قصة قصيرة: تمر حنة

تابعنا على:   02:15 2019-02-03

أمير المقوسي

اعتاد أن يهرب من تفاصيل النهار ويتسلل إلى الليل ليسكن بين طياته ويتحدث مع خالقه ويستجديه ولا يسأله غير الراحة. وذات ليلة أثناء مسيره في غابة ليله المخفية، جذبته رائحة تمر حنة وصوت لحن فيه أنين، فأخذ يتتبع الرائحة ومع كل خطوة تتضح له معالم اللحن تدريجياً، حتى عثر على عصفورة تغريداتها فواحة برائحة التمر حنة.
وقف بعيداً يراها ولا تراه خوفاً من أن يرهبها وتطير مغادرة، اُعجِب بروحها، وبألوانها رغم قتامتها، ونعومة صوتها الصداح رغم أنينه الملموس، أحبها وأصبحت قبلته اليومية، وشجرتها محراب طقوسه، وراح يراقبها في جولاته الليلية من بعيد، ومن مسافة ليست بقريبة أعلن لها عن وجوده معتذراً منها عن تطفله واقتحامه لخصوصيتها وعالمها، فلم تعترض وبدأ نول الحديث بينهما ينسج قماشة حياة من خامة لا يعرف لها اسم، وأخذ يتحدث إليها عن كل ما يدركه وما يتمناه، ويُطعمها من حبات سكر لا تفارق جيبه، ويداعبها حتى ارتبط فيها دون علمها، وفي لحظة شجاعة صرح لها بحبه، وفي وشوشة قصيرة اخبرها أن الحياة والكِبر قد نالا منه حتى طار غرابه وبدأت التجاعيد تحتل مكانها على وجهه وتستوطن، فتوقفت لحظتها عن شدوها وراحت تتفرس في ملامحه من الخارج وتحاول في الداخل، وكان لا يعجبها غير حنو صوته، وعشقه لتفاصيلها وتفاصيل أي توقيت لفعل لها، فكان يرويها بإهتمامه وتزيده هي ظمأً بتجاهلها للحن كل يوم يشرحه لها لتشدوه، وبالرغم من ذلك كان كل يوم يسمع منها لحن جديد ولا يفهم محاذيره.
ومرت أيام وأسابيع وأشهر وسنوات على هذا الحال.
كانت هي ملولة بطبعها بدليل سرعتها في تبديل ألحانها، وكان يعتز بأول لحن جذبه إليها، وكان يطلبه منها دوماً، فطلبه منه مرة كانت هي الأخيرة، ضجرت ونفخت أوداجها كأنها سَتَذبح لا سَتُذبح وانتفضت، فظن أنها حمى اصابتها فارتعب، ومد يده المهزوزة قلقاً يهدهد ريشها، فإذ به يخرج من تحت جناحاها بزهو عدداً ليس بقليل من ذكور فصيلتها كانوا يستمتعون بدفئها الداخلي وحديثه وسذاجته.

اخر الأخبار