لحن الخلود

تابعنا على:   01:49 2019-01-23

محمود حسونة

1-خربشات جدارية!!!
الضباب الكثيف يلفني بجنوني وعشقي، بقسوتي وطيبتي، كغريق في بحر من الحليب!!!
إنه صباح جميل وأنت تعوم في هذا البحر الممتد، باحثا عن صفاء ذهني ينقّي روحك ويطهر قلبك!!!
ثمة نغم ناعم ينزلق من شرفة صغيرة يخترق الصمت، نغم ممزوج بحنين وأنين كطعم برتقالة!!!
ينساب كخيط ناي رفيع من جرح قلب موجوع، نغم يهمس بصمت شجيّ، قطرات دفء تقْطر على مهل في روحك وقلبك، فتشعر أنك في أعالي السماء تلتقط النجوم تجمعها ثم تنثرها فتضيء ليل العالم، إنسان يمنح الفرح والبهجة لكل العالم!!!
لم أرها وهي تختبئ وراء ظلالها خجلى، وتعزف ألحان الخلود…
لقد بللتني أنغامها كدهشة طفل، انسكب عليه دلوا كبيرا من ماء بارد، ثمّ صار فرحا كأنه عثر على حبيبته الصغيرة!!! 
من بعدها لم أتأخر يومًا واحدًا عن زيارة شرفتها، في برد او في حر، وقت حرب أو وقت سلم!!! كل يوم يزداد شوقي وغرامي بها وبشرفتها وبالشوارع التي تؤدي إليها، بالهواء الذي يحمل أنغامها!!!
أتقدّم كلّ صباح، نحو شرفتها كعاشق مغرم، وأنا أحتضن باقة الأزهار الملونة، أمير عاشق من أساطير ألف ليلة وليلة!!!
أنثر أزهاري على شرفتها، حفنة من عطور وفراشات ، ثمّ أقف تحت شرفتها العظيمة متكئا، وأنا أستمع وأستمع، أملأ رأسي وجسمي وجيوبي بألحانها!!!
وعندما ينسل او خيط من ضوء الشمس، وتلتمع اوراق الأشجار بنوره، تنسحب بهدوء تاركة الشمس الدافئة تشعل شرفتها!!!
كأنها تقول لي: يمكنك أن تذهب الآن، فقد امتلأت بالأقمار وبروائح زهر اللوز والليمون!!! فأنت جدُّ مستريح!!! 
أنسحب على أطراف أصابعي بخفة حتى لا يستيقظ النغم النائم في رأسي!!!! وأستسلم لكائن آخر في داخلي يمضي في رحلته؛ ليأخذني إلى تلك الغيمة البيضاء الصغيرة السارحة التي تسبح في بحر السماء الأزرق، أفترشها كبساط الريح وأنام كأميرة جنيّة، علّني أموت هناك موتا سعيدا!! 
2- فكروني!!!
اشتد وقع المطر؛ فدفنت رأسها تحت معطفه، 
عندها سقطت الصورة على الأرض فالتقطتها وأخذت في تقليبها وتأملها…
كانت ذات وجه طفولي نقي وبرئ و جميل، لم يعبث به الزمن بعد، وعينان واسعتان تفيضان بالذكاء!!!
ثم قرأت جملة الحب التي كتبها بحروف ناعمة خلف الصورة: أينما كنت فسأكون معكِ في أيّ سماء أو في أيّ أرض!!! 
لاحظ ردة فعل غريبة ظلّلت ملامحها فصارت اكثر عبوسا!!! 
نظرت إليه وهي تحاول بصعوبة ان تبتسم لتخفي توترها وضيقها والصورة ما زالت ترتعش في يدها!!!
-هل مازلت تحبها؟؟!!
-هذا لن يغير شيئا في العلاقة بيننا…. لقد ماتت وأنت تعرفين ذلك!!!
كررت السؤال:هل ما زلت تحبها؟؟!!
- ما جدوى هذا النقاش… لقد ماتت، نعم لقد ماتت، كانت حبيبتي ثمّ زوجتي وماتت!!!
