المتمرد الذى فضح العالم السرى لـ«الإخوان» ( الحلقة السادسة )

تابعنا على:   15:27 2014-03-30

فى الحلقة السابقة من مذكرات المفكر الراحل جمال البنا تحدث فيها عن تفاصيل اعتقاله فى سجن الطور، وحكومة الظل للإخوان التى شكلوها فى أوقات المحن، والنفور الذى وقع بينه وبينهم داخل السجن، وكيف كان يتحاشى النقاش معهم لضيق تفكيرهم، وروى مواقف محزنة وأخرى مضحكة عن الإخوان فى السجن، وتفاصيل محاولات والده قبل وفاته تعليمه أسرار عمله ليستطيع إكمال ما بدأه فى ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل.

« إضافة جديدة، رؤية مختلفة، شهادة ذات قيمة حقيقية، حب للحياة، حب للإنسان والإنسانية» كل ما سبق مجرد توصيفات بسيطة لما يدلى به المفكر الكبير جمال البنا فى مذكراته التى ما زال يسردها لتكون شاهدة على حياة رجل عاش منذ عشرينيات القرن الماضى بما حمله من ثورات ونضال ضد المحتل الأجنبى، إلى بدايات القرن الحالى الذى حمل أيضاً نضالا وثورات ولكن ضد استبداد السلطة، فكانت رحلة حياته بين ثورتين جديرة بحمل الخبرات ونقل المواقف التى نحن الآن فى أمس الحاجة لاسترجاعها. بعد أن صلى الأستاذ جمال العشاء دخل إلى حجرة مكتبه مستندا إلى مدير مكتبه حسين المنزلاوى، ثم جلس ونظر إلى مبتسما كعادته وقال هيا نكمل، ثم استطرد قائلا:

كان لى كما ذكرت من قبل اهتمامات نقابية وتنظيمية، ولكن انتهت مشاركتى الأولى فيها بدخولى المعتقل حيث انتهى حزب العمال الذى أسسته، ولكن كانت هناك جمعية كنت أنشأتها لرعاية السجناء وأسرهم وعلى إثر تلك الجمعية حدثت الواقعة التالية وهى حقيقة لا أثر فيها للخيال، فقد حدثت بالفعل فى ليمان طرة فى الفترة من «٣٠ مايو ١٩٥٣ حتى ٢٥ أكتوبر ١٩٥٣» وسجلت فى محضر رسمى حمل رقم «٨٤ لسنة ٥٣ إدارى طرة» ولعل بعض الضباط الذين تولوا تحقيقها أو المسجونين الذين سئلوا فيها مازالوا أحياء يرزقون، لقد بدأت الواقعة إثر بلاغ قدم من السجينين عبدالوهاب الشعرانى ومصطفى مرسى يقرران فيه اعتداء كل من أحمد محمد عبدالله الزير وعبدالحميد أمين عبدالرحمن عليهما، ذاكرين أن السبب فى هذا هو اعتقاد المسجونين أنهما، أى الشعرانى ومرسى، يعملان على منع المسجونين من جمع تبرعات للجنة الشعبية لإصلاح السجون، وفى يوم ٣٠ مايو ١٩٥٣ تولى اليوزباشى محمد قدرى يونس وكيل تحقيقات ليمان طرة التحقيق فى هذا البلاغ فسأل الشعرانى:

 

■ هل حصل فعلا أنك وغيرك تناهض أهداف اللجنة؟

 

- أبدا ودى لجنة بتعمل لمصلحتنا، ومش معقول إننا نناهض مصلحتنا.

 

س: جاء بالبلاغ أنك قررت أن هناك لجنة من المذنبين تتولى جمع تبرعات للجنة الشعبية لإصلاح السجون، فما هذا الموضوع؟

 

ج: أنا كنت مضطرباً وأقصد إن فيه لجنة فى الخارج بتلم تبرعات من أهالى المذنبين.

 

وجاء فى أقوال مصطفى مرسى...

س: ما موضوع اللجنة الشعبية لإصلاح السجون الذى ذكرته بالبلاغ؟

ج: الموضوع إن فيه لجنة شعبية لإصلاح السجون مكونة من بعض أفراد فى الخارج وبلغنا إنها بتلم تبرعات من أهالينا، وحصل إشاعة بلغتنى من مذنب اسمه حسن خضر إنى أنا والشعرانى مش موافقين على لم فلوس من أهالينا مع إننا لم نتدخل فى هذا الموضوع واللى يجرى على غيرنا يجرى علينا.

