفعل السياسيّ؛ مثلما أنّ الحديث عن "نظريّةٍ ثوريّةٍ جديدة" فقير المعنى، لأنّ المعنى الحقيقيّ للنظريّة يقوم في "البحث الجماعيّ" عنها"[29]


 الجمود الفكري والتنظيمي و ظاهرة الانشقاق في أحزاب اليسار

توجد أهمية إلى ما تعلمه الانتفاضات الشعبية من دروس لتنظيمات اليسار في العالم العربي، وهو أمر تبرزه الأوراق المتضمنة في هذا الكتاب بشيء من التفصيل. وهو الحاجة إلى إدراك مخاطر الجمود الفكري والتنظيمي على دور اليسار والحاجة إلى ربطه هذا الجمود بتفشي ظاهرة الانشقاقات داخل تنظيمات اليسار، وبغياب تجارب ناجحة في تشكيل كتل يسارية تعمل وفق مشروع تغيير موحد في المجتمع المعني أولا وبإستراتيجية موحدة على صعيد العالم العربي ككل[30].  

 

 وهن اليسار ساهم  في تعريض المجتمعات العربية لأنواع ثلاثة من المخاطر: "النوع الأول هو الاستبداد في السلطة الذي غيَّب وهمش الدور المفترض للدولة ولمؤسساتها، وعمّق التخلف ... وفاقم الظلم الاجتماعي إلى الحدود القصوى، وجعلها مكشوفة أمام التدخلات الخارجية فيها، من كل الجهات والاتجاهات والمطامع. النوع الثاني هو الاستبداد في المجتمع  الذي تمارسه الأصوليات الدينية بتنويعاتها المختلفة، من خلال استيلائها على عقول ومشاعر كثرة من الناس الذين أصيبوا باليأس من احتمال إحداث التغيير في حياتهم.  وهو الذي أحدثه فشل مشاريع التغيير باسم اليسار، وانحسار وتراجع وتهميش دور اليسار في بلداننا.النوع الثالث هو ما يتمثل بهمجية الرأسمال المعولم، دولاً ومؤسسات مالية وصناعية، هذا الرأس مال المعولم  الذي يمارس من دون رادع التدخل في شؤوننا بأشكال ووسائل وصيغ مختلفة  بهدف التحكم بمصائر بلداننا وشعوبنا بالمفرد وبالجمع"[31]

اليسار والتحولات في المنطقة والعالم

تطرح التحولات التي تشهدها المنطقة  والمتغيرات على الصعيد العالمي تحديات على قوى اليسار في  العالم العربي. الانتفاضات الشعبية العربية طرحت الحاجة الملحة إلى التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدول العربية على أسس ديمقراطية عميقة. وهي وإن استنفرت قوى داخلية وقوى خارجية  ضد أهداف هذه الانتفاضات ولاحتوائها، إلا أنه بات مستحيلا العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العام 2011, ومن المتوقع أن يستمر الصراع الداخلي والخارجي بين أجندتين متعارضين فترة قد تطول؛ بين أجندا ثورية تستهدف  تشييد نظم سياسية ديمقراطية  همها مصالح الشعب بفئاته الأوسع؛ والثانية أجندا لا تريد تغييرات بنيوية تهدد استقرار مصالح الولايات المتحدة   وحلفائها في المنطقة (إسرائيل والأنظمة الخليجية النفطية المحافظة). في سياق هذا الصراع على اليسار استجماع قواه دفاعا عن أهداف الانتفاضات الشعبية.  ولا بد في السياق ذاته من ملاحظة  أن الولايات المتحدة  سعت ولكنها فشلت  في تثبيت قيادتها على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وملاحظة العودة إلى عالم متعدد الأقطاب، وما كشفه انفجار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية الأخيرة (وهي تفجرت أول ما تفجرت في الولايات المتحدة) من تناقضات في النظام الرأسمالي وبخاصة في صيغته النيوليبرالية.

 

وعلى صعيد المنطقة فشلت الولايات المتحدة في إنجاز "عملية سلام" على الساحتين الفلسطينية والعربية،  وفي التعامل مع الانتفاضات العربية والسيطرة على  مساراتها[32].  استعادة اليسار لدوره  باتت قضية وجودية يؤشر إليها  ما تحمله العولمة الرأسمالية بأبعادها المختلفة من تداعيات (مقصودة وغير مقصودة) ومن تناقضات (توحيد العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة  زمنيا ومكانيا وتذريره  (تفتيته) عبر استنفار الهويات الموروثة المذهبية والأثنية والقومية والدينية والمناطقية)، ومن توسيع للفوارق بين الفقر المدقع والغنى الفاحش.  وعلى اليسار أن يستنبط الأساليب   الناجعة لإفشال  سيطرة الخارجية (والأمريكية خاصة) على المنطقة كمصدر هام جدا للنفط والغاز وكمستقبل لعائداتهما في مصارفها وأسواقها المالية، وفي التوعية لما لتداعيات تبعية العالم العربي الاقتصادية والتجارية   للمراكز الرأسمالية، ولمواصلة التزام الإمبريالية (الولايات المتحدة بشكل خاص) بحماية إسرائيل وضمان تفوقها العسكري على الدول العربية لإبقائها أداة ضاربة بيدها في المنطقة.

 

يُتوقع من اليسار التمايز عن القوى الأخرى بدوره التنويري (الفكري والثقافي)  والتقدمي الاجتماعي (الدفاع عن مصالح الفئات المسوقة والمحرمة والمستغلة والمهمشة) والتعبوي التمكيني (المساهمة في تنظيم وتمثيل الفئات الشعبية)،  وفي بذل اهتمام وجهد أعمق لفهم الواقع  ومتغيراته، وبالتالي في صياغة استراتيجيات للتغير. كما يٌتوقع من اليسار جهد أوسع في بناء تضامنيات تربط الشعوب المتضررة من السيطرة الإمبريالية  الاقتصادية (عبر الشركات العابرة للجنسيات) والعسكرية (حيث التدخل العسكري المباشر وغير المباشر) والسياسية عبر أدوات متعددة منها المساعدات المالية والعسكرية وغيرها، وعبر الوسائل الأمنية والمخابراتية.  كما  يُتوقع أن يأخذ اليسار  دورا متقدما في   دعم الحركات الاجتماعية  العالمية  الصاعدة ضد الرأسمالية  والعنصرية والتمييز وتدمير البيئة جريا وراء الربح. على اليسار إنجاز برامجه في ظل غياب المعسكر الاشتراكي وحركة عدم الانحياز وصعود حركات التحرر في العالم  وفي ظل حضور العولمة الرأسمالية وصعود التيارات السياسية الدينية  ووجود الحركات الدينية والمذهبية والاثنية، واتساع الفجوات الاجتماعية ومعدلات الفقر والبطالة.

 

 هذا الحجم من التحديات في ظل الواقع الذي تعيشه قوى اليسار دفع  بعض المثقفين اليساريين  إلى التعبير عن "عبثية انتظار مبادرة من قيادات اليسار الحالية للقيام بالتغيير المطلوب بسبب عجز بعضها  التام عن تولي المهمة ورفض البعض الآخر له دفاعا عن مواقعه ومصالحه المكتسبة. وتفشي العصبوية شبه القبلية داخل صفوف ما تبقى من تنظيمات بسارية".  ولعل دور الشباب في الانتفاضات الشعبية العربية هو ما يفسر رهان الكثيرين على "العناصر الشابة" لانتشال اليسار من مأزقه ونقله إلى "ميدان الفعل السياسي ومن حيز النقاش إلى ميدان المبادرات العملية ذات الفرص الحقيقية بالنجاح "[33].  كما دفعت الانتفاضات الشعبية إلى دعوة  اليسار إلى "استعادة وجهه التعبويّ الطبقيّ، وبالتالي ممارسته السياسيّة الكفاحيّة، والتخلّص من عقيدة "الرسالة التاريخيّة،" الجامدة والمؤدّية إلى تذيُّل اليسار لتيّارات الهويّة"[34]. ومن اليساريين من يركز على ضرورة تخطي القيادات الراهنة لصالح قيادات شابة ويشدد على أهمية تطوير التنظيم لأن "الخلل الأول اليوم في اليسار وبقايا اليسار الفلسطينيّ والعربيّ هو عجزُ "القيادات" وعدمُ كفاءتها، وتحديدًا فقرُ المنظّمين من الطراز الرفيع أو غيابُهم. .... فليس ثمة فرصةٌ لبناء يسارٍ أبدًا. وهؤلاء لا يكونون عادةً إلا من الجيل الشبابيّ المتخفّف عائليّاً، الذي لم تستنزفه الشيخوخةُ (البيولوجيّة) بعد"[35].

 

إضاءة على أوضاع  اليسار وقضاياه في ست حالات يتناولها هذا الكتاب

سجل سبق مناقشة عامة تمس أوضاع وانشغالات اليسار في العالم العربي يتناول هذا الجزء على القضايا التي تناولتها الأوراق الست في هذا الكتاب، من حيث هي قضايا تشترك فيها محمل الحالات، وأبرز ما بين يميز بينها من أوضاع وقضايا.  كل ورقة من هذه الأوراق كيان قائم بذاته وكتبت كل منها  بشكل مستقل تماما عن الأوراق الأخرى أو بمعرفة محتوياتها. لذا يمكن قراءة ومناقشة  كل منها بمعزل عن الأوراق الأخرى. هناك عدد من الملاحظات حول ما تطرحه هذه الأوراق، أبرزها:

 

 الملاحظة الأولى أن خمس حالات من الحالات الست المتناولة في هذا الكتاب مسكوبة  باستقطاب سياسي حاد، شهد أربع منها (العراق، سوريا ولبنان، السلطة الفلسطينية) أشكالا من الاقتتال الداخلي وأشكالا من السيطرة الجغرافية للأطراف المتعادية[36]،  والحالة السادسة (الأردن) لا تخلو من حيثيات يسعى البعض إلى  لتحويلها إلى قاعدة لاستقطاب سياسي (بين الأردنيين من أصول شرق أردنية ومن هم من فلسطينية). أما بين الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948 (إسرائيل)، فالاستقطاب حاصل على أساس سياسي-أثني أو قومي (بين المستوطنين اليهود وبين السكان الأصليين الفلسطينية الذين باتوا أقلية في وطنهم الأصلي).

