مع الحركة الإسلامية: تجربة حياة

تابعنا على:   15:48 2018-05-26

د. أحمد يوسف

إن المقولة التي صاحبتني مع كل غربة وسفر خلال خمسين عاماً: يا أخ أحمد.. لقد تغيَّرت!! وأنا من جانبي كنت أرد مبتسماً: يا إخوتي.. اعذروني فقد تجددت، ولكني ما زلت ثابتاً على العهد؛ عليها نحيا وعليها نموت إن شاء الله.
الطفولة والشباب: قصة اللاجئ الفلسطيني قبل 67
كانت عناوين الحالة المعيشية في قطاع غزة تتراوح بين الفقر المذهل والفقر المدقع، ولكن ما كان يستر الحال - ولو معنوياً - أن كل من في المخيم كانوا سواسية؛ يجمعهم الحاجة والبؤس والمسغبة وشظف العيش؛ أي حد الكفاف، و"مفيش حدا أحسن من حدا".
وفيما يتعلق بالحالة التعليمية والثقافية، فقد كان التعليم بشكل عام غير مؤدلج، والتفاعل مع الخطاب الناصري عاطفي ليس إلا.. والناصرية توجهٌ لا عناوين أو مُوجهين له خارج كتاب التربية الوطنية في المرحلة الثانوية. للأسف؛ كان الوعي بالقضية الفلسطينية مغيَّب، ويقتصر على رواية الآباء والأجداد، وكانت مجالس المخيم هي الحاضنة الاجتماعية، وأحاديثه هي الوعاء الثقافي للشباب.
أما الحالة الدينية فكانت متواضعة جداً، والعناصر الإخوانية على قلتها كانت محدودة الحركة ومتابعة أمنياً، ولا دور للمساجد غير الوعظ التقليدي، ورواد المساجد فئات طاعنة في السن، وتقريباً لا أثر للشباب فيها.
إذا ما حاولنا وضع خلاصة لتلك المرحلة فلن تتجاوز بعض الفواصل والنقاط التالية:
1) البساطة والسطحية والعيش على ما كان متوفراً من الشعارات الوطنية، التي تطلقها ماكينة الدعاية الناصرية (إذاعة صوت العرب وأحمد سعيد)
2) غياب وتدجين للمعارضة التي يمكن أن تُحفز على التأمل والتفكير.
3) إشغال الناس بأمورهم الحياتية وتلهيتهم بالأنشطة الرياضية والسينما.
واقع ما بعد النكسة: مراجعات فكرية وسفر طويل
أصابتنا نكسة يونيه 1967 وواقع الاحتلال بالصدمة والذهول، حيث تبددت أوهام الناصرية وضاع حلمنا بالعودة، الذي عشنا ننتظره سنوات الشباب. فإذا بنا نصحو على مشهد جيش الاحتلال!! من هنا، أخذتنا صحوة أخرى للعقل وحركية البحث عن الذات والوطن.. نعم؛ فقدنا كل شيء، ولكن ماذا بعد؟ وهل هناك من خيارات وبدائل؟ هل نستسلم للاحتلال أم نتحرك لعمل شيء؟!
كانت هناك حوارات شبابية تطرح الأسئلة الكبيرة التي تستدعي إعمال العقل والتفكير العميق، والذهن مفتوح؛ يسمع ويقلب الأمور.
كانت الملاحظة الأولى التي لفتت نظري هي مشاهدة توافد الشباب بكثرة على المساجد، وأنا لا أعرف كيف أصلي، فكانت البداية تعلم الصلاة لسد الفراغ الروحي، والشوق لاكتشاف المسجد، حيث إن كل ما كنت أفقهه في الدين لا يتجاوز نغمات صوت الأذان، وبعض الترانيم الدينية التي كنت أسمع جدتي ترددها عند الفجر.
لم أتخلف عن اللحاق بجيلي من الشباب، حيث صار المسجد مثابة آمنة للاستماع لوعظ دعاة الإخوان المسلمين في مسجد الهدى (الشيخ حسين المصري والشيخ رجب العطار)، وكان الحرص على مداومة الصلاة مع الشباب، وخاصة الصبح والعشاء في المسجد.
كانت المحطة الأهم هي ذلك اللقاء بالشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) في أحد دروس المسجد، ثم التعرف عليه أكثر في بيت جارنا الحاج محمود محسن (رحمه الله) على وجبة غداء، ثم بعد ذلك تكررت اللقاءات معه، مع حضور عددٍ من الشباب المختارين (النواة الأولى)، مثل: موسى أبو مرزوق وفتحي الشقاقي وإبراهيم أبو مر وجمال أبو هاشم وآخرين.