واتضح من التحقيق أن الاعتداء قد تم فعلا باعتراف المرتكبين له، ولكن الجميع أنكروا أن ذلك بسبب اللجنة كما ذكر مصطفى مرسى أن نظارته إنما كسرت من وقوعها على الأرض.. وأقفل التحقيق بالتأشيرة التالية من السيد البكباشى الدسوقى البشلاوى مأمور أول الليمان (٢/٦/١٩٥٣).

ونتيجة من هذا المحضر يتضح الآتى: أولا اللجنة الشعبية لإصلاح السجون: شبت هذه اللجنة وترعرعت فى هذا العهد السعيد وكبار رجال المصلحة يبذلون جهودهم لدى السلطات العليا لإدخال كل إصلاح فى السجون وقد زار رجال تلك اللجنة الليمان بضع مرات ونظرا لأن معظم المذنبين لا يزالون سذجا فقد اعتقدوا تماما أن تلك اللجنة سلطة قادرة على الإفراج عن بعض مددهم وعن عدم احتساب السابقة الأولى وعن إلغاء المراقبة. ولما كان لكل حركة مناهضون وجموع المذنبين لا تخلو من دساس أو حاقد فقد خرجت إشاعة بمناهضة بعض المذنبين لتلك اللجنة.. وطبعا من فئة المتعلمين أمثال الشعرانى ومصطفى مرسى لذا قام المذنبان أحمد محمد عبدالله ٢٦٧٢ وعبدالحميد أمين عبدالرحمن ٣٥٤٢ بالتعدى على كل من المذنبين ٣١٤٣ عبدالوهاب الشعرانى و٢٢٤٢ مصطفى مرسى محمد، ولكن لم توجد إصابات تستحق العلاج.. ونظرا لما لهذه الوقائع التى وردت بالبلاغ من أهمية خصوصا واقعة جمع نقود لتلك الجمعية فقد نهضت إدارة الليمان تستقصى عن حقيقة هذا الموضوع فاتضح كما هو ظاهر من التحقيق أن نقودا لم تجمع من داخل الليمان بل فى الخارج من أهالى المذنبين.. وقد رأت إدارة الليمان عمل محضر تحقيق لهذه الوقائع لتحاط المصلحة علماً بما يجرى بالليمان.. ورأت الإدارة أن من الأفضل لصالح الضبط والربط، وقد قام صلح بين المذنبين، أن تهيئ لهم جو المغفرة حتى لا توجد أحقاد فى النفوس وحتى تنام كل فتنة وتكون نفوسهم مطمئنة إلى عطف رؤسائهم.. لهذا نلتمس عدم مجازاة أى مذنب على هذا المحضر وحفظ التحقيق إزاء ما أسديناه لهم من نصح.. ولم نضع لذلك أحدا من المذنبين فى هذا المحضر بالانفراد... إمضاء: مأمور أول الليمان بكباشى الدسوقى البشلاوى.

