فرنسا و"السترات الصفراء"

تابعنا على:   08:16 2018-11-27

د. عبدالحق عزوزي

من رأى بعينيه جادة الشانزيليزيه المشهورة في باريس، صباح السبت الماضي، سيظن نفسه في ساحة تمثيل فيلم حربي هوليودي.. فقد استخدمت الشرطة الفرنسية الغاز المسيل للدموع ضد متظاهري «السترات الصفراء» إثر تجمعهم في هذه الجادة المعروفة تاريخياً. وحاول المحتجون الوصول إلى «ساحة كونكورد». ومنعت قوات الأمن المتظاهرين من الاتجاه نحو قصر الإليزيه، ودفعتهم باتجاه قوس النصر. وحصل المتظاهرون على تصريح للتظاهر في حديقة «شون دو مارس»، لكنهم قرروا التحرك باتجاه القصر الرئاسي. وطوال الأيام الماضية احتشد آلاف المتظاهرين في العديد من المناطق الفرنسية للاحتجاج على السياسات الاقتصادية للرئيس الفرنسي، وأغلقوا -مرتدين ستراتهم الصفراء- الطرق السريعة في جميع أنحاء البلاد بحواجز محترقة وشاحنات بطيئة الحركة لعرقلة الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع.
ورغم دعوات الحكومة للتهدئة، امتدت احتجاجات السترات الصفراء إلى الأراضي الفرنسية في الخارج، بما فيها جزيرة لاريونيون في المحيط الهندي، حيث أضرمت النار في السيارات.
ويعارض المحتجون الضرائب التي فرضها ماكرون العام الماضي على البنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة. وعلاوة على الضريبة، عرضت الحكومة حوافز لشراء سيارات كهربائية صديقة للبيئة. وتمثل الاضطرابات معضلة لماكرون الذي يصور نفسه بطلاً في مواجهة تغير المناخ، لكنه تعرض للنقد لعدم تواصله مع الناس العاديين في وقت يقاوم فيه تراجع شعبيته.
ما يقع اليوم في فرنسا يذكرني بأحد مقالات الاقتصادي الكبير جون لويس ريفرز، الذي له برامج تنموية متعددة استعانت بها أعظم المؤسسات البنكية العالمية والاتحاد الأوربي. يقول في إحدى مقالاته إن الحراك الاجتماعي يبلغ أشده عندما يرتفع ثمن بعض المواد الحيوية للسكان. ويذكر في مقالته الأكاديمية ما عايشه شخصياً مع البنك الدولي ومصر قبل أكثر من أربعة عقود، إذ قامت المؤسسة البنكية العالمية بفرض مقولة « لا تدعموا أبداً القمح» . ويكتب الاقتصادي الفرنسي: « هنا أثير انتباهكم إلى أننا إذا دعمنا ثمن القمح، لن يستطيع فلاح النيل إنتاج القمح، لأن الأثمان ستكون منخفضة جداً ي السوق. فهل هذا خطأ في الاقتصاد؟ هذا صحيح ! وإذا كان ثمن القمح منخفضا جداً لأنه مدعم حتى يمكن للأم المصرية أن تصنع الخبز وتغذي أطفالها، فالفلاح لن يستطيع إنتاج القمح، وبالتالي سيزيد الاعتماد على الدولة. رفض الرئيس السادات هذا الأمر ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: إنكم تزعجونني، أنا بحاجة للمال، سأفعل ذلك. وكنت ذاك اليوم في ساحة التحرير، ولا أظن أنني شعرت بالخوف في حياتي كما شعرت به في ذلك اليوم؛ كانت الساحة مزدحمة والسيارة تهتز والفنادق الكبرى للقاهرة بدأت تحترق.. أسبوعاً فيما بعد، قال السادات لمسؤولي صندوق النقد الدولي: أرأيتم ما حصل؟ ثم عاد لدعم القمح. وقد تصادف أن كنت موجوداً بعد ثلاثة أشهر في بعض المدن حيث حصل نفس الشيء لكن بشكل أقل عنفاً، لأن المسألة كانت تتحرك عموماً بشكل أكبر في القاهرة».
لذلك السبب تجنح العديد من الدول إلى ما يمكن تسميته نظام المقاصة، لأن السلم الاجتماعي غالباً ما يكون منوطاً بدعم الدولة للمواد الأولية.. بمعنى أن استقرار الأسعار يعني تثبيت السلم الاجتماعي، لأنه لا يمكن تصور السلم الاجتماعي دون تدخل الدول في ترشيد أسعار ورواج المنتوجات المختلفة، ونحن نتذكر ما وقع في الولايات المتحدة الأميركية في ظل الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 حيث اضطرت الدولة لتبني سياسات تدخلية وحمائية خوفاً من تسريح ملايين العمال من الشركات والزيادة في الأسعار.
الرئيس الفرنسي ماكرون سيكون مضطراً، بعد هذه الأحداث، للتريث قبل اتخاذ أي قرارات تمس جيوب الطبقات الفقيرة والمتوسطة في فرنسا، وسيكون مضطراً لوضع سياسات استباقية تمنع تكرار هذه الاحتجاجات.

عن الاتحاد الإماراتية

اخر الأخبار