كنت قبل توجهي الإسلامي قارئاً نهماً لكل ما تقع عليه يدي من كتب، وخاصة القصص المترجمة من الأدب الغربي، مثل سلسلة روايات عالمية وارسين لوبين.. ثم كان الانفتاح على الكتاب الإسلامي، حيث التهمت في وقت قصير كل ما هو في حوزة مكتبة الحاج محمود محسن من كتب الإخوان المسلمين؛ رسائل الإمام البنا، وفي ظلال القرآن ومعالم في الطريق والتصوير الفني في القرآن لسيد قطب، وجاهلية القرن العشرين والتطور والثبات لمحمد قطب، ثم كل ما توفر من إصدارات للشيخ محمد الغزالي والبهي الخولي وسيد سابق...الخ
البيعة والارتباط التنظيمي عام 1968
كانت مجموعتنا هي أول من بايع الشيخ أحمد ياسين، ولم تكن تتجاوز -آنذاك- العشرين أخاً، وكانوا من خيرة الطلاب المتميزين أخلاقياً وتعليمياً.
جاءت فرصتي الأولى للخروج من المخيم "جيتو غزة"، والسفر للضفة الغربية للدراسة عام 1969، كانت تجربة جديدة؛ من حيث اللقاء بشخصيات إسلامية وازنة (الشيخ راضي السلمي، المهندس حسن القيق، الشيخ أحمد الحاج علي، الأستاذ ناجي صبحة والشيخ إبراهيم أبو سالم وآخرون)، والعيش في فضاءات دينية وحركية أوسع وأنضج فكراً، كما أن مستويات الحياة كانت أكثر رحابة ورفاهية من أجواء المخيم.
لم أمكث طويلاً في الضفة الغربية، حيث شددت الرحال إلى تركيا للدراسة عام 1970، وكان الانفتاح على تجربة دعوية وليدة، كانت تنطلق وتتحرك في أجواء من السرية الشديدة؛ سواء من الأتراك المنتسبين لجماعة "مللي قروش" الإخوانية التوجه أو الإخوان السوريين المقيمين في تركيا.
لم تكلل تجربة الدراسة في تركيا بالنجاح، حيث كانت المتطلبات المالية فوق طاقة عائلتي، مما دفعني للعودة حزيناً إلى قطاع غزة، وبدأت التحضير لامتحانات الثانوية العامة من جديد.. ظهرت نتائج الثانوية، وكنت كغيري من شباب الإخوان من بين الطلبة المتفوقين.
في عام 1973، سافرت للدراسة في مصر بجامعة الأزهر/كلية الهندسة.. كانت هذه النقلة في حياتي بالقاهرة هي البداية لحالة النضج الفكري والحركي، خاصة أنها جاءت متزامنة مع خروج قيادات الإخوان المسلمين من السجون، وانخراطنا كطلاب إسلاميين في متابعة الفعاليات التي يقيمونها في المناسبات الدينية، وكذلك على مستوى أنشطة شباب الجماعة الإسلامية في الجامعات.
في القاهرة، كنا نعمل على إحكام العمل والانضباط التنظيمي بين إخوان قطاع غزة في مصر، وقد اتسعت مدارك الجميع بأهمية العمل الدعوي بين الطلاب الوافدين من القطاع، وضرورة تكثيف الاحتكاك بالأنشطة الإخوانية؛ باعتبارها مفاتيح الوعي والصحوة الجماهيرية، فكانت متابعتنا لعدد من الدعاة المرموقين والاستماع أسبوعياً إلى خطبهم ودروسهم، مثل: الشيخ محمد الغزالي في مسجد الفسطاط بمصر القديمة، والشيخ عبد المتعال الجبري بمصر الجديدة، وأيضاً درس الثلاثاء بمسجد الخلفاء في الحلمية مع الشيخ سليمان ربيع والأستاذ مصطفى مشهور، كما كنا نتردد على بعض دعاة الحركة السلفية كالشيخ عبد اللطيف مشتهري والشيخ حافظ سلامة، وأيضاً على مشاهير الدعاة كالشيخ عبد الحميد كشك في منطقة حدائق القبة.. لقد اتيحت لنا معرفة الكثير من الشخصيات الإخوانية القيادية، أمثال: الشيخ عمر التلمساني، والأستاذ كمال السنانيري والدكتور أحمد الملط، والداعية حسن دوح، ومن القيادات الطلابية: عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار...الخ
في السنة التأهيلية بجامعة الأزهر، تعرُّفت على الكثير من المشايخ والدعاة المشهورين هناك، حيث كانت أجواء الجامعة مفعمة بالحِراكات والأنشطة الدينية، كأحد أوجه التعبير عن قوة الصحوة الإسلامية، والتي كان الكثير من أنشطتها الدعوية هو خليط متفاعل يجمع بين الديني والسياسي.