 

 الملاحظة الثانية تخص ما شهده اليسار في الحالات الست من تراجع واسع في العقود الثلاثة الأخيرة، وبشكل أوضح منذ عقد الثمانينات من القرن الأخير . لكن من الخطأ اختزال الاستقطاب الحاصل في العراق كما في  لبنان وسوريا وفلسطين إلى مجرد اعتبارات دينية طائفية أو مذهبية أو أثنية،  صحيح أن هناك في اعتبارات طائفية ومذهبية وقومية (باستثناء  الاستقطاب الحاصل بين "فتح" و"حماس") لكن جميعها تتغذى بالدرجة الأولى من اعتبارات  سياسية تتصل بتوزيع السلطة (السلطان) والموارد والامتيازات: وهذا يفسر تشكيل الأحزاب (على صعيد القواعد أو النخب أو كليهما) على أسس طائفية أو مذهبية أو أثنية. وهذا يولد  حقلا سياسيا مفككا أو قابل للتفكك السريع كما حصل في العراق وسوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية ونظام الأرتايد القائم في إسرائيل. هذه البني للحقل السياسي تعرضه للانكشاف الخارجي والابتزاز الداخلي ويعطل جهود بناء الدولة الديمقراطية المدنية، وهي ما يوفر الشرط الأرحب لنمو اليساري العلماني.

 

الملاحظة الثالثة المشتركة بين الحالات الست تخص ظاهرة الانقسامات التي شهدتها تنظيمات اليسار العربي، وفي المشرق العربي  بشكل خاص، وندرة  ظاهرة تشكيل قوى اليسار كتل تاريخية في مواجهة الكتل السياسية الأخرى. والملاحظة الثالثة تتصل بحقيقة أن جميع الحالات (باستثناء إسرائيل) تعاني من أوضاع معيشية صعبة ومتفاقمة، تتمظهر في معدلات عالية من البطالة (وتحديدا بين الشباب) ومظاهر من الفقر المدقع ومن سمات دولة أو سلطة ريعية  ومن هزال في قطاع الإنتاج الزراعي-الصناعي،  ومن سياسة اقتصادية  نيوليبرالية.  كما أن جميع الكيانات العربية  الواردة في البحث تعرضت خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى هزات سياسية و اجتماعية  واقتصادية شديدة القسوة والقوة.

 

الملاحظة الرابعة  تتمثل في أن اليسار في  الحالات الست بات يواجه  تيارا إسلاميا سياسيا كتيار جماهيري منظم وكتيار يملك رؤية شاملة مسنودة بنصوص دينية تعطى بعدا سياسيا. ويشكل هذا التيار خصما عنيدا لا يستطيع اليسار تجاهله. لكن  هذا التيار له مكمن ضعف استراتيجي يتمثل في خلو جعبته من الحلول  لمشكلات الناس الدنيوية، فلا سياسية اقتصادية لديه تختلف عن تلك التي أسقطت العديد من الأنظمة العربية وتسببت في استشراء البطالة والفقر والغنى الاستعراضي. وليس لدى هذا التيار التوجه لبناء دولة ديمقراطية مدنية.

 

 تمايز في الحقول السياسية والبنى الاقتصادية والاجتماعية

تتمايز الأوضاع التي تعيشها أحزاب  وقوى اليسار والتحديات التي تواجهها  وفق خصوصيات الحقل السياسي التي تقييم فيه كل منها والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية التي يتفاعل معها الحقل. هذا يجعل وضع اليسار الفلسطيني الأكثر تعقيدا  (وإن ليس بالضرورة الأكثر صعوبة) بحكم تعدد الحقول السياسية التي يقيم فيها يعمل فيها وفق موجباتها، بل والتصارع بالضرورة، مع هذه الموجبات. غياب الدولة الوطنية الفلسطينية فرض على الحركة الوطنية  أن تكون والدة الحقل السياسي الوطني  والمهيمنة علية في آن ، إلى أن إلى أن  اقتحم الحقل قوى  ولدت خارج الحركة الوطنية الفلسطينية (كما مثلها منظمة التحرير) مشككا في شرعية حقلها ومرجعياته وطارحا رؤية وبرنامج وإستراتيجية مغايرة (الإسلام السياسي ممثلا، بشكل رئيس،  بحركة "حماس").  التحدي لمنظمة التحرير من الإسلام السياسي شمل قوى اليسار التي شكلت منذ بداية الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة جزءا فاعلا ومندمجا في مؤسساتها. دخول القوى الإسلامية للحقل السياسي ظاهرة شهدتها الحقول الأخرى بجداول زمنية وآليات متباينة نوعا ما، لكن في الحالات جميعها كان في مرحلة ما لقوى إقليمية وخارجية دور في تسهيل اختراق  قوى السياسية للحقول السياسية الوطنية، دون أن يعني هذا  غياب الأوضاع المحلية المهيأة لذلك، وهو ما توفره تفسيرا له أوراق المتضمنة في هذا الكتاب.

 

توضح الأوراق التباين الواسع في  حدة وأساليب القمع التي تعرضت لها قوى اليسار في الحالات الست، وهي تتباين وفق محددات الحقل السياسي  وتحولاته. ففي حين تمتع اليسار في لبنان  بحرية كاملة في العمل والتنظيم العلني، بقي في الأردن ممنوعا من العمل والنشاط العلني منذ أواسط الخمسينات (باستثناء حركة الإخوان المسلمين التي اعتبرت حركة دينية وليست حزبا سياسيا ولكونها ابتعدت عن العمل السياسي في تلك الفترة) وحتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي ليعود للعمل  العلني المباح منذ أوائل التسعينات. في سوريا جرى احتواء اليسار الشيوعي في إطار الجبهة القومية التقدمية بقيادة حزب البعث، في حين تعرضت تنظيمات وشخصيات يسارية إلى قمع أجهزة الدولة التي سيطر عليها حزب البعث. وفي العراق، حيث كان الحزب الشيوعي في خمسينات وستينات القرن الماضي حزبا جماهيريا، والتنظيم اليساري (والشيوعي) الأكبر في المشرق العربي، تعرض الحزب، وبخاصة بعد تسلم نظام البعث بقيادة صدام حسين الحكم في العراق إلى أشكال قاسية من القمع والتنكيل والتصفيات الجسدية والتهجير. وفي الحالة الفلسطينية نجد تباينات واسعة حيث سرى على كل تجمع فلسطيني قوانين الحقل السياسي حيث وجد هذا التجمع، مع تسهيلات تتباين حسب علاقة النظام بمنظمة التحرير وفصائلها. فالفصائل المنضوية في منظمة التحرير كان يحذر عليها العمل العلني في الأردن منذ العام أحداث أيلول عام 1970، وفي المناطق الفلسطينية المحتلة حظر عمل المنظمات السياسية الفلسطينية (يسارها ويمينها) منذ العام 1967 وحتى اتفاق أوسلو وقيام سلطة فلسطينية في العام 1994.  أما التنظيمات التي جمهورها فلسطيني داخل الخط الأخضر فقد سرى عليها، كما على الأحزاب الأخرى، قانون الأحزاب الإسرائيلي، وفي لبنان تمتعت التنظيمات الفلسطينية بحرية العمل منذ أواخر الستينات وحتى خروج المنظمة من لبنان عام 1982، وإن بقيت تنشط بحذر داخل المخيمات.   

 

 توضح الأوراق كما كان موضوع إدارة التحالفات (الداخلية والخارجية، بما فيها مع أنظمة عربية حاكمة مستبدة) حيويا لقوى اليسار، وأحيانا حاسما، في تراجع شعبيتها. كما  حصل مع الأحزاب الشيوعية في العراق وسوريا  (حين تحالفت مع الأحزاب الحاكمة وتحت قيادتها) ولبنان (وتحديدا العلاقة مع سوريا التي فرضت  علاقة انتدابية على لبنان حتى خروجا منه عام 2005)، وحاسما في إبقائها متنافرة وإغلاق الفرص أمام ائتلافها أو توحيدها  (كما بين تنظيمات اليسار بسبب تباين علاقاتها مع  الحكومات العربية و التنافس على التمثيل في مؤسسات منظمة التحرير واتحاداتها عبر العلاقة مع قيادة حركة "فتح") وأحيانا ساهمت في دفعها إلى  الانقسام (كما في الحالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر وخارجه) وفي الأردن وسوريا والعراق ولبنان وغيرها من الدول العربية[37].

 

كما تبين الأوراق تأثير الحظر والقمع على تنظيمات وقوى اليسار من حيث القدرة على النمو والتأثير، لكنها تكشف بشكل لا لبس فيه أن العمل العلني وحرية العمل التنظيمي والسياسي  شرطين غير كافيين  لتحول التنظيم أو الحزب اليساري إلى تنظيم جماهيري. هذا واضح تماما من تراجع نفوذ اليسار في الأردن بعد توفر فرص العمل العلني ومن تراجع نفوذ اليسار الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد اتفق أوسلو وقيام السلطة  الفلسطينية في العام 1994، وواضح من  تراجع دور وتأثير  اليسار في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين  وتوفر حرية للعمل لأحزاب اليسار، بما فيها الحزب الشيوعي، وهو  واضح  من تراجع اليسار اللبناني رغم توفر حرية العمل الحزبي في البلد منذ فترة طويلة. ولا يُستثنى من ذلك تجربة اليسار الفلسطيني داخل الخط الأخضرـ أما تجربة اليسار في سوريا   فبقيت مقيدة بسيطرة حزب البعث الحاكم على مقاليد السلطة السياسية والأمنية والعسكرية وتشابكه مع النخب الاقتصادية في البلد.

