كوابح التطبيع العربى مع إسرائيل

تابعنا على:   12:20 2019-02-21

محمد أبو الفضل

احتفاء عدد من قيادات إسرائيل بالتواصل المباشر مع بعض الدول العربية، يوحى بأنها تجاوزت خطوط الممانعة التاريخية، ويتعمد هؤلاء المبالغة فى تقييم المردود السياسى لأى لقاء يكون طرفه عضوا إسرائيليا، ويتم تسويق المسألة على أن جبال الثلج تمت إذابتها.

الاهتمام بهذه التطورات يؤكد أن ورقة التطبيع تمثل هاجسا لدى إسرائيل، رسميا وشعبيا، ومع كل ما اتخذته من خطوات عسكرية وتوسيع نطاق الاستيطان وتجاوزات قوات الاحتلال وانخفاض سقف الطموحات الفلسطينية، إلا أنها تشعر بالغربة وسط المحيط العربى الجارف، وتعتقد أن انخراطها فى تعاون سياسى واقتصادى هدف إستراتيجى لن يتم التنازل عنه، لأنه ينطوى على أحد ملامح التطبيع الشعبى فى المستقبل.

المعلومات والتعليقات والمواقف التى رشحت عن مؤتمر وارسو للأمن والسلام فى الشرق الأوسط أخيرا، تشير إلى أن التطبيع مهم للغاية لإسرائيل، ويجب فصله عن التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وهى حيلة تراودها منذ فترة، وتستغل فيها بعض الصراعات والتوترات الإقليمية التى تفرض التحية أو اللقاء العابر أو الحوار مع قادة إسرائيل فى مؤتمرات دولية، وحرف الأنظار نحو العلاقات فى إطارها الثنائى وتفريغها من مضمونها العربى العام.

مؤتمر وارسو أحد التجليات التى تبارى فيها بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، فى الإيحاء بأنه قائد قطار التطبيع الجديد مع الدول العربية، وتعمد جيسون جرينبلات المبعوث الأمريكى للسلام فى الشرق الأوسط، التوقف عند لقطة منح خالد اليمانى وزير خارجية اليمن الميكروفون لنيتانياهو فى أثناء جلوسه بجواره فى المؤتمر، كأنها خطوة أولى فى التعاون بين إسرائيل واليمن.

التغيرات التى حدثت فى المنطقة شجعت الولايات المتحدة على محاولة زيادة العلاقات بين إسرائيل ودول عربية غير مرتبطة باتفاقيات سلام معها، وجرى التضخيم السياسى لبعض اللقاءات التى عقدت أخيرا، والتعامل معها باعتبارها خطوة كبيرة ولها دلالات عميقة، دون ربطها بثوابت مبادرة السلام العربية، أو مراعاة حقوق الشعب الفلسطينى الرئيسية.

العزف على أوتار اللقاءات بعيدا عن القضية الفلسطينية، وجد مبرراته لدى إسرائيل فى السعى حثيثا للالتفاف حول عدو واحد مشترك، وهو إيران، مستفيدة من التدخلات السافرة التى تقوم بها فى شئون بعض الدول العربية، والغضب الذى يساور كثيرين من طهران، واتخذها نيتانياهو ذريعة لتقديم العدو المحتمل على العدو الفعلي.

الوعى العربى يدرك رغبة إسرائيل فى التسلل من هذا الباب، ويعى أن الخلافات مع إيران لن تكون المدخل الذى تخترق منه إسرائيل جدار الممانعة العربية، فجميع اللقاءات المعلنة والسرية مع مسئولين إسرائيليين لم يجرؤ أصحابها على الحديث عنها بحسبانها تطبيعا مباشرا، بل فرضتها ظروف وتقديرات إقليمية معينة، والدليل أن غالبية الدول العربية ترى أولوية فى الحل العادل للقضية الفلسطينية وتربط بينها وتطور العلاقات مع إسرائيل.

كلمة التطبيع كانت محرمة أو منبوذة فى كثير من الدول العربية، وربما سقطت مفردات سياسية منها أو انغمس البعض فى همومه الداخلية، لكن فى كل الحالات لم يتم إسباغ مشروعية تامة عليها، وربطها بالتسوية السياسية لن يكون كافيا لتمريرها شعبيا، ولعل التجربة المصرية واضحة فى هذا المجال، ولم تفلح اتفاقية كامب ديفيد الموقعة منذ أربعين عاما فى ترسيخ مفهوم التطبيع.