من خلال تشكيل تنظيم بلاد الشام، دخل إخوان الأردن على خط إخوان قطاع غزة، وشكلوا معاً إضافة نوعية تنظيمية وحركية، حيث وفد أكثر من ثلاثين أستاذاً من إخوان الأردن للدراسات العليا بجامعة الأزهر، وقد أسهم هؤلاء في تنمية قدراتنا التنظيمية ووعينا الديني، وقد تسلم بعضهم مهام قيادة التنظيم الجديد، وكان من بين هؤلاء الأساتذة الشيوخ: محمد أبو فارس، وراجح الكردي، وأحمد نوفل، وعلى العتوم، ومحمد عويضة، وأحمد الكوفحي، ومحمد عمرو، وهمام سعيد...الخ
الثورة الإسلامية في إيران: التفاعل والقلق
انشدَّ الجميع للإمام الخميني وخطاباته الثورية، وبدا واضحاً التأييد الكبير بين الإخوان لما كان يجري من ثورة داخل إيران.. ونظراً لمخاوف النظام في مصر، وقلق الإخوة على سلامة التنظيم وضرورة حمايته، جرت حوارات داخلية مطولة لتوعية الشباب الفلسطيني الإخواني من مخاطر الاندفاع وراء الثورة بحماس زائد، حيث إن ذلك سيؤثر على مستقبل وجودهم في مصر. ولذا، بدأت التحذيرات من قيادة الحركة من ناحية، والدعوة لأخذ الحيطة والحذر من ناحية أخرى، خشية أن تطالهم ردة فعل الأجهزة الأمنية المصرية.
أخذت الخلافات تظهر داخل تنظيم بلاد الشام، وخاصة جناح قطاع غزة، وذلك مما كان يطرحه الأخ فتحي الشقاقي، والذي كان شاباً مثقفاً واسع الاطلاع، وبأهلية قيادية وفكرية وعلاقات وعي سياسي متميزة، تعطيه في سياق الرؤية والتخطيط المكانة المتقدمة؛ أي أنه كان - فعلاً - سابقاً لزمانه.. نشر د. فتحي الشقاقي مع الأخ بشير نافع الكثير من المقالات الداعمة للثورة الإسلامية في إيران في مجلة (المختار الإسلامي)، والتي لاقت رواجاً كبيراً بين الإسلاميين في مصر، الأمر الذي شجَّعه على نشر كتاب مؤيد للثورة، ومبشِّرٍ بثورات مثلها في عالمنا العربي، باسم (الخميني: الحل الإسلامي والبديل). وهنا، توترت الأمور ووقع الخلاف، حيث لم يلتزم الأخ فتحي بالتحذيرات، وتمَّ تجميده من التنظيم، وربما كان ذلك هو ما أفضى لاحقاً لخروجه من الحركة، وتأسيسه لحركة الجهاد الإسلامي في بداية الثمانينيات.
إن ما جمعناه من خلاصة لتلك المرحلة، التي عشناها خارج المخيم وفي بلاد الغربة، يمكننا إجمالها في النقاط التالية:
1) الحياة أرحب من أزقة المخيم، وهناك مدارس دينية وفكرية تعايشت رغم الخلاف، وأنضجت بتدافعها الحالة المجتمعية.. ففي فضاء الفكر والرأي متسع للجميع، والوطن ليس أنا أو أنت، بل أنا وأنت.
2) جدلية الاغتراب والتجديد؛ فاغترب تتجدد.. حيث إن التجديد لا يعني التغيير، بل هو القراءة الأوضح لأفق الرؤية، ربما تختلف زوايا النظر في استيعاب المشهد الإنساني، ولكن الحقيقة تبقى واحدة، ولا بدَّ أن نسمح بهذا الاختلاف والتنوع الفكري والمزاجي بين البشر.
3) البيئة المغلقة لا تتفاعل داخل أزقتها الضيقة الطاقات، ويتعثر التمايز بين الناس، حيث يبقى المرء داخلها يعاني من ضيق الرؤية والاجتهاد، وتظل آفاقه المعرفية والثقافية محاصرة.