 

أسباب  تراجع، كما هي عوامل نمو اليسار تحتاج أولا، إلى موضعته في سياقه المجتمعي (السياسي والاقتصادي-الاجتماعي والثقافي) المحدد تاريخيا. وتحتاج ثانيا  وهو مهم أيضا لدراسة مدى ملائمة  بنيته التنظيمية وبرنامجه السياسي والاجتماعي والثقافي  لاحتياجات مجتمعه  وقدرته على التفاعل مع حقله  السياسي.

 

 لا أعتقد، من تجربتي في العمل السياسي والتنظيمي، أن الوعي النظري يفيد كثيرا في بناء  الحزب اليسار إن بقى مجردا أو نصوصيا؛ فالتبحر بأدبيات الماركسية –اللينينية (وليس الستالينية) وغيرها من أدبيات اليسار الشيوعي وغير الشيوعي أمر مفيد، بل وضروري، على صعيد الإلمام الفلسفي والفكري (أي امتلاك أدوات لفهم  وتحليل الواقع)  لكنه لا يفيد إن لم يتحول إلى ممارسة، أي إلى برنامج عمل يومي ملموس يخدم عملية التغيير نحو المجتمع المنشود، أي  مجتمع أكثر حرية وأكثر عدالة وأكثر مساواة وأكثر تحررا من السيطرة الخارجية (والداخلية الاستبدادية)، وإن لم يسهم في  جعل اليسار حاضرا و فاعلا في الحي والحارة والقرية والمدرسة والجامعة والورشة والمؤسسة، وفي النقابة والاتحاد والمنظمة الأهلية  والحركة الاجتماعية كما في التظاهرة والاعتصام والمسيرة الاحتجاجية، وليكون هذا الحضور الفاعل (الممارسة) هو مصدر للتعلم الدائم.

 

يبرز من خلال الأوراق تباينات هامة في سمات مكونات ومحددات الحقول السياسية التي يشتغل فيها اليسار، ويمكن إبراز عبر التشخيصات التالية:

 

أولا، تنظيمات اليسار الفلسطيني

يواجه الفلسطينيون في إسرائيل نظاما تمييزيا ضدهم  كمواطنين ويتعامل معهم كأقليات دينية وطائفية وليس كأقلية قومية وليس بصفهم سكانا أصليين.  اليسار الفلسطيني يتكون من اليسار التقليدي (الشيوعي) سيق نشوء دولة إسرائيل ويسار غير شيوعي ذو توجه قومي. ويقابل اليسار تيار إسلامي  نشيط. ولم تنجح  حتى الآن هذه التيارات الثلاثة في تشكيل كتلة ذات برنامج حد أدنى موحد في مواجهة سياسة  إسرائيل التمييزية لأسباب واعتبارات تتناولها الورقة عن  اليسار  بين فلسطيني 1948 بالتفصيل.  وإلى أن يتم ذلك ربما على اليسار الفلسطيني  داخل الخط الأخضر  إعطاء جهد أكبر لبناء أطر تنفيذية وتمثيلية الجامعة للأقلية العربية الفلسطينية،  بما في ذلك تطوير بنية ودور"لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية"[38]،  إيجاد هيئات تنسيقية مع الأطر الفلسطينية التمثيلية في الضفة والقطاع وخارجهما حيث يمكن.

 

في الضفة الغربية يفرض على الفلسطينيين نظام  كولونيالي استيطاني و أبارتايد (فصل عنصري) متكامل حيث تقييد حرية الحركة والتنقل من خلال الحواجز العسكرية وجدار الفصل ومن حيث تعرضهم للاعتقال التعسفي وفق نظام طوارئ وضعه الانتداب البريطاني على فلسطين  ويفرض سيطرته على الموارد الطبيعية والحدود والطرق،  ويفرض على قطاع غزة حصار اقتصادي وعسكري وأمني شامل، وفي الشتات توضع تجمعات فلسطينية عدة تحت وطأة قيود تحد من حرياتها المدنية والإنسانية والاقتصادية. هذا بالإضافة إلى غياب أو تغييب المؤسسات الوطنية (وتحديدا مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينة)، وبالتالي غياب قيادة وطنية وإستراتيجية وطنية موحدة في  مواجهة الاحتلال والاستيطان والتمييز، ولإنهاء حالة الانقسام السياسي-الجغرافي بين التنظيمين الأكبر (حركة "فتح" وحركة "حماس").  بالنسبة لليسار  لا يزال في حالة تشرذم وفقدان الوزن منذ قيام السلطة الفلسطينية بعد أن كان له دورا مشاركا ومؤثرا في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة  (الممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية) وفي بلورة استراتيجياتها، بما في دوره  في أطرالقيادة الموحدة للانتفاضة الأولى (في أواخر الثمانينات).   لقد  تراجع دور  الوطني و الاجتماعي والثقافي لليسار الفلسطيني بشكل واسع،  كما تلاحظ الورقة بالتفصيل بعد  اتفاق أوسلو. مع غياب مؤسسات منظمة التحرير  فقد اليسار المؤسسة الوطنية التي انخرط في مؤسساتها السياسية والجماهيرية والمهنية والعسكرية وبات خارج مؤسسات السلطة  وخارج مؤسسات منظمة التحرير بعد أن تهمشت هذه تماما.  أما السلطة الفلسطينية  ذات الشكل والتسميات (وليس الوظيفة)  الدولاني  فقد  باتت تحت سيطرة حركة "فتح" وفي غزة بعد منتصف العام 2007 تحت سيطرة "حماس" وكلاهما يعتمدان على اقتصاد هش وعلى  المساعدات والتحويلات الخارجية ذات الثمن السياسي. إقليميا ودوليا لم يعد لليسار قوى مساندة بعد التحولات النوعية التي دخلت على الإقليم والعالم مع بداية عقد التسعينات من القرن الماضي.  ويفاقم من مأزق الحركة الوطنية (ومن ضمنها اليسار) انغلاق الأفق السياسي أمام  قيادة دولة فلسطينية ذات سياسية أو حل على أساس دولة  ديمقراطية واحدة أو ثنائية القومية، وغياب إستراتيجية لمواجهة المأزق.

 

ساهم تهميش مؤسسات منظمة التحرير (من قبل اليمين الفلسطيني الوطني)  لصالح سلطة فلسطينية (سلطة حكم ذاتي محدود)، إلى شرخ هذه السلطة إلى سلطتين هشتين واحدة في الضفة (تحت سيطر "فتح") والأخرى في غزة (تحت سيطرة "حماس")، سلطتين مكشوفتين تماما للتدخلات  والضغوط الخرجية وبدوت مقومات ذاتية تجعلهما قابلتين للحياة، وسلطة  في الضفة الغربية محاصرة بالمستوطنات الاستعمارية وبجدار  الفصل و بالطرق الالتفافية (مخصصة للإسرائيليين فقط) وبالسيطرة التامة على التجارية الخارجية والحدود، وسلطة أخرى محاصرة تماما من البر والبحر والجو على كثا كسكانية هي الأعلى في العالم.. لقد فشل اليسار الفلسطيني أن يشكل قطبا ثالثا قادرا على إعادة توحيد  الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرر وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية تمثل كل مكونات وتطلعات الشعب الفلسطيني نحو الحرية  وتقرير المصير  والعيش في مجتمع ديمقراطي يجسد قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعي[39].

 

 

ثانيا، اليسار اللبناني

شهد الحقل السياسي في لبنان خلال الأربعة عقود الأخيرة أحداثا وتحولات مهمة من حيث مكوناته  وبنيته السياسية والاقتصادية وعلاقاته الإقليمية؛ فقد مر  بحرب أهلية استمرت من منتصف العام 1975 حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي ،  كما شهد  أكثر من اجتياح وحرب إسرائيلية ا شملت محاصرة واحتلال عاصمته في العام 1982 وإجبار منظمة التحرير على الخروج منه واحتلال إسرائيل لأجزاء واسعة من جنوب لبنان حتى العام 2000، وبروز المقاومة اللبنانية ضد هذا الاحتلال بمبادرة من اليسار اللبناني، ثم بتولي حزب الله شؤون المقاومة (بدعم من سوريا وإيران)، وتحول  الحزب في  الثمانينات  إلى حزب جماهيري (قاعدته الأساسية من الشيعة اللبنانيين) وقوة عسكرية وسياسية وازنة في البلد. وقد نجح حزب الله  في إجبار إسرائيل على الانسحاب من الغالبية العظمى من أراضي اللبنانية في العام 2000، مؤكدا بذلك تحوله لقوة لبنانية رادعة في مواجهة إسرائيل. ومع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني  (رفيق الحريري) في العام 2005، وخروج سوريا من لبنان في العام  تحت ضد سياسي وجماهيري لبناني، دخل لبنان في حالة استقطاب حاد بين كتلتين سياستين؛  كتلة 8 آذار  وعلى رأسها حزب الله (سعت وتسعى على الحفاظ على سلاح الحزب باعتباره سلاح للمقاومة ضد إسرائيل)، وكتلة 14 آذار بقيادة تيار المستقبل  ورئيسه سعد الحريري يركز على حصر السلاح بيد الدولة. وكانت الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في صيف العام 2006 قد زادت من تمسكك حزب الله  وتيار  8 آذار بسلاح حزب الله. تتباين  تحالفات  الكتلتين الخارجية والداخلية. وشهد ربيع العام 2008  شهدت توترا سياسيا وعسكريا  التيارين أدى إلى ما عرف باتفاق الدوحة دون أن ينهي أسباب الخلاف بينها.   وقد تعاقبت منذ ذلك الوقت كلا الكتلتين على الحكم دون أن يلمس مع اللبنانيين تمايزا بينهما في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

 

تراجع تأثير اليسار اللبناني (ممثلا بالحزب الشيوعي اللبناني، وبمنظمة العمل الشيوعي التي لم يعد لها حضور سياسي ملموس) في الحقل السياسي اللبناني بعد كان له حضورا ملموسا في الحركة الوطنية اللبنانية، وهو حضور  خفت مع انتهاء دور هذه الحركة على إثر الغزو الإسرائيلي  للبلد في العام 1982 وخروج منظمة التحرير منه[40]. ويستمر  الحقل السياسي اللبناني أسير علاقات وتحالفات قواه السياسية الخارجية، وأسير  نظام سياسي يقوم على المحاصصة الطائفية[41] وأسير اقتصاد ريعي نيوليبرالي  مدمر لفرص نهوض اقتصاد إنتاجي  تجديدي ، ودولة تفتقر لسياسة اجتماعية تجاه مواطنيها.  في هذا الشرط الموضوعي  لا يزال  اليسار اللبناني يفتقد للشرط الذاتي الضروري لتحويله من حالة نخبوية إلى حالة جماهيرية تتخطى التكوين السياسي الطائفي للحقل السياسي، وهو ما تفصله الورقة الواردة حول اليسار اللبناني في هذا الكتاب[42].