الغرور الذى ينتاب إسرائيل، جاء من رحم التفسخ العربي، والانقسام الفلسطيني، وسباق البعض لتوظيف العلاقة معها كبوابة لعقل وقلب الولايات المتحدة، ناهيك عن خروج بعض الدول العربية، سوريا مثلا، من معادلة الصراع معها فى الوقت الراهن، ومساع دءوبة يبذلها آخرون، قطر مثلا، لضمان البقاء بالقرب منها، ولذلك تلجأ الدوحة لتعظيم دورها، والإصرار على تقديم خدمات تضر بالقضية الفلسطينية.

التطورات الحاصلة فى علاقات إسرائيل مع دول عربية وإفريقية قللت من الأهمية السياسية والإعلامية لقطر، والتى كانت أول من فتحت الأبواب أمامها، من خلال لقاءات وزيارات متعددة، وأسهمت قناة الجزيرة فى تقديم خدمات معنوية جليلة عبر ظهور الكثير من قادة إسرائيل على شاشتها ورؤيتهم من قبل المشاهدين فى دول عربية مختلفة.

لم تفلح عملية التسويق التى قامت بها الدوحة فى تعويم فكرة التطبيع، الذى سوف يظل مرتبطا بما يراه العرب من عدوان تاريخى على حقوق الشعب الفلسطيني، ولو جرى التوصل لتسوية سياسية لقضيته، فما بالنا والعجرفة تزداد صلفا، وصفقة القرن متعثرة، والحل يبدو بعيد المنال؟

المشكلة التى لن تفلح إسرائيل فى تجاوزها بسهولة أن جزءا كبيرا من الوجدان العربى يرفضها بالفطرة، وهناك قطاعات شبابية عديدة، لا علاقة لها بالسياسة، ترفض مناقشة النظر إليها ككيان طبيعى فى المنطقة، ومع أن تسليط الأضواء على القضية الفلسطينية تراجع، غير أن الرفض التلقائى لإسرائيل يحتل مكانة متقدمة، وأخفقت أدواتها المباشرة والملتوية فى تغيير الصورة النمطية السلبية عنها.

المعنى السياسى الذى تحمله هذه النتيجة يضع مجموعة كبيرة من الكوابح، تحول دون وصول التطبيع إلى محطة مستقرة، وأن خلق شبكة قوية من المصالح والبحث عن قواسم لمواجهة خصم مشترك أو أكثر، لن تكون كافية لتجاوز الممانعات التاريخية، فقد أصبح الرفض كأنه عقيدة ترسخت لدى أجيال متباينة، بما فيها من لم يعرفوا أصلا معنى التطبيع.

القلق الذى يساور البعض عند كل إعلان عن لقاء يضم إسرائيليين وعربا، ربما يكون فى غير محله، فالسياسى يستطيع أن يتصرف وفقا للمعطيات التى تفرضها التطورات الإقليمية والدولية، لكنه لن يكون مخولا له فرض التطبيع على المواطنين، وربما لا يريد، ولعل الطريقة السرية التى تدار بها معظم أشكال التعاون الأمنى والسياسى والاقتصادى مع إسرائيل، تؤكد أن التطبيع يقع فى نطاق التحريم بالنسبة لكثير من شعوب الدول العربية.

التساهل الذى تبديه بعض الحكومات فى هذا المجال لأسباب دبلوماسية، لن يغير المعادلة فى الشارع العربي، لأنه من الصعوبة أن يتخلى عن فكرة الحواجز النفسية، خاصة أن الصورة التى يقدمها فلسطينيو 48 كاشفة لهذا المعني، والسنوات الطويلة التى عاشها غالبية هؤلاء وسط المجتمع الإسرائيلى لم تفلح فى تغيير نظرتهم السلبية، بل أدت كثافة الاحتكاكات اليومية إلى تعزيزها، جراء التجاوزات التى يتعرضون لها، من هنا تبدو الكوابح متجذرة ومتشعبة.

عن الأهرام

اخر الأخبار