التخرج والعودة لغزة: الانتظار ثم السفر للإمارات
عاد المئات من الخريجين من شباب الإخوان إلى قطاع غزة، وكانت التعليمات هي البحث عن عمل في القطاع، وإعطاء ذلك الأولوية في الاختيار، وإذا تعذر استيعاب الجميع فسيكون للحركة توجيهات لاحقة.. ونظراً لتفوق خريجي شباب الإخوان المسلمين، فقد احتضنت المؤسسات التعليمية والصحية التابعة للأونروا الكثير منهم، حيث كانوا حقيقة علامات إسلامية مميزة في الأداء؛ لأخلاقهم العالية وجديتهم في العمل، وتواضعهم الملحوظ في التعامل مع الناس.
وعندما تعذر استيعاب المزيد من هؤلاء الخريجين، سمحت قيادة الحركة بسفر من اتيحت له فرصة عمل بالخارج، حيث غادر العشرات من هؤلاء الشباب الإسلاميين إلى دول الخليج للعمل كمهندسين وأطباء ومدرسين، وكنت أنا من بين هؤلاء، فكان أن شددت الرحال في صيف 1980 إلى الإمارات للعمل في مشروع الشيخ زايد لتحفيظ القرآن الكريم، ثم استقر بي الحال للعمل في جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي؛ وهي واجهة العمل الإخواني هناك. وبعد سنتين جاءت الفرصة للحصول على منحة تعليمية من وزارة التربية والتعليم الإماراتية لدراسة الماجستير والدكتوراه في أمريكا.
السفر لأمريكا: الدراسة والأنشطة الدعوية والإعلامية
في عام 1982، غادرت الإمارات ومنها إلى أمريكا، وتعتبر هذه المحطة هي الأكثر أهمية من حيث نضجي التنظيمي وعملي الإعلامي، حيث فتحت لنا أمريكا الأبواب مشرعة للكتابة في الكثير من الصحف والمجلات، وترؤس تحرير بعضاً منها، والكتابة لكثير من الصحف والدوريات حول العالم.
في نهاية عام 1987، كان التخرج من جامعة كولومبيا وقبلها من جامعة كولورادو، حيث أخذت قراري بالعودة لقطاع غزة للعمل بالجامعة الإسلامية.. ونظراً لإغلاق الجامعة بأمر من الاحتلال، انشغلت تنظيمياً في فعاليات الانتفاضة لعام كامل، ثم كان القرار بالعودة لأمريكا مرة ثانية في مايو 1989، لتعذر عمل الجامعة بسبب استمرار الاغلاق.
خلال وجودنا في أمريكا كانت الانتفاضة في أوج تجلياتها الإعلامية، فكانت الندوات والمؤتمرات ساحة مفتوحة لتحركاتنا وأنشطتنا التعريفية بها وحشد الدعم المطلوب لها، من خلال الاتحاد الإسلامي لفلسطين (IAP) ورابطة الشباب المسلم العربي (MAYA)، ومؤسسات إسلامية أخرى.
أواخر عام 1983، سافرت إلى باكستان في مهمة إعلامية لتغطية أحوال اللاجئين الأفغان، وكان اللقاء بالشيخ عبد الله عزام وقيادات الجهاد الأفغاني.. كانت تلك التجربة في حياتي من جانبها الإعلامي والحركي فريدة ومثيرة.
في مطلع عام 1990، انتقلت للعمل في العاصمة الأمريكية واشنطن، وقمت بتأسيس مركز للأبحاث باسم "المؤسسة المتحدة للأبحاث والدراسات"، والإشراف على إدارته ورئاسة تحرير مجلته (MEAJ). لقد فتحت العاصمة واشنطن أمامنا نوافذ المعرفة وأبواب الوعي السياسي، وذلك من خلال المشاركة الدائمة في حضور الندوات الفكرية والجلسات الحوارية السياسية التي كانت تعقدها المراكز البحثية والأكاديمية هناك، وكذلك بما اتاحته لنا فرص اللقاء بالكثير من الرؤساء والزعامات العربية والإسلامية، التي كانت تزور عالم السياسة والقرار في واشنطن.
في عام 1992، تأسس المكتب السياسي لحركة حماس، وتمَّ انتخاب د. موسى أبو مرزوق رئيساً له، وفي عام 1995 جرى اعتقاله في مطار نيويورك، حيث انشغلنا بقضيته لمدة عامين تقريباً.. وبفضل الوساطات الكثيرة والجهود التي بذلها المحامون في الدفاع عنه، كسب القضية، وتمَّ ترحيله باتفاق إلى العاصمة الأردنية عمان في الثالث من مايو 1997.
في الفترة من 1998-2001، خضت تجربة الوساطة بين الحكومة الليبية والإخوان في الجماعة الإسلامية، حيث منحتني تلك الوساطة التحرك بين عدة عواصم أوروبية لجمع فرقاء الوطن الواحد على كلمة سواء، وقد تكللت تلك الجهود بالنجاح وتسوية ما كان قائماً من خلاف بينهما.. وفي سياق جهود الوساطة كانت الفرصة لزيارة ليبيا واللقاء بالقيادة الليبية وعلى رأسها العقيد القذافي.
