تأملاتُ أوَّليَّة في مجازٍ مُضَلِّلْ

تابعنا على:   12:23 2019-02-21

عبد الرحمن بسيسو

إعادة تعريف الإنسان والوحش

"ليس لمماثلة الآخذين بالعنف العدواني ممن يحسبون، زوراً وبُهتاناً، على بني البشر بالحيوانات أنْ تنطوي على شيء سوى توجيه إهانة فادحة لجنس الحيوان بأسره"


على نقيض السِّلْم الذي يُتوِّجُ منظومة قيم إنسانيَّة تؤسِّسه وتترابطُ مُتواشجةً معهُ ليُفضي حضورها في عقولِ النَّاس وضمائرهم إلى تحقُّقهُ في مدارات حياتهم وآفاق مستقبلهم، وبغية أخذِ هذا السِّلم إلى نقائضه جميعاً، يُؤسِّسُ العنفُ العدوانيُّ نفسه على كُلِّ ما يُناقضُ تلك القيم، ويُشْهِرُ جميعَ أسلحته التي تتساوق مع جحيميَّة التَّصورات التَّخييلية التي يتأسَّسُ عليها، ليُحيلَ عقولَ وضمائر وهياكل الآخذينَ به من البشر إلى محضِ كُهوفٍ معتمةٍ لا ينفذُ إليها بصيصُ ضوء، ولا يمورُ في أغوارها العميقة إلا جَشعٌ لا يني يرسِّخ نفسه في جشعٍ أعمَّ وأشرسّ وأعنف، بحيثُ لا تكونُ مُمَاثَلةُ الموغلين في هذا الجشع من البشر بالحيوانات الضَّارية إلا ضرباً من ضروب المجاز المُضَلِّل الذي قد لا يليق بإنسانٍ متحضِرٍ أنْ يأخذ به لرسمِ صورةٍ، أو لتقريب معنىً، أو لتوليدِ دلالة!

وفي هذا الضَّوء، ليس لمماثلة الآخذين بالعنف العدواني ممن يحسبون، زوراً وبُهتاناً، على بني البشر بالحيوانات أنْ تنطوي على شيء سوى توجيه إهانة فادحة لجنس الحيوان بأسره، أو لأيِّ حيوانٍ يدرجُ اسمه ضمن صورة بيانيَّة أو تركيبٍ مجازي لِيُحِيلَ على أيٍّ من أولئك العُدوانيين الجحيميين، أكانوا أفراداً أم جماعاتٍ أم كياناتٍ أم دولاً أم ائتلافاتِ دولٍ وتجمُّعاتٍ وأحلاف.

لا يتوسَّلُ هؤلاء الذين عجزت اللُّغات الإنسانية عن تسميتهم إلا الإرهابَ والعنفَ العُدوانيِّ ليتمكَّنوا من استلاب العالم وسرقته وسلبه، ومن كتابة حقُوق زائفة يزعمونها لأنفسهم فوق حقوق متأصِّلة يملكها الآخرون من النَّاس في مجتمعاتهم وأوطانهم، وفي فضاءات الإنسانية المُشتركة، وفي مملكة الطَّبيعة التي يتبوَّأُ فيها الإنسانُ مركزاً سامياً يُلزمه بأنْ يكونَ حريصاً على سلامتها، مُحافظاً عليها، مُوقراً حقوقَ كائناتها وضمنها، بالطَّبع، الحيوان الذي يُشاركهُ في الأصل، ولا يُفارقُ ماهيَّته الرَّاسخة في كينونتهما الطَّبيعية المُشتركة، وذلك على الرغم من تمايزه عنه بإعمال العقل، وإعمار الحياة، والانفتاح الفطريِّ على التَّفاعل الخلَّاق مع الآخر المختلف في نطاق جماعة إنسانيَّة أخرى، وفي إطار مجتمع، ووطن، وعالم!

يُدركُ الإنسانُ العاقلُ، دائمُ السّعي للوصول إلى كمالٍ إنسانيٍّ محتملٍ وإلى رقيِّ حضاريٍّ أعلى، أنَّ للحيوان، مُستأنساً وغير مُستأنس، كما للطبيعة وكائناتها وأشيائها وموجوداتها جميعاً، حقوقاً أصيلةً لا ينبغي تجاهلها، أو تجزئتها، أو انتهاكها، وهو لا يُلزم نفسه باحترام تلك الحقوق فحسب، وإنما يجعلُ من الدفاع عنها والحرص على تطبيقها الأمين معياراً رئيساً يُحدِّد به، لنفسه وبنفسه، المدى الذي بلغته إنسانيَّته في توقها اللاهب لملاقاة جوهرها، وفي سعيها الدَّؤوب لإدراك مجتمع إنسانيٍّ تنفتحُ دروبهُ على إدراك مُستقبلٍ أرقى حضارةً، وأعلى إنسانيَّةً، وأسمى وجوداً في مدارات وجودٍ لا يصوغُ جوهر هويته الإنسانيَّة إلا الإنسانُ الإنسانْ!

وتأسيساً على ما نشاهده الآن من تمادٍ شرسٍ في إشباع الغرائز السَّوداء، ومن قتل وتدمير، وتخريبٍ، وانتهاب لموارد العالم، وإفقار وتجويع لأغلب قاطنيه من البشر، ومن استعمارٍ مُباشر ومُقنَّعٍ واحتلال استيطاني إحلالي وتطرفٍ وعنصرية واستبداد محليٍّ وعالميٍّ وإرهابٍ أسودَ، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، يقترفها جميعاً ما اصطلح على تسميته بـ"الإنسان الوحش"، أو "الوحش الإنسان"، باعتبارهما الرَّديفَ الاصطلاحيَّ المُضَلِّلَ والمُقَزِّزَ، هيئةً وأشكالَ حضورٍ وممارساتٍ، لمصطنعي تلك الآيديولوجيات والمذاهب والقوى والأنظمة والتنظيمات والهياكل التي يُوغلُ معتنقوها وقاطنو كهوفها المُعتمة في اقتراف الجرائم والمجازر بحقِّ الإنسان والإنسانية: وجوداً وحضاراتٍ، فإنَّنا لمدعونَ، بوصفنا بشراً تواقين لإدراك أسمى تجليات إنسانيتهم، إلى إعادة تعريف كُلٍّ من "الإنسانِ" و"الوحشِ" لإخراج المنتمين إلى تلك الكياناتٍ المقطونة بكائنات جحيميَّة من عالم الحيوان البشري والحيوان الحيوان، أي من كلا عالمي البشر والحيوانات، لكونهم يجافون طبيعة الإنسان، ويتدنَّون بدرجاتٍ عن طبيعة الحيوان، فيفقدون ماهيته في مجرى سعيهم المحموم لتُرسيخ تَمدُّد الجحيم في الأُروض وفي السَّماوات التي يتصورونها جناناً تعدُ بمزيد من جنان!

اخر الأخبار