وحول المحضر إلى مصلحة السجون (إدارة التحقيقات) التى رأت الموافقة على حفظ المحضر مع توجيه النصح لجميع المذنبين، وأشر السيد المدير العام «أوافق» وفى ١٥/٦/١٩٥٣ أعادت مصلحة السجون التحقيق إلى إدارة الليمان، حيث تقرر حفظه مع توجيه النصح لجميع المذنبين الواردة أسماؤهم بعدم العودة لمثل ذلك مستقبلاً، وأشر البكباشى الدسوقى البشلاوى على الخطاب «وجهنا النصح للمذنبين المدانين فى المحضر لعدم العودة مستقبلاً» وحفظ المحضر.. وفى ٣٠/٦/١٩٥٣ عثر اليوزباشى عبدالله عمارة أثناء تفتيش مخزن الكتب بعنبر (١) على سبعة كشوف فى كل منها بضعة أسماء لمسجونين وأمام كل اسم مبلغ من المال وبعضها موجه إلى اللجنة الشعبية لإصلاح السجون ومجموع مبالغها ستة وخمسون جنيهاً وثمانون قرشاً، وضمت الكشوف فى مجموعها سبعة أسماء من مختلف المديريات بل كان بعضها من أجانب «طوغيان» وأندرية شالفوجان جوبير، وحول اليوزباشى عبدالله عمارة هذه الكشوف بمذكرة إلى الأميرالاى عبدالغفار حلمى مدير ليمان طرة الذى أشر بأن تدرج بالبلاغات إلحاقاً لما سبق أن تحرر فى هذا الشأن بالبلاغ ٣٢٩ فى ٢٨/٥/١٩٥٣ عن واقعة تعدى بعض المذنبين على بعض ويعمل الملحق بمعرفة اليوزباشى عبدالله عمارة، وباشر اليوزباشى عمارة التحقيق فسأل كل واحد من المسجونين المدرج اسمه فى كل كشف، فأنكروا جميعا دفعهم أى مبلغ وقرروا أنه من الجائز أن تكون المبالغ قد دفعت بواسطة آلهم فى الخارج، ولو أنهم لا يجزمون بذلك كما قرروا أنهم لا يعرفون شيئاً عمن كتب هذه الكشوف أو الغرض من كتابتها وليست لديهم أى صلة بعنبر (١) وأرسل فى ١/٧/١٩٥٣ مذكرة بذلك إلى مأمور أول الليمان الذى أشر بإرسال هذا الملحق لإرفاقه بالمحضر عن البلاغ ٣٢٩ بتاريخ ٢٨/٥/١٩٥٣ حيث إن جميع من جاءت أسماؤهم بالكشوف أنكروا دفعهم لهذه المبالغ وسبب كتابة هذه الكشوف وجواز دفع هذه المبالغ بواسطة أهلهم وعلى هذا الأساس أرسل السيد مدير عام الليمان التحقيق بخطاب إلى المصلحة فى ٣/٧/١٩٥٣ جاء فيه «وحيث أنكر المذنبون جميعا دفع أى مبالغ وقد تحرينا عن ذلك فاتضح صدق قولهم ولكنهم أجابوا بجواز دفع مبلغ من أهلهم فى الخارج لتلك الجمعية وحيث إنه لا جناية فى هذا الموضوع فنرجو صدور الأمر بحفظ هذا المحضر».

ولكن السيد مدير عام المصلحة أعاد التحقيق بخطاب «سرى جدا، وشخصى» وفى منتصف القسوة جاء فيه «ونود أن نفهم لحساب من لا تقوم إدارة الليمان باستيفاء التحقيق على الوجه الصحيح، فقد ثبت من اطلاعنا على المحضر والملحق الذى عمل أخيرا أن إدارة الليمان لم تعمل على كشف حقيقة الحادث على خطورته، ورغم أن هناك أدلة مادية كان يجب أن تستقصى حقيقتها فلم يقم المحقق برسالته بتقصى حقيقة هذه الخطابات ومن قام بكتابتها وكيف كتبت وأين كان المشرفون على إدارة الليمان وقت كتابتها، ولم يستجوب من جاء ذكرهم بها ومناقشتهم فى الديباجة التى كتبت على كل خطاب لمعرفة أسماء المحرضين على جمع هذه التبرعات التى لا يقرها القانون ولا تقرها نظم المصلحة ولم يصدر بها أمر الرئاسة، لذلك نرجو تكليف ضابط دقيق لعمل الاستيفاء المطلوب على الوجه الصحيح وعليه أن يصل بتحقيقه إلى نتيجة حاسمة تكشف عن المحرضين على جمع هذه التبرعات وكيف جمعت وهل جمعت فعلا ومن كتب هذه الخطابات وتلك الكشوف مع تحديد مسؤولية الضباط والصف والعساكر سجانين الذين يشرفون على هؤلاء المذنبين على أن يصلنا سريعا».