أحداث سبتمبر 2001: الكارثة وضياع الجهود
بعد أحداث التفجيرات التي استهدفت برجي التجارة العالمي ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، جرت على إثر ذلك حملة اعتقالات واسعة طالت الكثير من أبناء جاليتنا الفلسطينية والمسلمة.. وكانت البداية في التقييد على أنشطتنا الدعوية والإعلامية، والتحريض على المؤسسات الإسلامية، وبدت الأمور وكأننا كمسلمين خسرنا كل شيء، وعلينا أن نبدأ من الصفر من جديد.
- الاتهام للمؤسسة من قبل جهات إسرائيلية ويهودية متصهينة في أمريكا بأنها واجهة لحركة حماس، وأنها تدعم الإرهاب، والتهديدات المتلاحقة لنا من جهات مجهولة، الأمر الذي استدعى التفكير في الرحيل إلى مكان آخر، بعدما اشتد علينا طوق الحصار، وأصبحنا مهددين بالاعتقال، وكانت نصيحة البعض لي بسرعة المغادرة، وإلا "إن لم تخرج الآن فلن تخرج إذاً أبداً".
كانت تلك المحطة من حياتي فيها خلاصات كثيرة، ولعل من أهمها النقاط التالية:
1) الغرب ليس عدواً لنا، ولكن هناك شياطين ومؤسسات ترسم ملامح الشعوب والأمم، فقبل سقوط الاتحاد السوفيتي كان الإسلاميون حلفاء لأمريكا في أفغانستان، ولطالما أطلقت عليهم وسائل الإعلام الغربية اسم "المجاهدون العرب"، أو "الأفغان العرب".
2) إن إسرائيل هي وراء كل البلاء الذي لحق بالإسلاميين في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
3) إننا كإسلاميين قصَّرنا في الاهتمام بالعمل الإعلامي.. ورغم الإمكانيات الكبيرة لنا في الغرب، إلا أننا لم نلتفت – للأسف - لعمل اللوبيات، وتركنا الحبل على الغارب للصهاينة للسطو على كل المنابر الإعلامية، وتأخرنا في دخول معترك العمل السياسي، لإيجاد توازنات في سياسات أمريكا الخارجية تجاه قضايانا، وخاصة القضية الفلسطينية.
4) لقد غضضنا الطرف عن مظاهر التطرف والغلو التي سوَّقتها الحركة الوهابية ودعاتها حول العالم، حتى سهل اتهامنا بأننا من يقف خلف الإرهاب!!
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 المأساوية، ضاقت علينا الدنيا بما رحبت، حيث إن الاعتقالات طالت الكثيرين في أمريكا.. ومع القوانين الجديدة التي صدرت باسم (PATRIOT)، أصبح كل إسلامي أو فلسطيني هدفاً يمكن أن توجه له سهام الاتهام، خاصة إذا ما كان له نشاط يتعلق بتقديم الدعم المالي أو الإعلامي للضفة الغربية وقطاع غزة.
ومع تنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، لم يعد لشخصيات مثلي أن تراهن على البقاء، حيث تحركت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من خلال شبكاتها وأذرعها الإعلامية في الغرب، وأخذت تستهدف أنشطتنا كجالية فلسطينية، وتلاحق تحركاتنا الدعوية، وأي أشكال نضالية أخرى للتعريف بمأساة شعبنا وقضيتنا الوطنية.
أدركنا مع اشتداد حملات التحريض والتشهير والتشويه التي تقوم بها ماكينة الدعاية الإسرائيلية في الغرب، بأن رقابنا ستطالها مقصلة الجلاد الأمريكي، حيث غابت النزاهة وطأطأت العدالة رأسها، وتمَّ تسييس القضاء، وأخذت الأحكام الجائرة تطال الكثير من الفلسطينيين، وخاصة كل من كان له سبق في العمل من أجل القضية على المستويين الإغاثي والإنساني!!
كانت الفترة التي أعقبت تلك الأحداث المأساوية في سبتمبر 2001، بالغة الشدة علينا، وكنَّا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نغادر أمريكا ونضرب في فيافي أرض الغربة من جديد، وإما البقاء واحتمال الاعتقال والسجن بتهم واهية، كما جرى مع عدد من الشباب الفلسطيني.
تشاورت مع العديد من الأصدقاء، وأجريت أكثر من استخارة، وكان القرار: أغادر أمريكا أولاً إلى مصر، وهناك يفعل الله ما يشاء.