 

ثالثا، اليسار العراقي

خبِرَ المجتمع العراقي منذ عقد الثمانينات حروب عدة؛ حرب مع إيران دامت ثماني سنوات، ثم اجتياح الكويت عام 1990  وما تبعها من حرب قادتها الولايات على العراق لإخراجه من الكويت، وفرض عقوبات على النظام طالت تأثيراتها الفئات الأوسع من الشعب العراقي. كما تولى النظام شن حملات عسكرية على  مكونات طائفية وأثنية من العراق هدفت السيطرة وإخماد انتفاضات فيها. وكان أخر هذه الحروب  والحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد نظام صدام حسين في العام 2003 نتج عنها سقوط النظام  وتفكيك الدولة  وحل الجيش العراقي وحظر حزب البعث. نتج عن هذه الإجراءات  معاقبة طائفة  بكاملها (السنة) عقابا جماعيا بسبب سياسة النظام المنحل.  هذا دفع فئات من هذه الطائفة إلى اللجوء إلى العنف بكل أشكاله، كرد على ما تعرضت له من تهميش  واستثناء.

 

تركت هذه الأحداث تأثيرات  بنيوية عميقة على المجتمع والاقتصاد والثقافة في العراق، وعلى بنية  ومكونات حقله السياسي، شملت هذه اليسار العراقي كما توضح الورقة  عن اليسار العراقي في هذا الكتاب. أهمية متابعة وضع اليسار في العراق  تعود إلى التحولات التي دخلت على مسيرة الحزب الشيوعي العراقي الذي فقد الجماهيرية الواسعة التي اكتسبها في عقدي الخمسينيات والستينات من القرن الماضي نتيجة تعرضه لحملات  القمع والتنكيل على يد حزب البعث  بقيادة صدام حسين، و نتيجة ما وقع فيها  من أخطاء سياسية وبخاصة في إدارة تحالفاته بما في ذلك مع حزب البعث الحاكم بعد تولي الحزب السلطة عبر انقلاب عسكري (كما حصل في سوريا) وفرض نفسه كالحزب القائد الأوحد للدولة والمجتمع، كما يتضح من الورقة التي تلحظ أيضا ارتباك مواقف الحزب على أثر  الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وما تبعها من تطورات.  ولعل التحدي الأكبر لليسار العراقي هو  مواجهة النظام السياسي الذي نشأ بعد احتلال  العراق، القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية.

 

التسوية الأميركية الإيرانية حول العراق جعلت أحزاب السنة يشعرون بالغبن والاستثناء، الأمر الذي أبقى البلد في حالة من التوتر الداخلي ولدت بيئة مشجعة على العنف الدموي ضد المدنيين. وما يجري في العراق يبين  بشكل واضح أن جذر الطائفية  سياسي، أي يخص بنية علاقات القوى بين المجوعات الطائفية (والعرقية والمذهبية والأثنية وحتى العاشائرية) داخل المجتمع وتمتع بعضها بامتيازات على حساب طوائف ومجموعات أخرى تتعرض للحرمان والظلم. ولذا فإن تحييد تأثيرات الطائفية يستدعي إعادة التوازن المفقود بين القوى المجتمعية، إي إنهاء ظواهر الامتيازات والحرمان والتهميش (أي اللامساواة البنيوية) عبر تشريع مساواة  جميع  المواطنين لتشمل المساواة في فرص الحياة بكل ما قد يستدعيه ذلك من تمييز إيجابي  للمجموعات التي تعرضت للحرمان والظلم، وما يستدعيه  من وضع حلول عادلة للأقليات القومية والأثنية (كالكرد في العراق وسوريا على سبيل المثال)، وتوفير الحماية الضرورية للمجموعات المعرضة لفقدان امتيازاتها لمنع توليد ظلم وحرمان ضدها.

 

قد يكون صحيحا أن الطائفية ليست جديدة على الحقل السياسي العراقي الدولة العراقية، بل  وأن تعبيراتها طالت الأحزاب السياسية اليسارية كما " حصل حتى داخل الحزب الشيوعي نفسه.. حيث انفصل الشيوعيون الأكراد عن الحزب الشيوعي العراقي لأسباب قومية"[43].  وقد يكون صحيحا  أن سقوط النظام القديم قد وفر "فرصةً نادرة أمام اليسار العراقيّ لكي يعيد تنظيمَ جدول أعماله على قاعدةٍ جديدةٍ وفريدة، قوامُها الإفادةُ من غياب سلطة الديكتاتوريّة لخلق أوسع جبهةٍ ديمقراطية، وللوقوف ضدّ الاحتلال بالمشروع الوطنيّ، وضدّ الطائفيّة بالمشروع التقدميّ، وضدّ العرقيّة بالوحدة العراقيّة، وضدّ الحرب والعنف الإرهابي بمشروع النضال المطلبيّ والسياسيّ والفكريّ. بيْد أنّ ذلك كلّه لم يحْدثْ..."[44].

 

 

رابعا، اليسار السوري

الصراع الجاري في سوريا منذ  آذار 2011 وما  نتج عنه (وما زال) من سقوط  مئات الآلاف من  القتلى والجرحى المدنيين ومن تهجير داخلي وخارجي لملايين  من المواطنين ومن تدمير عمراني واقتصادي  للبلد هو - كما في الانتفاضات الشعبية التي جرت في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين –  نتيجة أزمة عميقة  اجتماعية عميقة تداخلت فيها قوى داخلية مع قوى خارجية سعت وتسعى لحرف أهداف الانتفاضة الجماهيرية التي طالبت بالحرية وإنهاء الاستبداد والفساد.  سوريا أيضا عانت من معدلات بطالة  مرتفعة (وتحديدا بين فئة الشباب كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى) ومن مظاهر الفقر المدقع والغنى الفاحش نمت مع انفتاح الاقتصاد السوري على الليبرالية الجديدة، الأمر الذي  قاد إلى إفقار الأطراف  وسكان الريف وضواحي إثر  تقليص الدولة  لخدماتها الاجتماعية  والمترافق مع غياب للحقوق السياسية والاجتماعية (كحقوق فردية وحقوق جماعية) للمواطن.لكن الفوارق الواسعة لم تقتصر على توزيع الدخل والثروة والموارد بل  شملت توزيع السلطة السياسية،  بحيث بات هنالك "نخب فاحشة الغنى السياسي تفعل ما تشاء"[45].  وبات "عهد بشار الأسد عهد إعادة الهيكلة النيوليبرالية وتفكيك رأسمالية الدولة (عهد أبيه) وتقديم تنازلات أساسية في تركيب الاقتصاد السوري بناء على توجيهات صندوق النقد الدولي. وفي ظله، انتقل الاقتصاد السوري من قاعدته الزراعية الصناعية إلى الخدماتية المالية والعقارية والاستيرادية والمافوية تتربع على رأسها طغمة من الأقارب والمحسوبين" مما قاد  إلى "بروز البطالة وانهيار الزراعة ونمو الفوارق الطبقية وانتشار أنماط من الاستهلاك المرئي في المدن"، وبالتالي فإن "ما حدث في سورية لا يختلف بهذا المعنى عما حصل في مصر وتونس واليمن"[46].  لقد تآكلت  شرعية النظام الذي هيمن عليه  حزب البعث خلال العقود السابقة  وبعد أن اتضح أن  رفع النظام  لشعار المقاومة والممانعة يستخدم  لتغييب الديمقراطية  والتغطية على الممارسات القمعية لأجهزة النظام الأمنية، ولإدامة حالة الطوارئ وللتمويه  على أشكال مختلفة من الزبائنية والمحسوبية، وهي ذات الأساليب التي استخدمها النظام السوري خلال فترة انتدابه على لبنان. 

 

يتمثل التحدي الرئيس الذي يواجه اليسار (ومعه القوى الديمقراطية والليبرالية) في سوريا في  الحيلولة دون  فرض حل طائفي للصراع الجاري، والعمل من أجل إعادة تشكيل الحقل السياسي عبر رؤية وأساليب ديمقراطية ترسم طبيعة النظام السياسي الديمقراطي الجديد وصياغة  دستور  يحمي الحريات الفردية والجماعية ويضمن المساواة للجميع، والتوصل إلى تفاهم وطني يحدد ملامح النظام الاقتصادي والاجتماعي  المطلوب تشييده بعيدا عن النيوليبرالية والريعية والتبعية والنهب المنظم لثروات البلد.  فالقوى الخارجية (الخليجية النفطية والأمريكية بشكل خاص) لا ترى أن ما يجرى في سوريا بهو معركة من أجل توليد ديمقراطية عميقة في البلد، بل تريده حربا على إيران (كما تريدع السعودية) و حربا ضد الإسلام المتطرف (كما تريده الولايات المتحدة الأمريكية). السعودية  تدعم الإسلام السلفي في مواجهة الإخوان المسلمين ( وفي مراحل سابقة في مواجهة القوى القومية واليسارية العربية)،   وتدعم  قوى  خليجية أخرى(كقطر على سبيل المثال) والولايات المتحدة جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تمثل "الإسلام الوسطي"  القادر على لجم الإسلام الجهادي[47].