إزاء هذا الخطاب القاسى كلف المدير العام السيد اليوزباشى عمارة لاستيفاء التحقيق مع كل المذنبين الذين وردت أسماؤهم فى الكشوف السبعة وفى ١٠/٧/١٩٥٣ باشر اليوزباشى عمارة فأخذ فى سؤال ٧٧ مذنباً، واستغرق هذا القسائم من ٧٥٠٧ إلى ٧٥٥٤ أى حوالى ٤٨ قسيمة تحقيق. وأنكر المسجونون جميعا دفعهم أى مبلغ أو معرفتهم لسبب كتابة هذه الكشوف ولا من كتبها وتجاهل بعضهم معرفته باللجنة كلية كما أشاد بعضهم بمدحها فجاء فى كلام السيد أحمد العادلى «شفتهم بيزوروا الليمان كتير، ومع المدير العام مرة قلت لازم حيساعدونا بمساعدة المدير العام وضباط المصلحة» كما جاء فى كلام عبدالعظيم خطاب «الجمعية فيها مدير عام المصلحة وكبار الضباط» وقال كامل على عبداللطيف إنه لو كان معه نقود لدفع، فالجمعية فيها شخصيات كبيرة، وقال محمد الوكيل إنه أول من يحث المذنبين على التبرع فقد حضر أعضاء اللجنة وزاروا الليمان، وهنا يجب أن أقطع السياق وأقول إيضاحاً لهذه الأقوال إن اللجنة قد زارت فعلا ليمان طرة أكثر من مرة وتفقد سكرتيرها العام كاتب هذه السطور جنباً إلى جنب المدير العام للمصلحة ووراءهما مدير الليمان ووراءهم البكباشى البشلاوى المأمور الأول ووراءه الضباط من رتبة صاغ فيوزباشى.. بل إن سكرتير اللجنة قد حمل على الأعناق فى الليمان وسط مظاهرة لا تقل عن المظاهرات التى كانت تحدث قديما فى الجامعة.

.. إزاء هذا الإنكار الجماعى اضطر مدير الليمان لأن يرسل أوراق التحقيق فى ١١/٧/١٩٥٣ بعد أن وصلت مرفقاتها إلى ٦٨ صفحة إلى المصلحة بعد أن صار استيفاء المطلوب بقسائم التحقيق من ٧٥٠٧ إلى ٧٥٥٤٠.. ولكن المصلحة أعادته لأنه «لم يأت الاستيفاء الذى عمل بأى نتيجة إيجابية فقد نفى الجميع دفعهم أى تبرعات كما نفى الجميع وجود أى علاقة بينهم وبين أعضاء اللجنة المذكورة وأنكر الجميع علمهم بدرج أسمائهم بالكشوف المطلوبة أو علمهم بكاتبها ولم يتوصل المحقق إلى معرفة كاتب هذه الكشوف ولا معرفة المحرضين عليها ولم يحدد مسؤولية أحد من الموظفين ولا كيفية وجود هذه الخطابات بالمخزن ولم يسأل المسؤول عن هذا المخزن من الموظفين».

وهكذا أعاد اليوزباشى عمارة التحقيق مع المسجونين والسجانين فى ١٩/٧ ولما كان فى إجابة بعض المسجونين احتمال أن يكون أهلهم هم الذين قاموا بالتبرع وأن بعض المسجونين قد أفرج عنه أو رحل إلى أماكن أخرى فقد أرسلت خطابات إلى ليمان أبوزعبل ومختلف المدن والمحافظات التى نقل إليها المسجونون أو يسكن بها أهلهم وأرسل المحضر إلى المصلحة فى ٢٢/٧، ولكنه أعيد للمرة الثالثة لإبقائه لحين ورود الاستيفاءات المطلوبة والاطلاع عليها واستيفاء التحقيق إن لزم الأمر، ثم إرسال المحضر كاملا، وجاءت بعض الردود التى تنفى علم أصحابها بالموضوع، كما لم ترد ردود أخرى رغم استعجالها مراراً فأرسلت إدارة الليمان التحقيق بعد أن ظل لديها أكثر من شهرين إلى المصلحة.

وفى ٢٥/١٠/١٩٥٣ أعادت المصلحة المحضر ومرفقاته (٩٧ صفحة) بالنتيجة الآتية «حفظ التحقيق لعدم ثبوت التهمة وعدم كفاية الأدلة، وعلى إدارة الليمان مراعاة الدقة فى تفتيش المكتب والأوراق والمخازن الخاصة بها وإناطتها لمستخدمين يجيدون القراءة والكتابة إتماماً للفائدة المرجوة من التفتيش، وإيقاف كل نشاط اللجنة الشعبية لإصلاح السجون ومثيلاتها داخل الليمان وعدم السماح لها مطلقا بنشر تعاليمها أو دعوتها أياً كانت حتى تتفرغ إدارة الليمان لتأدية رسالتها الحقة، ويتفرغ المذنبون لتقبل تلك الرسالة الإصلاحية التهذيبية الإنسانية فى نطاق نظام المصلحة ولوائحها».