الإقامة في الجزائر: تجربة إسلامية وحركية جديدة
في يونيه 2004، غادرت أمريكا إلى مصر، وكنت أريد أن أمكث بها قليلاً، ومن هناك يمكنني التواصل مع بعض الإخوة، بهدف معرفة وجهتي القادمة.. للأسف، كان الحجز في المطار، والإصرار على مغادرة مصر، والعودة من حيث أتيت!!
شعرت بالإهانة الكبيرة، فهل يعقل أن تكون مصر التي سكنت فؤادي منذ طفولتي وشبابي، وكانت الدوحة التي نضجت بها أفكاري خلال دراستي وإقامتي لسنوات سبعٍ فيها، هل تكون بهذه القسوة والجفاء؟ وأين ذلك المعنى الجميل لمصر "أمُّ الدنيا وأرض الكنانة"، والبلد الذي ارتسمت ملامحه بأنه مثابة للناس وأمنا: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"؟!!
كان خيار العودة إلى أمريكا صعباً، وخاصة بهذا الشكل "الترحيل" ورفض الاستقبال!! كانت الأيام الخمسة بالحجز في مطار القاهرة كافية للتفكير في بدائل أخرى، حيث أكرمنا الله بالتوجه إلى الجزائر.. في هذا البلد الطيب الذي يعشق أهله شعب فلسطين وجدت ترحيباً، وكان الاحتضان الدافئ، حيث فتحت أمامنا الأبواب من حيث لم نحتسب.
في الجزائر، كانت الفرصة للاطلاع على تجربة الإسلاميين هناك، والتحرك عبر ربوع البلاد للحديث عن الانتفاضة والشيخ أحمد ياسين لمدة عامين كاملين، وقد اتيح لي خلال تلك الإقامة بالجزائر السفر إلى عدة بلدان للقاء بقيادات الحركة؛ سواء في سوريا أو لبنان.
إن تجربة الحركة الإسلامية في بلدان المغرب العربي تختلف في الحقيقة عن تجربتنا الإسلامية في المشرق.. لديهم هناك حوارات موسعة ومراجعات ومؤتمرات تنظيمية، والمرأة لها مكانتها المتقدمة في قيادة الحركة، وتحظى بنسبة قد تصل إلى 30%، والتنافس الانتخابي يدور حول البرامج وليس الأشخاص.
كانت إقامتي في الجزائر فرصة للتعرف على تجربة هذا البلد الطيب، وصاحب الباع الطويل في مقاومة الاحتلال الفرنسي، مما أثرى إطارات المعرفة بثقافة بلدان المغرب العربي، حيث المرونة الفقهية الواسعة والمزاوجة في المواقف بين الدين والسياسة في أروع تجليات فقه المقاصد، الذي بزَّ به علماء الزيتونة حواضر مشرقنا العربي كالأزهر الشريف، وما انبثق عنه من مدارس دينية بعد ذلك في السعودية والسودان وبلاد الشام.
العمل في الحكومة: التجربة والدروس
في أغسطس 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة، مما شجعني للتفكير بسرعة العودة إلى أرض الوطن، وخاصة بعدما فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية في يناير 2006.. كان لقائي بالإخوة في قيادة المكتب السياسي للحركة بالقاهرة في أول فبراير، وتمَّ تكليفي للعمل كمستشار لرئيس الوزراء أبو العبد هنية.
في الحقيقة، لم أكن أفكر يوماً بالعمل في الحكومة، وكل ما راودني وأنا أشد رحال العودة لقطاع غزة أن أسس مركزاً للبحث والدراسات (Think-Tank)، والاهتمام بتقديم الاستشارات، لاستكمال ما كنت بدأته في أمريكا من مشروع للتعريف بقضيتنا الفلسطينية ورؤيتنا النضالية وفكرنا السياسي، إلا أن الأقدار ساقتنا في اتجاه آخر، فكان عملي في الحكومة الذي بدأ كمستشار سياسي لرئيس الوزراء ثم وكيل لوزارة الخارجية.
خلال موقعي في الحكومة إلى جانب رئيس الوزراء، كنت يحدوني الأمل أن أنجح في استثمار ما أمتلكه من حصيلة معرفية، وعلاقات دولية على مستوى العالم، وخبرات راكمتها سنوات الغربة والعمل بالخارج، في تقديم أداء أفضل لعمل الحكومة التي تقودها حركة حماس، وإنتاج مشهدٍ بعيد عن الصورة النمطية، التي تمَّ تكريسها في العقلية الغربية تجاه الإسلاميين، وذلك بالالتفاف على ما يروج له الصهاينة – إعلامياً - من اتهامات لحركة حماس بالتطرف والإرهاب.