 

 

خامسا، اليسار الأردني

التحديات التي تواجه اليسار في الأردن، وهو يسار يعاني من هزال شديد[48]، تتشارك مع معظم تحديات اليسار في الدول العربية الأخرى من حيث مناهضة السياسيات النيوليبرالية  وما ولدته من إفقار وبطالة  لفئات واسعة من الشعب (قدرت في منتصف العام 2013 بنحو 30% من السكان)، ومن حيث وجود تيار إسلامي ناشط سياسيا على غرار دول عربية أخرى كمصر وسوريا والعراق ومناطق السلطة الفلسطينية. لكن للوضع في الأردن خصوصياته منها؛ تشابك القضية الوطنية الأردنية بالقضية الوطنية الفلسطينية وتشابك كليها بالقضية الاجتماعية وبالقضية الديمقراطية في البلد. يعود هذا إلى التكوين السكاني للأردن، وبخاصة بعد النكبة الفلسطينية عام 1948 وضم الضفة الغربية لتشكل جزءا من المملكة الأردنية حتى العام 1988 عندما قام الأردن بفك ارتباطه بها على أثر الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967.  نسبة وازنة من سكان الأردن الحاليين من حملة الجنسية الأردنية هم من أصول فلسطينية، ولا يرغبون في التخلي عن هويتهم والتزاماتهم الوطنية وحقوقهم التاريخية دون أن يكون هذا سببا في انتقاص حقوقهم وواجباتهم  المترتبة على المواطنة الأردنية. وليس هناك ما يدعو لأي طرف أردني الخشية من قبول فلسطيني لمشروع الوطن البديل الإسرائيلي وهو مروض من قبل كل التنظيمات السياسية الفلسطينية، وربما كان هذا أحد  الاعتبارات الأردنية وراء توقيع اتفاق السلام (اتفاق وادي عربة) بين إسرائيل والأردن في العام 1994. هذا لم يمنع من بروز أفكار تطرح علنا وصفها أحد الباحثين بالشوفينية لأنها "معادية لوجود الأردنيين من أصل فلسطيني"، ويدعو "بعضها إلى نقاء النوع الأردني وإلى طرد الأردنيين ــ الفلسطينيين من البلاد بلغة إشارية مبطنة. بينما يطالب الآخر الأردنيين ــ الفلسطينيين بولاء هوياتي تام للأردن لا تشوبه ارتباطات بهويات أخرى".  ويعتقد صاحب هذا الرأي أن العداء للفلسطينيين من أصل أردني "بقي مستتراً إعلامياً إلى أن دخلت النيوليبرالية حيّز التنفيذ"[49]. وهناك قلق لدى شريحة من الأردنيين من أصل فلسطيني  لأنها تخشى من أن تكون مستهدفة بسحب الجنسية منها وفقدانها لحقوق المواطنة كما حصل مع حملة جوازات سفر السلطة الفلسطينية من سكان الضفة الغربية[50].

 

يصعب، كما تبين الورقة عن اليسار الأردني، كتابة مسيرة اليسار في الأردن بمعزل عن اليسار الفلسطيني منذ النكبة وتأسيس منظمة التحرير وبعد أحداث الأردن في العام 1970 وإخراجها من الأردن إثر ذلك، وولادة، في السبعينات والثمانينات، امتدادات تنظيمية لليسار الفلسطيني في الأردن وتحولها بعد انفتاحه الليبرالي على الصحافة والأحزاب السياسية في البلد عام 1989 إلى تنظيمات أردنية تنضبط لقوانين البلد. الحراكات الشبابية والشعبية التي جرت منذ تفجر الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر واليمن وسوريا  والتي دعت إلى الإصلاح ومحاربة الفساد وضد رفع الأسعار وحل مشكلة البطالة العالية تشير إلى حاجة اليسار إلى  ضرورة تركيز برنامجه على  القضيتين  الوطنية (بمضمون التحرر من الهيمنة والتدخلات الخارجية التي تمس السيادة الوطنية والشعبية، وتعزيز الاستقلال الاقتصادي)  والاجتماعية (بمضمون ما يخدم مصالح غالبية الشعب، وتحديدا الفئات والطبقات الفقيرة والمستغلة والمهمشة).  

 

أفكار ختامية

مع لبرلة الاقتصاد في الدول العربية، بما فيها دول المشرق العربي، طفت شرائح طبقية جديدة  تجمع بين السلطة السياسية-البيروقراطية (الأمنية- العسكرية والمدنية)  والنفوذ المالي العقاري التجاري والريعي..  هذا يعني أن على اليسار في هذا الدول ينهض بدوره إزاء قضيتين رئيسيتين:

 

أولا  القضية الاجتماعية؛ عبر ترجمة مضمون العدالة الاجتماعية إلى سياسات تستجيب لحاجات واحتياجات الفئات الفقيرة والمهمشة والمستغلة من الشعب في كل من هذه البلدان،  وبما يعني مناهضة السياسات النيوليبرالية التي تجسد المرحلة الحالية من الرأسمالية العالمية (القائمة على التنافسية الفردية تحت  هيمنة السوق شبه المطلقة).  من الخطأ اعتبار النيوليبرالية مجرد نظرية اقتصادية يجري مجابهتها ونقدها بمفاهيم اقتصادية متخصصة، بل تمثل  رؤية متكاملة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية، تؤكد فيما تؤكد على سطوة الرأسمال  وسطوة نخبة على الاقتصاد والمجتمع والسياسة، إنها ليست حول إدارة الاقتصاد فقط بل حول إدامة وإعادة إنتاج  وإدامة  نظام اللامساواة البنيوية.

 

  ثانيا، القضية الوطنية؛ أي قضية التحرر من السيطرة الاستعمارية (الاستيطانية كما في الحالة الفلسطينية) والاحتلال (كما في سوريا ولبنان) والسيطرة والاملاءات الخارجية (كما في الدول العربية كافة). والقضيتان  (الوطنية والاجتماعية) مترابطتان كما أوضحت الانتفاضات الشعبية الديمقراطية في عدة دول عربية عندما رفعت شعارات  جمعت بين المطالبة بالحرية  والمطالبة بـ"العيش"  أوالخبز (قضية القضية الاجتماعية) والكرامة (الخلاص من الإملاءات والاحتلالات والسيطرة الخارجية). تشييد الديمقراطية العميقة (تحت شعار الشعب يريد..) بمضمونها القيمي التحرري  (القائم على المساواة والحرية)  وليس  بمضمونها الإجرائي فقط (صندوق الاقتراع) هو هدف الانتفاضات الشعبية (رغم مساعي حرفها عن هذه الهدف)  كونه يتصل بالحقوق الفردية وبالحقوق الجماعية،  ويجمع، بالتالي بين القضيتين الاجتماعية والوطنية.

 

باستطاعة اليسار أن يستخلص من تجربته أنه  لن يكون قادرا على التحول إلى  قوة مجتمعية ديمقراطية فاعلة وجذابة إن لم  يقم تنظيميه على أسس ديمقراطية، وإن أدار علاقة نخبوية مع الشعب، أي أنه مطالب أن يتخلص من  عقليته النخبوية السابقة التي منحها لنفسه كمرشد ومعلم  وقائد للجماهير  باعتباره  يملك الحكمة والمعرفة والرؤية الثاقبة لمجرد أن قادته قرأوا كراس لينين المعنون "ما العمل؟". كما أن عليه أن يدرك  أن الوحدة الوطنية غير قابلة للاختزال إلى اتفاق بين القوى السياسية بمعزل على مكونات المجتمع غير السياسية  وبدون موافقة وقناعة من غالبية الشعب. فتجربة  الجبهات الوطنية "التقدمية" (في سوريا والعراق)  تركت نتائج سلبية على قوى اليسار التي شاركت فيها، وتجربة منظمة  التحرير، رغم ما تضمنته من عناصر إيجابية كرست، عبر نظام "الكوتا"  التنافس بين قوى اليسار الفلسطيني، وبالتالي ساهمت في إبقائه مفتتا.

 

 في الأوراق الست ما يفيد اليسار كون الكثير من الأوضاع تتشابه كما والأخطاء والمهام المستوجبة أيضا. وهي مدخل لمزيد من الحوارات  والتدقيقات، وفي إدراك ضرورة الانخراط في عملية التغيير الجارية في العالم العربي، والتي تفتح آفاقا رحبة لليسار وبخاصة بعد اتضاح حدود قدرة التيارات الإسلامية منفردة أو بمشاركة ما من الاتجاهات الليبرالية، بما فيها تيار الإخوان المسلمين على  حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجه بلدان المنطقة، ناهيك عن وضع بدائل للسياسات النيوليبرالية  ومواجهة السياسة الأميركية التي أبدت استعدادا واسعا للتعاون مع القوى الإسلامية التي تتقبل شروط الليبرالية الجديدة الاقتصادية والسياسية، والتي مستعدة للحفاظ على أمن إسرائيل. كما أوضح مسار الانتفاضات أن الديمقراطية  العميقة لا  تعني  أن الفوز في الانتخابات العامة  يمنح شرعية  لقمع المعارضين السياسيين  ولفرض رؤية على المجتمع دون موافقة جميع مكوناته.

 

 ومن المفيد الانتباه أن العوامل المولدة لظاهرة الشعبوية  بما فيها الإسلامية تبقى قائمة إن فشل مشروع الدمقرطة السياسية وإن بقيت الفرص مغلقة أمام الشباب والأسر الفقيرة في ضواحي المدن والريف وإن توالت الخارجة عن الناس العاديين (كالأزمات المالية والكوارث الطبيعية، على سبيل المثال). من هنا  أهمية وجود  ساحات عامة مملوكة من الجمهور  للتداول والاحتجاج وإبداء الرأي إزاء كل ما يخص الشأن العام.