-وهذه الصورة ماذا عنها؟؟!! 
-هذه الصورة مما تبقى من قصة طويلة انتهت إلى الأبد، قصة مؤلمة، سعادتها كانت قصيرة و صغيرة!!!
رغم شدة المطر و البرد بدأت تشعر بالسخونة وهي تجلس بجانبه في سيارته المتوقفة...
- لقد كانت تملك قلبًا كبيراً!!! رسالتها الأخيرة قبل أن تودّع الحياة جملة واحدة: عذرا، لقد قسوت عليك كثيرا!!! كانت تظن أنها هي التي قست عليّ!!! إنه الموت الذي قسى علينا، لقد كان الموت أقوى منّا، وسيبقى أقوى منّا جميعا!!! الموت يتمرد علينا يهزأ من غفلتنا، يوبخنا، ينقضُّ علينا بلا موعد!!!
المشكلة الكبرى ليس في الموت، وإنما في نظرتنا له، عندما نظن أنّ من نحبهم أبعد ما يكونون عن الموت، وأنه لن يظفر بهم في لحظة شاردة!!! 
هذه سذاجة، الموت أقرب من أي شيء لنا، لكن علينا ألا نتركه يقضُّ مضاجعنا، و ألّا نجعله هاجسا، وإلا أصبحنا أحياء كالأموات، لكن علينا أن نؤمن به كحقيقة مطلقة قد يطبق علينا في لحظة ما!!! ونهيئ أنفسنا على أنه يمكن ان يفقدنا أعزّ من نملك!!! هذه حقيقة الموت، إنه لا يهادن ولا يساوم!!!
-لماذا تصر على التحدث عن الموت؟؟!
دعك من الموت وفلسفته!!! عليك أن تتخلص من هذا كله!!!
وأن تنتبه لحاضرك و لحياتك ولا تتترك لأحد ان يعبث بها، فنحن لا نعيش إلا مرّة واحدة علينا أن نعرف كيف نعيشها!!!
-أتفق معك تماما لذلك ساعديني كي أملأ قلبي وذاكرتي بك...
-كيف أساعدك وانت بهذا الحنين وهذا الشوق!!!
-الأمر ليس بالهيّن كما تظنين!!!
- إنك تعذب نفسك بلا طائل!!!
للذاكرة طغيان وقسوة، إنها تضعنا أمام جراحنا بصورة مباشرة، وتسبب لنا آلاما لذيذة!!! 
أغمض عينيه كأنه لا يريد أن يرى غيرها!!! يا إلهي، كيف يمكن أن أنسى كل شيء وألّا أتذكر ملامح وجهها وابتسامتها المضيئة، وهي تستقبل الموت، اندهشت من شجاعتها وصبرها!!!
كنت عاجزا عن إنقاذها، عجزت عن إنقاذ أقرب كائن إلى حياتي، وأنا أستمع للأنين المنهك الذي يصدر من جسدها الهزيل الذي لم يرحمه المرض !!! أتذكرملامحها الاخيرة وهي تشد على يدي، وتواسي قلبي بهذا الفراق الأبدي القاسي… كان شيئا عميقا ينغرس في قلبي يشبه الطعن اللئيم!!!
كيف يمكن ترميم كل هذا الخراب الذي أصاب حياتي؟؟!! ما زال المشهد ماثلا أمامي وفي عمق ذاكرتي!!! مشهد الحب الضحية الذي قتله الموت بضربة واحدة لم ترحم!!!
شعر برأسه ممتلئا عن آخره بأصوات وإيقاعات متتالية وصاخبة تكاد أن تفقده إتزانه، وتمزق روحه إلى شظايا دقيقة منثورة كالغبار، أيّ قلب يمكن ان يحتمل هذا؟؟!! لقد كانت نهاية تراجيدية بكل المعاني...
إن لم تساعديني فسوف أفشل!!! أنا بحاجة إليك أكثر من أي وقت،
لا أدري من أين تأتي هذه الأحاسيس، وما معنى أن أخفق في إزالتها؟؟!!
كان يتحدث مع نفسه فعندما فتح عينيه، لم يجدها، لقد غادرت المكان!!!