حاولت صناعة مشهد مغاير لحركة حماس، وأن نقدمها بثوب المرونة السياسية والاعتدال، من خلال خطاب سياسي منفتح وغير متشدد، حيث كنت أعتقد أنني أمتلك ناصية ذلك، لما لي من خبرة سابقة بالواقع السياسي في الغرب، إضافة لتخصصي الإعلامي.. لكنني لم أتمكن من تحقيق ذلك؛ لاعتبارات لها علاقة باختلاف العقليات تجاه فهمنا لمعادلة الصراع مع الاحتلال، وكيفية النظر إلى المجتمع الدولي، وإمكانيات حشده لصالح قضيتنا، ولكن يبدو أن سطوة الموقف كانت شديدة البأس، وليس من السهولة على فرد مهما بلغت مكانته تجاوزها. ولذلك، ظلت تلاحقني من قبل إخواني اتهامات البعض بالتغريد خارج السرب!!
من الجدير ذكره، إن سفرات عديدة خرجت بها من قطاع غزة لبلدان أوروبية، بهدف اللقاء بشخصيات وجهات سياسية أجنبية للحديث حول حركة حماس، ورؤيتها السياسية، ومواقفها من الغرب والمجتمع الدولي، ونظرتها لحل الصراع مع الاحتلال، مما أسهم بفتح أبواب بعض المحافل الدولية لدعوة عدد من البرلمانيين والسياسيين لولوج حواضر الدول الأوروبية، وتوسيع مجالات العلاقة – خلف الكواليس - للعديد من قيادات الحركة، بهدف توضيح مواقفها وتوجهاتها عبر الكثير من اللقاءات في الداخل والخارج.
كنت استبشر خيراً من وراء تلك اللقاءات الكثيرة، التي لم يتم الإعلان عنها في وسائل الإعلام، وخاصة تلك التي بادرت إليها دول أوروبية، مثل: سويسرا والنرويج وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيرلندا وهولندا، وحتى الأمريكان لم يكونوا بعدين عن تلك اللقاءات التي جرت خلف الكواليس.
نعم؛ كانت هناك فرص، ولكن السلطة الوطنية كانت تتوجس من أي علاقات كانت تقيمها حركة حماس مع أي أطراف عربية أو غربية.. لذلك، ظلت كل خطواتنا في الظل، حتى لا نُغضب السلطة، ولا ندع مجالاً للشك كي يأخذ طريقه إلى علاقاتنا الداخلية.
كانت المبادرة السويسرية في شهر يوليو 2006 هي واحدة من المحاولات المشكورة لعقد هدنة لمدة خمس سنوات، ولكن الرئيس (أبو مازن) أثار ضجة إعلامية كبيرة وبنبرة سلبية أدت إلى وأد الفكرة، وقطعت الطريق أمام دراستها وتطويرها وكسب الزخم الأوروبي خلفها، وقام بتوجيه الاتهامات لحركة حماس ولي مباشرة بتسويق فكرة الدولة ذات الحدود المؤقتة!!
حاول الرئيس نيكولاي ساركوزي الدخول على خط المبادرات، بهدف إيجاد مناخات إيجابية يمكن من خلالها التواصل مع حركة حماس بشكل رسمي، إلا أن وزير الخارجية الفرنسي (برنار كوشنير)، الذي اجتهد في فتح قناة للتواصل مع الحركة تعرض لموجة من الاتهامات بالحوار مع الإرهابيين!!
محاولات أخرى جرت لتمهيد الطريق لقبول حركة حماس وحكومتها رسمياً، إلا أن جهات بعضها داخل السلطة كانت تعمل على إجهاض تلك المحاولات، وسيأتي الوقت لتناول هذه المسائل بالتفصيل لاحقاً.
في نهاية عام 2010، تركت الحكومة مع حلول سن التقاعد، ولكني كنت أرى أنني ما أزال في قمة نضجي وحيويتي وقدرتي على العطاء والعمل.. فكان التفكير في البحث عن مجال آخر أستطيع من خلاله التخذيل عن هذه الحركة العظيمة، والحفاظ على إنجازات السنوات الطويلة من الجهد والتضحيات، والتي قدَّمتها الحركة على مدار نصف قرن كانت مع بداية انطلاقتها في أوائل الخمسينيات.