 

 وقد يكون مفيدا أن يرى اليسار إلى أن مدرك الدولة القومية بالمفهوم الذي شاع في المنطقة وتداولته قوى وأحزاب قومية قد يتحول إلى عنصر انقسام واستقطاب  وصراع داخلي (وهو ما حصل بالفعل في العديد من الدول العربية) إن لم يستوعب أن  التعددية الطائفية والدينية والأثنية والقومية  والثقافية السائدة في معظم المجتمعات العربية، ذات أهمية في إرساء الديمقراطية العميقة التي تنتبه للحقوق الفردية والحقوق الجماعية  وتصون حرية الرأي والعبادة والمعتقد والتعبير والتنظيم والتجمهر.  ومن هنا خطورة التركيز على الهوية والدين والطائفة والنوع الاجتماعي والأثنية  دون موضعتها في سياقها الاجتماعي-الطبقي (أي في سياق بنية الاقتصاد السياسي)  وفي سياق  بنى اللامساواة والتمييز  والحرمان  التي تنتج وتعيد إنتاج هذه الهويات الإرثية بما هي تعبيرات تجهد للحفاظ على والدفاع عن امتيازات ومصالح فئوية أو مواقف رافضة لما تتعرض له من حرمان وتمييز على أسس إرثية. هذا يعني وعي خطورة اختزال تحليل الظواهر الاجتماعية إلى تحليل خطاباتها فقط، وضرورة موضعتها في سياقها الاجتماعي-الطبقي أولا  وكشف الخطاب بما هو أيديولوجيا تخفي من خلاله ما يترتب عليها من مصالح وامتيازات للبعض وحرمان  وتهميش واستثناء للبعض الآخر.

 

نبهت الانتفاضات الشعبية في الدول العربية المختلفة بشكل صارخ، إلى ضرورة أن ينته اليسار في تحليله للواقع القائم إلى رزمة التحالفات والائتلاف المحلية والإقليمية والدولية التي تجهد في عملية "شد عكسي"  لمنع إحداث إصلاحات جذرية في البنية السياسية الاجتماعية-الاقتصادية، و تعطيل أو إعطاب  تشييد ديمقراطية عميقة. وهي كما رأينا في جميع الحالات التي شهدت انتفاضات شعبية ديمقراطية تعتمد أساليب خشنة وعنيفة (ودموية في معظم الأحيان)   لتعطيل التغيير الديمقراطي ومأسسة نظام اجتماعي أكثر عدالة ومساواة وحرية.  وبات واضحا أن القوى المحلية  التي تريد الحفاظ على امتيازاتها أو تسعى لاكتساب امتيازات جديدة  قد تلجأ إلى استخدام فئات اجتماعية رثة ( بلطجية، شبيحة، خارجين عن القانون،  وما شابه) والاستعانة بقوى خارجية، كما تستخدم البنى (الأمنية والبيروقراطية والشرطية والدينية  والهيئات المحلية..) التي نمت خلال النظام السابق وتشكل لها مصالح مرتبطة بذلك النظام وهي قد تبقى تتحرك بمسارات قد تختلف عن مسارات الحكومة الجديدة بعد سقوط رأس النظام السابق إذا ما أدركت أن في الجديد ما يهدد مصالحها ومنظومة امتيازاتها الطبقية  والسياسية والبيروقراطية السلطوية.  لقد حدث هذا في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.

 

في الختام على  قوى اليسار أن تستنهض دورها الفكري والثقافي التنويري والتخلص مما شابها من نظرة استخفاف واستعلاء تجاه الفعاليات الفكرية  والثقافية ودور هذه الفعاليات  في تعزيز قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، وفي تكريس رؤية إلى التعددية (السياسية والمذهبية والأثنية والدينية والثقافية)  باعتبارها مصدر إثراء للمجتمع و لحياة الناس. ولا ينبغي أن يعمي هزال اليسار السياسي والتنظيمي الراهن  عن رؤية ما تركه بعضه من تراث فكري وثقافي متميز، وحقيقة أن مثقفو اليسار هم من كبار مثقفي العرب في تاريخ الفكر العربي المعاصر الذين "أبدعوا في صياغة أحلام لم يستفق واقع العرب لتحقيقها"[51].

 



[1]  معظم الأوراق في الكتاب تشير إلى هذا الارتباك بطريقة أو أخرى (وتحديدا ورقة الأردن، ولبنان، وسوريا واليسار الفلسطيني داخل الخط الأخضر. أنظر أيضا؛ إياد العبد الله، " اليسار مدافعا عن دولته" مجلة الآداب، صيف 2012.

[2] هناك منابر متخصصة في قضايا المنطقة اعتمدت مدخل ضعف علاقة اليسار بالانتفاضات الشعبية العربية مقارنة بعلاقة الإسلام السياسي بهذه الانتفاضات للتدليل على هامشية اليسار العربي وتسخيف مواقفه. أنظر كنموذج:

Barry Rubin, “The Arab Political Left and the Islamist Drive for Power”, Crethi Plethi The Middle East, posted on November 7, 2011.

[3] حول توضيح بعض آليات الليبرالية الجديدة، كتعبير عن الرأسمالية في أقصى درجاتها في توسيع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وفي توليد سياسات حكومية لصالح الأسواق وليس لصالح الناس (بل لأسر وحاصرة المواطن العادي)؛ أنظر:

Jodi Dean, “The neoliberal trap”, openDemocracy, 17th July 2013.

[4] إياد العبد الله، "الماركسية العربية؛ في تبرير التسلط" مجلة الآداب، 6/7/8-2010.

[5] فواز طرابلسي، "اليسار في الزمن الثوري"، بدايات،  شتاء/ربيع 2012.

[6] من هذه تدشين دستور يشرع المساواة السياسية والقانونية  للمواطنين بغض النظر عن الجنس والدين والطائفة والمذهب والأثنية؛  ومنها فصل السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وتشريع حرية الرأي والمعتقد والتعبير والتنظيم والتظاهر وتشكيل النقابات والانتماء للأحزاب السياسية والجمعيات والنوادي.  وتقنين الحقوق لتشمل الحق في العمل والسكن والتعلم والتقاعد والضمان الاجتماعي والعلاج والبيئة الصحية والأمن ..).

[7] ميشيل كيلو، ا"ليسار العربي:الأزمة والمقترحات"، مجلة الآداب، عدد 6/7/8-2010.

[8] أنظر/ي: جميل هلال، اليسار الفلسطيني إلى أين؟، مؤسسة روزا لوكسمبورغ، رام الله، 2009 (المقدمة).؛ أنظر/ي أيضا  التداولات بين اليسار العربي حول مهام اليسار في؛ عبد الغفار شكر (محرر)، اليسار العربي وقضايا المستقبل، القاهرة، مكتبة متبولي،  1998.

[9] جورج جقمان، "هل توجد حاجة إلى اليسار في المجتمع العربي"، مجلة الآداب، عدد 4-5-2010.

[10] نايف حواتمة، اليسار العربي، رؤيا النهوض الكبير"نقد وتوقعات"،  الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، أيلول/سبتمر  2009. أنظر مراجعة أسعد خليل للكتاب في جريدة الأخبار  اللبنانية العدد 1315، بتاريخ 2011 تحت عنوان "أزمة اليسار العربي؛ نايف حواتمة نموذجا".

[11] جدلية، "حوار موسع مع فواز طرابلسي حول الثورة السورية"، تاريخ 4/5/2013.

[12] هذا التركيز الأحادي الجانب على الديمقراطية دفع البعض إلى رؤية (أو تخيل) تقاطعات، بل وتواطؤ، بين سياسات العولمة الرأسمالية النيوليبرالية و "اليسار الديمقراطي" (أنظر/ي على سبيل المثال: علي نصار، اليسار الديمقراطي وبيارق الثورات الملونة"، الحوار المتمدن، العدد 1396، 11/12/2005.

[13] تشمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية  (كما تورد معظم بنودها منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية) ما يلي: الحق في العمل،  وفق شروط توظيف عادلة ونزيهة، والحماية من العمل القسري أو الإجباري، والحق في تشكيل نقابات والانضمام إليها؛ والحق في ضامن اجتماعي لمن لا يستطيع العمل (بسبب المرض أو الإعاقة)أو لا يتوفر له عمل، والحق في التقاعد والرعاية الاجتماعية؛  الحق في التعليم، بما في ذلك ضمان أن يكون التعليم في المرحلة الأساسية إلزامياً وبالمجان في كل مراحل التعليم، وأن يكون التعليم متاحاً ومقبولاً بشكل ملائم بالنسبة لكل فرد؛ الحقوق الثقافية للأقليات والسكان الأصليين؛ والحق في المشاركة  في النشاطات والفعاليات الثقافية والتراثية المختلفة والتمتع بالتراث الثقافي الإنساني، والحق في الإنتاج الثقافي وفق معايير الحقل الثقافي المحدد؛ الحق في ضمان صحي كامل، و الحصول على أعلى مستوى يمكن بلوغه للصحة البدنية والعقلية، بما في ذلك الحق في التمتع بظروف معيشة صحية، والحق في الحصول على خدمات صحية ملائمة ومقبولة وذات مستوى؛الحق في الحصول على مأوى ملائم، بما في ذلك الحق في ضمان الملكية، والحماية من الإجلاء ألقسري، والحق في الحصول على مأوى صالح للسكن بتكلفة ميسرة وفي موقع مناسب وأن يكون ملائماً ثقافياً؛الحق في الحصول على الغذاء، بما في ذلك الحق في التحرر من الجوع، والحق في الحصول في كل الأوقات على غذاء ملائم أو على سبل الحصول عليه؛الحق في الحصول على المياه، ويعني الحق في الحصول على ما يكفي من المياه والمرافق الصحية، على أن تكون متاحة وميسرة (مادياً واقتصادياً) وآمنة.