لقد تركتني وفرّت، لم تحتمل آلامي، أي بلادة وأي غيرة مريضة يمكن أن تحملها إنسانة تدعي الحب، بدون أدنى تضحية، لا يمكن ان أنسى ما حدث بضربة ساحر، هي الدنيا بأقدارها القاسية، وكلنا رهائن لأقدارنا… كيف لم تفهم ذلك؟؟!!
آآآه اكتشفت الآن أني لم أكن أعرفك جيدا!!! شتان بين التضحية والأنانية النرجسية!!!
انحنى والتقط الصورة، هذه الصورة هي الشيء الوحيد الذي لن أفرّط به من كل أشيائي، إنها أخر ما تبقى من قصة طويلة انتهت بفراق أبدي، سمع أصوات تشبه صوتها، أصوات تناديه من أقصى البعيد، أصوات متداخلة متناسقة يملؤها الحنين،
وقبل أن يعيد الصورة لجيب معطفه،
أخرج القلم من معطفه وأعاد كتابة جملته بحروف مضطربة
وبيده الباردة سأكون معكِ في أيّ سماء أو في أيّ أرض!!!
3- دهشة!!!
تطل من شرفتها، مندهشة ومدهشة، بفتنتها وعوالمها الخفية؛ كعاصفة من الضوء!!!
تتحرش بالسكون الهامد في غرفتها، السكون الذي يغلفها!!! فتسكب من عينيها شلالات ناعمة وساخنة من ماء ونور!!!
وتعلن لكل العالم ضجة حضورها الشهي الدافئ، فيرتبك الهواء، وتحترق العتمة وترمح الخيول…
ترتفع الأعناق شاخصة في سماء حضورها الصافية، لكنها تبقى عصية على الملامسة؛ إنها جارة النجوم!!!
4- غياب سريٌّ...
هجعت العصافير في أعشاشها الدافئة التي تحفظ أسرارها،
فقد هبط سواد الليل، واستكان كل شيء لقدره الغامض...
صار الليل يلفني ومعه برد كانون القاسي، وأنا واقف على حافة شرفتي أتأمل فراغ أملس أسود بلا ملامح، وريح باردة قلقة تعصف بكل شيء وتبعثره، كما يعصف بنا التيه و القدر!!! فاجأني أنين خفي يدق أبوابي، يحاول أن يوقظ غفوتي، و يشعل الحرائق التي تكويني بلا رحمة….
شرّعت النوافذ عن آخرها، وتمنيت أن تهجم الريح وتبعثر أوراقي وذكرياتي الثقيلة ومذكراتي وأحلامي وكل أشيائي، ثم تعصرني كليمونة، وتطوّح بي بعيدا في غياب سريّ لا يعلمه أحد، كأنه سر من أسرار الموت أو من أسرار الخلود!!!
أجمل هدايا السماء!!!
سارة أجمل الهدايا!!! في عينيها مرايا وحكايا!!!
سارة حورية باهرة صافية، هبطت من جنة السماء، تأخذني في عينيها السوداوين، فأسافر كالتائهين في ليل الصحراء!!!
سارة أغنية قروية سمراء، يختفي الليل في شعرها الفحمي الأسود وينام مطمئنا كما ينام الشهداء!!!
سارة زخة مطر دافئة في صباح مدهش على بساتين اللوز والرمان، تبشر باعراس وأفراح للفقراء!!!
تأتيني كل صباح كأميرة كنعانية حسناء، تذكرني بيوم جديد، لتكون أول من يراني، تعطّرني بابتسامة، ثم تأخذني أسيرًا إلى حدائقها الواسعة، نجري سويا ونختفي في سحابة من الضباب بيضاء!!!
أبي، لن أطلب منك الكثير، قبلة واحدة تطبعها بين عينيّ تضحك وأضحك معها، وتوعدني أن تكررها في المساء!!!
ابنتي سارة وحيدة قلبي، دخلت عامها الثامن، كل عام وأنت بخير يا أجمل هدايا السماء!!!

اخر الأخبار