معهد بيت الحكمة: الفكر والرؤية
وجدت دالتي في مشروع مؤسسة بيت الحكمة، حيث سخَّر الله لنا من يجد لنا الدعم والتمويل الذي نبدأ به العمل، وكان التفكير في كيفية صياغة مشروع نهضوي نستكمل به ما بدأناه، ونحمي به شجرتنا المباركة من تربص عوادي الليل، وما تحمله شمس النهار من المكر والمكيدة.
كان الحظر المفروض دولياً على التعامل مع حركة حماس؛ باعتبارها حركة موضوعة على قائمة الإرهاب العالمي، قد ضيَّق مسارات التعامل مع الحركة، فكان أن سخَّرنا الله بفتح بابٍ لخدمة هذه الحركة عبر توفير منبرٍ محايد ومستقل يلتقي فيه الجميع، بما في ذلك كل من يأتي قاصداً من السياسيين الغربيين اللقاء بقيادات الحركة ووزرائها.
نجحنا في معهد "بيت الحكمة" أن نجعل منها بعد عشر سنوات مكاناً يؤمُّه الجميع من إسلاميين ووطنيين، ونقدم من خلاله أنشطة وفعاليات تفاوتت بين الملتقيات والندوات والمؤتمرات التي تخدم رؤيتنا ومشروعنا الوطني.
لا شك أن "بيت الحكمة" شهد جهوداً خيرة لتحريك ملفات سياسية كثيرة، ولكنَّ الحالة الاحتلالية التي عليها أوضاع القطاع لم تساعد كثيراً في استمرار التواصل مع المجتمع الدولي، الأمر الذي جعل الكثير من المحاولات الأوربية تصطدم دائماً بالرفض الإسرائيلي من ناحية، وبتوجسات السلطة من أي مقاربات سياسية مع حركة حماس من ناحية ثانية، ولعل أقرب شاهد على ذلك هو المبادرة السويسرية لحل إشكالية رواتب الموظفين، إلا أن أكثر من طرف فلسطيني كان وراء قتل المبادرة، وتعطيل أي حراك باتجاه الحل لهذه المعضلة، والتي شكلت عقبة كأداء أمام ملف المصالحة وإنهاء الانقسام.
ختاماً.. رأي المرء على قدر تجربته
خلال خمسة عقود من الانتماء الحركي والتجربة الفكرية والنضالية في مشوار حياتي، يمكنني أن أُجمل خلاصتها التي شكلتها القراءات والملاحظات والتجارب في عشرة نقاط، وهي كالتالي:
أولاً) إن أي حركة إسلامية بلا مراجعات وتقييم لمساراتها الحركية والدعوية والنضالية فإن مآلها التراجع وتكريس الأخطاء وإعادة انتاج الفشل؛ لأن العقل لا يمكن أن ينضج إلا بالتأمل والمراجعة.
ثانياً) ضرورة الإقرار بأن التعايش والانسجام بين المشاعر والحسابات الوطنية والإسلامية عامل مهم لاستقرار النسيج الاجتماعي والحفاظ على تماسكه.
ثالثاً) التدرج في العمل السياسي وترتيب الأولويات، وعدم استباق الخطوات أو فرضها بالقوة.
رابعاً) الوعي بأن السياسة تتطلب المرونة في الأخذ والعطاء، ومد اليد والموقف باتجاه الآخرين.
خامساً) الإيمان بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، والابتعاد عن منطق "صوت واحد.. لمرة واحدة.. وللأبد"!!
سادساً) أهمية الشراكة السياسية ضمن التوافقات الوطنية والقواسم المشتركة، والحذر من خطورة أساليب التفرد والإقصاء والتهميش.
سابعاً) الازدهار الاقتصادي والعيش الكريم هو الطريق لكسب القلوب، وتثبيت الولاء للفكرة، واستمرار العمل والتفاني من أجلها، وأمامنا تجربة تركيا وماليزيا شاهد على ذلك.
ثامناً) ضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي، والسياسي والعسكري؛ لأن لكل فارس ميدان، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، حيث إن كل "صاحب بالين كذَّاب"، كما يقولون في أمثالنا الشعبية.
تاسعاً) الاختلاف سنة من سنن الكون، ولا بدَّ أن يعذر بعضنا بعضاً؛ لأن آراءنا منشؤها بيئات ومحاضن تربية واجتماعية متباينة، فالإنسان في خلاصته يبقى موقفاً يلتصق بالذاكرة، والدين في جملته - كما تعلمنا - آداب وسلوك (الدين المعاملة).
عاشراً) القيادة التي لا تقبل النقد والمراجعة هي دكتاتورية مستبدة بعباءة إسلامية، رحم الله الإمام بن حنبل الذي أوضح ذلك بالقول: "لا نزال بخير ما كان في الناس من يُنكر علينا".

اخر الأخبار