 

[14] هناك من يرى أن على الحزب الشيوعي  العراقي إن أراد التحول إلى "حزب جماهيري بالفعل لا بالقول والتمنيات، حزب يستجيب لمتطلبات العصر، لا بالتشبث بأمجاد الماضي، حزب يكسب ثقة الجماهير وينال أصواتهم في الانتخابات ليفوز بعدد محترم من المقاعد البرلمانية ومجالس المحافظات... التخلي عن الكثير من شعاراته وأهدافه الطوباوية التي لا نصيب لها في التنفيذ على أرض الواقع. وبتعبير أوضح، على الحزب أن يستبدل الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية، ويتصالح مع العولمة، ومع الغرب والديمقراطية الغربية وقيمها الحضارية النبيلة. وهذا التحول لن يتحقق عن طريق التغيير التدريجي بالأقساط، والقطرات، لأن العالم يتغير بسرعة فائقة، فالمطلوب من الحزب ولادة جديدة، ليتحول إلى  حزب ديمقراطي اجتماعي......." (أنظر/ي؛ عبد الخالق حسين، "مشكلة اليسار العراقي"، الحوار المتمدن، العدد 3437، بتاريخ 25/7/2011)

[15]  نادر فرجاني، "مفارقة غياب اليسار؛حالة مصر"، مجلة الآداب، عدد 6/7/8-2010.

[16] ياسين الحاج صالح، "في الواقع لا في النص: أي يسار، وأين، وأية سياسات يسارية"، مجلة الآداب اللبنانية، العدد 6/7/8 2010.

[17] "ما المقصود باليسار؟ المقصود جميعُ الذين يَحملون برنامجَ تغييرٍ اجتماعيّ في اتجاه قيَمٍ تُصنّف بأنها قيَمٌ يساريّة، ومنها العلمانيّة طبعًا، لكنْ ليس حصرًا وانفرادًا، بل منها أيضًا وبالضرورة قيَمُ العدالة الاجتماعيّة والمساواة والتحرّر من كافّة أشكال الاضطهاد: الوطنيّ والعرقيّ والجنسيّ والطبقيّ، الخ. وبين الأطراف الموجودة اليوم، أكانت بقايا أمْ أجنّة، تصوّراتٌ مختلفةٌ لقيَم اليسار. أما القواسم المشتركة فأهمُّها معاداةُ الرأسماليّة ومعاداةُ الإمبرياليّة" (أنظر مجلة الآداب، ٤-٥/ ٢٠١٠ "اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر").

 

[18] من المثقفين  اليساريين من يرى أن نتائج الانتخابات التي أعقبت الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربية  لا تشكل "نهاية الثورات، بل ربما هي البداية. ليست الانتخابات نهاية مسار، وليست بداية «مسار ديمقراطي» رغم أنها تُصوّر كذلك. فليست الثورات في جوهرها نتيجة الحاجة إلى الديمقراطية فقط، بل هي نتيجة الحاجة إلى العمل والعيش الكريم والمقدرة على التعليم، والطبابة. الذي يعني كلّ ذلك أنّها تطاول كلية النمط الاقتصادي الذي تقوم عليه هذه النظم، ومن ثم يطاول الطبقة الرأسمالية المافياوية المسيطرة. وبالتالي نقل الاقتصاد من كونه اقتصاداً ريعياً (خدمياً مالياً عقارياً تجارياً بنكياً) إلى اقتصاد منتج (صناعي، زراعي بالأساس). وهذه الانتقالة ضرورية من أجل تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، إذ ليس من الممكن تأسيس ديمقراطية حقيقية على اقتصاد ريعي مافياوي (سلامة كيلة، "الماركسية وطريق انتصار الانتفاضات في البلدان العربية"، صحيفة الأخبار اللبنانية، 22 آب )2012.

[19] جلبير الأشقر، الآداب 2010، مرجع سابق.

[20]Nahed Hattar “Arab Left: The Challenge of Becoming Relevant”,  Alakhbar English, 24/4/2012

[21] حول المدلولات السياسية لظاهرة العشائرية والطائفية في العالم العربي، أنظر/ي؛ خالد الحروب، "العشائرية والطائفية.. والأمية الانتخابية"، الحوار المتمدن،  العدد 3985، تاريخ27/1/2013.

[22] غسان بن خليفة، "كي يكون اليسار سبيلنا إلى النهضة"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010.، وحول أسس الوحدة العربية من وجهة نظر يسارية أنظر/ي فزار طرابلسي، مرجع سابق.

[23] غازي الصوراني، "الاختصار في أزمة الماركسية وأحزاب اليسار"،  مركز المعلومات البديلة،  15 آذار/مارس 2012.

[24] أنظر/ي: المنتدى الاشتراكي؛ بين الهوية الفكرية والمهام البرنامجية"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010.

[25] راتب شعبو  "في ضرورة خلق نواةٍ جديدةٍ لليسار"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010.

[26] حوار مع جلبير الأشقر حول اليسار العربي، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010.

[27] فيصل دراج، "حول كتاب كريم مروة"نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"، الاتحاد الاشتراكي، 14/8/2010. الكتاب المراجع هو كتاب كريم مروة، نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي، دار الساقي، بيروت، 2010.

[28] جورج حبش، "أزمة اليسار العربي.. إلى أين؟"  مدونة القومي العربي، 1/2/2008.

[29] فيصل دراج، "ماذا تبقى من هوية اليسار الشيوعي العربي اليوم"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2001.

[30] حول القصور التنظيمي والجمود الفكري والتحولات الدولية والمحلية التي رافقت و تلت انهيار التجربة الاشتراكية كما مثلها الاتحاد السوفيتي، أنظر التالي؛ فوار طرابلسي، 2012 مصدر سابق، وجميل هلال، 2009، مرجع سابق؛  رياض صوما، "أزمة الحزب الشيوعي اللبناني في فصلها الجديد"،  مجلة الآداب،  عدد خريف،2012. ومقال محمد فرج، "اليسار في الأردن؛ مواجهة الأزمة أم بناء المشروع"، مجلة الآداب، العدد 6-7-8 / 2010، ومقال هشام البستاني، "أزمة المشروع، أم أزمة القائمين عليه؟ الانفصامات المتعددة لليسار العربي"، مجلة الآداب، صيف 2012)؛ سلام عبود، "موت الماركسية المبتذلة أو ورطة النصر (التجربة العراقية)"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010؛ شريف يونس، "نحو تصور عام ليسار عربي موحد جديد"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010؛

[31] كريم مروة، "الحاجة إلى يسار عربي جديد، وإلى برنامج واقعي وراهن للتغيير"، الحوار المتمدن، العدد 3358، بتاريخ 7/5/2011. وأنظر/ي: حلمي شعراوي و عبد الغفار شكر (محرران)، حوارات مع أطروحات كريم مروة نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي،  مكتبة جزيرة الورد، القاهرة 2011.

[32] أنظر/ي على سبيل المثال؛ ياسين الحاج صالح، مجلة الآداب اللبنانية، 2010ـ مصدر سابق، ورياض صوما، الآداب، مصدر سابق، وجلبير الأشقر، الآداب، مصدر سابق..

[33] رياض صوما، "أزمة اليسار العربي"، مجلة الآداب، عدد 6/7/8 – 2010.

[34] شريف يونس، مجلة الآداب، 2010، مصدر سابق.

[35] أحمد قطامش، "كيف حضرت الماركسية-اللينينية في تجربتي السياسة"، مجلة الآداب، عدد 4-5/2010.

[36] حول العوامل الخارجية والداخلية المولدة للاستقطاب السياسي الحاد في عدد من دول المشرق، أنظر/ي؛ جميل هلال، "العوامل الدافعة للاستقطاب الحاد في لبنان والعراق ومناطق السلطة الفلسطينية" مؤسسة كارينغي، بيروت، 2009.

 

[37] كمثال على ذلك يقر القيادي الشيوعي اللبناني، كريم مروة أن من أكبر أخطاء الحزب الشيوعي اللبناني كان دخوله "في الحرب الأهلية، وعلاقاته مع الدول العربية التي كانت حكوماتها الاستبدادية تضطهد شعوبها، وتضطهد الشيوعيين بشكل خاص" (كريم مروة، "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"، جريدة بيان اليوم، 9/2/2013. هذه المراجعة لم يقم به اليسار الفلسطيني سواء فيما يخص علاقاته بالقوى اللبنانية وانخراطه في الحرب الأهلية أو في علاقاته مع حكومات دول عربية استبدادية، بل لم يتوانى بعض قياداته عن كيل المديح لبعض رؤساء هذه الحكومات إما اتقاء لشرها أو سعيا وراء دعم مادي أو سياسي.

[38] لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية تأسست عام 1982 ويشارك في لجنة المتابعة رؤساء السلطات المحلية العرب وأعضاء الكنيست العرب وممثلين عن أحزاب سياسية وتنظيمات عربية غير برلمانية. وهي تطوير وتوسيع الإطار التمثيلي للعرب في إسرائيل. بعد إقامة لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية عام 1974 . وهناك نقاش  جار لدمقرطة اللجنة وتطوير عملها.

 

[39] لمناقشة موسعة لأوضاع اليسار الفلسطيني في ظل السلطة الفلسطينية والانقسام بين "فتح" و"حماس" وتجربتهما في منظمة التحرير، أنظر/ي؛ جميل هلال، اليسار الفلسطيني إلى أين؟، 2009، مصدر سبق ذكره، ولملاحظات نقدية إضافية لسلوك اليسار، أنظر على سبيل المثال؛ عماد أبو حطب، "في نقد الشيوعية واليسار وأحزابها"، الحوار المتمدن، العدد 3091، تاريخ 11/8/2010؛  و محمد خضر قرش، "أما آن لليسار أن يخجل من نفسه ويحترم ما تبقى من جمهوره"،  وكالة أطلس الإخبارية، 27/4/2013؛ وحازم بلعوشة، "صعود وسقوط اليسار الفلسطيني" في المونتر (النبض الفلسطيني)، بتاريخ 22/2/2013

http://www.al-monitor.com/pulse/ar/contents/articles/opinion/2013/02/rise-fall-palestinian-left.html#ixzz2Lq1N6pCC.