ولم تنته صفحة هذا المحضر تماماً، فعندما حاقت باللجنة الشعبية لإصلاح السجون تلك المحنة التى أدت إلى إبعاد القائمين عليها منها بعث هذا التحقيق مرة أخرى إذ كتبت إدارة المباحث الجنائية إلى وكيل النيابة الذى كان يحقق فى القصية فى نوفمبر سنة ١٩٥٥ «نفيد سيادتكم بأنه وصل إلى علم إدارة المباحث الجنائية بمحافظة مصر أن هذه الجمعية كان لها نشاط كبير خلال عام ١٩٥٣، وأنها جمعت مبالغ كبيرة من المسجونين بليمان طرة بعد أن أوهمتهم بسعيها للإفراج عنهم بحد ربع المدة ورفع عقوبة المراقبة، الأمر الذى ترتب عليه إقبال الكثرة من المسجونين على التبرع للجمعية وأن إدارة مصلحة السجون حين تنبهت إلى ذلك أصدرت أمرها إلى السيد مأمور ليمان طرة بأن يعمل على إيقاف نشاط هذه الجمعية داخل الليمان، كما وصل إلى علم إدارة المباحث الجنائية بمحافظة مصر أن تحقيقاً أجرى بليمان طرة تقيد تحت رقم ٨٤ إدارى طرة سنة ١٩٥٣ يضم مستندات صريحة وكشوفاً بأسماء المسجونين الذين دفعوا نقوداً لذلك الغرض وبياناً ببعض المبالغ المدفوعة».

ونتيجة لهذه المعلومة طلب وكيل النيابة المحقق التحقيق وبفضل هذا الطلب أصبح هذا التحقيق الذى كان سرياً جداً ولا يعلمه إلا القلة من المسؤولين بالسجون ومن وثائق القضية وفى متناول يد المحامين استطعت أن ألم بها، لأعلن هنا فى مذكراتى ولأول مرة أن هذه المبالغ قد جمعت فعلاً من أصحابها، وقد أرسلت إلى اللجنة وأن اللجنة أصدرت كتيباً مطبوعاً يتضمنها وأن المسؤولين فيها زاروا الليمان مراراً، وخطبوا فى المسجونين وأنها بالفعل كانت تريد إيقاف المراقبة وإلغاء السابقة الأولى، وإن لم توهم المسجونين أبدا بالإفراج عنهم بحد ربع المدة كما جاء فى خطاب المباحث العامة.. وأنها كانت تضم عددا من ضباط السجون أنفسهم وأنها توصلت بالفعل إلى تحقيق كثير من مطالبها كإباحة التدخين وإدخال الكانتينات وإبطال القيود الحديدية التى كان يكبل بها المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وتمتد من وسطهم إلى أقدامهم إلخ بل أكثر من هذا.. وعندما تمكنت القوى المعادية من إبعاد سكرتيرها العام المؤسس وضعت مدير التفتيش بمصلحة السجون اللواء محمود صاحب محله.. وأصبح هو السكرتير العام للجمعية.. ولا ريب أن إجماع ٧٧ مسجوناً على الإنكار وتمسكهم به، رغم ثبوت الأدلة ضدهم مما يوضح تغلغل التضامن بينهم وعدم شذوذ فرد واحد من هذا العدد، أكسبهم شجاعة أدبية يقل أن تتوفر لمن هم أفضل حال وأريح بال فسلاماً على مسجونى طرة فى الغابرين وتحية للذين لا يزالون على قيد الحياة منهم ورحمة الله وغفرانه للراحلين «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ»..

والى هنا توقفنا ثوانى عن الحديث ثم قلت له حياتك مليئة بالعمل والكتابة وغيرها، أين النساء، الجنس الناعم، النصف الحلو فى حياتك؟.. فضحك المفكر الكبير جمال البنا قائلا النساء مرة واحدة ثم استكمل حديثه: برغم أن اسمى جمال فلم يمنحنى الله جمال الشكل والجسد المغرى لكى أكتسب الفتنة وحب النساء، ولكن منحنى العقل والفكر الذى ينتفع به الناس، ولقد عشت عكس الكثيرين فمرت فترات المراهقة والشباب فى حياتى دون أن يكون لى علاقة نسائية واحدة، ولكن كنت أتعامل معهن كثيرا لظروف العمل وكنت أجد فى النساء حبا شديدا لى جاء نتيجة أننى ليس لى مطامع الرجال الدائمة فيهن.