)

[40] الحركة الوطنية اللبنانية، هي جبهة متكونة من عدة أحزاب وحركات قومية ويسارية شكلت عام 1969 وانطلقت فعلياً سنة 1973 على أساس برنامج مشترك ينادي بإحداث إصلاحات سياسية واقتصادية، إضافة إلى الإعلان الواضح لعروبة لبنان. ضمت الحركة رأسها  كمال جنبلاط  حتى  استشهاده في العام 1977عددأ من الأحزاب اللبنانية، من أبرزها:الحزب التقدمي الاشتراكي، الحزب الشيوعي اللبناني، منظمة العمل الشيوعي، الحزب السوري القومي الاجتماعي، حزب البعث (التنظيم الموالي لسورياحزب البعث (التنظيم الموالي للعراقوحركة الناصريين المستقلين، التنظيم الشعبي الناصري. تحالفت الحركة مع بداية الحرب الأهلية مع منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة الجبهة اللبنانية اليمينية ذات الأغلبية المسيحية المارونية، وحققت الحركة نجاحات عسكرية في بداية الحرب جعلها تسيطر على الجزء الأكبر من الأراضي اللبنانية، لكن الحركة تلقت عدة ضربات موجعة على أثر التدخل العسكري السوري في لبنان في حزيران/ يونيو 1976 واغتيال كمال جنبلاط في آذار/ مارس 1977. تولى وليد جنبلاط  رئاسة الحركة بعد استشهاد والده لكنه ركز على دوره كزعيم  لحزب درزي، وسعى آنذاك لتحسين علاقته مع سوريا. على أثر ذلك تراجع دور الحركة، واختفت فعلياً مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ولمناقشة أولية لتجربة "الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي في لبنان" أنظر/ي:  سعد الله  مزرعاني، "عن الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي"،  جريدة الأخبار اللبنانية،  26/1/2013. أنظر أيضا؛ ناجي صفا، "عن الحركة الوطنية في ظروفها ومسوغاتها المغيرة"، جريدة الأخبار اللبنانية، 11/2/2013.

[41] بعد خمس عشرة سنة من الحروب الداخلية في لبنان جرى تعديل الدستور اللبناني ليجمع بين نمطين من التمثيل (على صعيد الفرد،  وعلى صعيد الطائفة) عبر طرح إقامة مجلس للمواطنين دون قيد طائفي، و مجلس (شيوخ) للطوائف ينتخب من طوائف كطوائف. لكن مواد الدستور هذه لم تطبق حتى اللحظة رغم إقرارها منذ العام ١٩٩٠.

[42] لملاحظات إضافية (لما ورد في المقال حول اليسار اللبناني في هذا الكتاب) حول الحزب الشيوعي اللبناني من داخل صفوفه، أنظر/ي، على سبيل المثال؛ علاء المولى، "الحزب الشيوعي ومعركة النسبية؛ خفة وقصر نظر"، جريدة الأخبار اللبنانية، 23 شباط 2013. وأنظر/ي مقاله في الجريدة ذاتها بتاريخ 25 حزيران، 2011، تحت عنوان "هل يبادر الحزب الشيوعي قبل أن يباغته جمهوره".

[43] أنظر/ي؛ عبد الخالق حسين، "مشكلة اليسار العراقي"،  2011، مرجع سابق.

[44] أنظر/ي؛ سلام عبود، 2010 مرجع سابق.

[45] ياسين الحاج صالح، "مفهوم لخط الفقر السياسي"، الحوار المتمدن، بتاريخ 11/12/2004.

[46] "حوار موسع مع فواز طرابلسي عن الثورة السورية"، جدلية، تاريخ  $ أيار/مايو، 2013.

[47] لرؤية يسارية راديكالية للوضع الراهن في سوريا وآفاقه، أنظر/ي؛ ائتلاف اليسار السوري "مستقبل سورية وصراع الطبقات من أجل الهيمنة"، الحوار المتمدن،  العدد 4091ن تاريخ 15/5/2013 (موقع الائتلاف على الفيس بوك:                https://www.facebook.com/Syrian.Leftist.Coalition.

[48]  انظر/ي على سبيل المثال؛ مؤيد العتيلي: "اليسار في الأردن- الحزب الشيوعي نموذجا"، مركز دراسات وأبحاث الماركسية واليسار،  تاريخ 2/9/2010. يقول العتيلي: "أحزاب اليسار عموماً في الأردن تلتقي جميعاً في مسألة التردي والهزال الشديد في فعالية دورها في الدفاع عن قضايا الوطن المصيرية منها واليومية المعيشية – سواء تلك المتعلقة بالحريات العامة – والديمقراطية الحقيقية التي تعني أولاً وقبل كل شيء حرية التجمع والتنظيم والتعبير عن الرأي وحماية الحق المقدّس باختيار ممثلين أكفاء في كافة الأطر التنظيمية التي يفرزها النشاط الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي – من برلمان ونقابات واتحادات ومنظمات مجتمع مدني تتبنّى قضايا الناس وتعمل على تطوير أدوات المواطن وآليات تعبيره عن انتمائه لهذا الوطن – من خلال ممارسته لدوره في بناء المجتمع المدني الكفيل بإنهاء كافة أشكال التفتّت في المجتمع لجهة العصبوية الإقليمية والجهوية والمذهبية والعشائرية – هذه الظواهر التي نمت وما تزال تتنامى في ظل قصور المؤسسات المدنية والرسمية عن تشكيل مظلة حاضنة لكافة تشكيلات المجتمع على اختلاف أصولها ومذاهبها وانتماءاتها السياسية والفكرية". كما تجدر الإشارة إلى المساعي الجارية لتوحيد اليسار الشيوعي في الأردن (أنظر/ي؛ ياسر قبيلات، "الشيوعيون الأردنيون: ما زلنا رفاق!!"، الأخبار اللبنانية، 22/4/2013).

[49] جوزيف مسعد، "الأردن بين الوطنية والشوفينية"، الأخبار اللبنانية، 10/9/2012. للرد على ما ورد في هذا المقال أنظر/ي؛ ناهض حتر، "أفق لبناء "الشام الحقيقية""، الأخبار اللبنانية، 18/9/2012, يرى حتر، في رده المطول على مقال جوزيف  مسعد أن مشروع الوطن البديل بات يرتدي قناعاً إسلامياً في إشارة إلى موقف  جبهة العمل الإسلامي في الأردن والتي تشكل أكبر الأحزاب السياسية في الأردن وهي تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. ووفق ناهض حتر فإن اليسار الأردني يتكون من: الحزب الشيوعي الأردني؛حزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني (قريب للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)؛ حزب الشعب الديمقراطي الأردني (حشد). وقد ورث منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن؛
- حزب اليسار الديمقراطي الأردني(من عناصر سابقة من الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية)؛ وبادر مؤخرا إلى الإعلان عن تأسيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي؛ حركة اليسار الاجتماعي الأردني. تأسست من عناصر شيوعية سابقة وعناصر شعبية في عام 2007؛- حزب التحرر الوطني الاجتماعي الأردني. حزب حديث الولادة, لكنه يستند إلى لفيف من العناصر اليسارية والعمالية والشعبية والشبابية التي لعبت دورا بارزا في الحراك الشعبي منذ ربيع 2010 ؛   التجمع الاشتراكي الأردني. وهو مشروع يعبّر عن اتجاه كادرات شيوعية, تحت تأثير الحراك الشعبي؛  إتحاد الشباب الديمقراطي الأردني. وهو منظمة شبابية يسارية مستقلة برزت من بين صفوف النشطاء اليساريين الشباب من الحراك الشعبي ومن القوى اليسارية التقليدية والجديدة معا (ناهض حتر، "قوى اليسار الأردني"،  وكالة عمون الإخبارية، 17/5/2012.

[50] كمثال على هذا القلق أنظر/ي؛ سمير حجاوي، "استهداف الفلسطينيين في الأردن"، الفجر نيوز، 24/2/1012. جاء في  المقال؛ المشكلة أن الأردنيين من أصل فلسطيني هم المستهدفين دون غيرهم، فلا احد يتكلم عن الشركس او الشيشان أو المسيحيين أو الدروز أو الأرمن أو العشائر التي تنتمي تاريخيا إلى الجزيرة العربية أو سوريا أو العراق، بل إن العائلة المالكة نفسها في الأردن وهي حجازية الأصل، وهذا يؤكد الاستهداف يمس الفلسطينيين بهدف إقصائهم بشكل كامل "وتشليحهم" من حقوقهم وأملاكهم ومتاجرهم واستثماراتهم ومصانعهم، فعندما تسحب الجنسية " أي سحب الرقم الوطني"، يتحول المواطن الأردني من أصل فلسطيني إلى "لا مواطن"، وبالتالي لا يحق له أن يمتلك أرضا أو منزلا أو متجرا أو مصنعا أو مستشفى أو أي شيء، ويتحول إلى "كتلة بشرية بلا حقوق قانونية أو سياسية".  من الضروري التنويه هنا أن الحكومة الأردنية نفت أن يكون لديها نيه أو قرار بسحب الجنسية من الأردنيين من أصول فلسطينية.

[51]  الطاهر لبيب، "اليسار العربي والتباسات النقد الذاتي"، مجلة الآداب اللبنانية، العدد 6/7/8-2010.

مقدمة كتاب "إطلالة أولية على اليسار في المشرق العربي" الصادر عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ،  رام الله، آذار 2014.

اخر الأخبار