ثم كانت علاقتى الأولى بالنساء ونويت الزواج، ولكنها جاءت فى أسوأ فترة مررت بها فى حياتى، حيث استولت الشؤون الاجتماعية على جمعية رعاية السجناء وأسرهم التى كنت قد أقمتها والتى كان لها نشاط لا بأس به، كما أننى لا يوجد لدى دخل مادى ثابت فكيف أستطيع أن أكون مسؤولا عن زوجة وأسرة؟ ولكن ما هو مقدر لى من السماء قد حدث، حيث كنت قد تعرفت على فتاه اسمها «نعيمة» فى مناسبة عابرة، ووجدتنى انجذبت إليها وبدأت أسأل عنها فوجدتها هى الأخرى تعانى ظروفا سيئة، فكانت يتيمة الأب وليس لها إلا أم وشقيقة اسمها زينب، وكانت والدتها امرأة لا تتمتع بالحكمة فى النواحى المادية ومبذرة، فأهدرت كامل الميراث الذى تركه لها زوجها وترتب على ذلك أن بناتها لم يتممن تعليمهن، ولكن «نعيمة» كانت تتمتع بأخلاق طيبة ولا يوجد لها تطلعات برجوازية، فعزمت وتوكلت على الله وعرضت عليها الزواج فوافقت، وقلت لوالدتها: لن ألزمكم بجلب شىء ولا أنتم تلزموننى بشىء، ووافقت والدتها على اقتراحى، وأذكر أننا لم نقم ليلة زفاف ولم تلتقط لنا صورة زفاف «أنا بالبدلة وهى بفستان العرس» كما هو متعارف عليه، وجاءت زوجتى لى بشنطة ملابسها وبعض الأشياء البسيطة، ومن جانبى كنت قد جهزت حجرة بسيطة فى الشقة مع والدتى وتزوجتها فى عام ١٩٦٠، وأحببتها لأنها كانت زوجة صالحة واقتصادية وصبورة، ولم يكن لدينا وسائل منزلية حديثة مثل «الثلاجة أو البوتوجاز» وعشنا حياة بسيطة، ولم يكن لديها أى تطلعات برجوازية، ولكن والدتى لم تكن تتآلف معها، ولم تحبها لأنها كانت ترغب بأن أتزوج بقريبة لها من البلدة «المحمودية» ولكنى رفضت، ولهذا كانت الخلافات دائمة بينهما، وعندما وجدت أن والدتى أثقلت عليها تركت سكنى معها، وعشنا فى شقتى التى ما زلت بها حتى الآن بباب الشعرية، وفى البداية غضبت والدتى لتركى لها، ولكنى استطعت إقناعها بأن هذا أفضل، ثم حزنت بشدة لوفاة والدتى بعد ذلك وتحديدا فى عام ١٩٧١، وكانت «نعيمة» تعى قدر عملى وتحاول جاهدة أن توفر لى جواً مناسباً للعمل، وكنت بقدر الإمكان أحاول تعليمها ولكنها كانت لا تتجاوب، وأراحنى الله من المشاكل والإزعاج الأسرى، فلم تنجب لكونها تعانى العقم، وعندما عرضتها حسب رغبتها على طبيبة متخصصة أكدت لها الطبيبة أنها إذا أجرت عملية بسيطة ستستطيع الإنجاب، ولكنها خشيت إجراء العملية ووقتها حمدت الله أنها لم تنجب لأنى لم أكن أرغب فى أن يكون لدى أبناء، ولم أشعر بالحنين لهم فكانوا سيقلبون حياتى وسيغيرون من ترتيبها ومرضت زوجتى مرضها الأخير، وتوفيت فى عام ١٩٨٤، ولم أفكر أن أتزوج مطلقاً رغم أن هناك الكثير من النساء حاولن التقرب منى.

 

المصرى اليوم

اخر الأخبار