خالدة جرار تتحدث عن البوسطة

تابعنا على:   12:40 2019-03-09

د. أحمد جميل عزم

بات شائعاً الاستماع ممن يتعرض للاعتقال في السجون الإسرائيلية، عن “عذاب البوسطة”. والبوسطة كلمة غير مستخدمة فلسطينياً. وربما لولا أغنية فيروز الشهيرة “عهدير البوسطة”، لما عرف أغلب من يستمع للكلمة معناها. والمقصود فلسطينياً، الحافلة التي يُنقَل بها الأسرى بين السجون، أو من السجن إلى المحكمة. وغير واضح من أين جاءت التسمية. هل هم الأسرى الأوائل أيام العمل الفدائي في لبنان؟
تُشاهد الشاب أو الشابة الفلسطينية، اكتملت أناقتهم، وحَسُنَ هندامهم، تشعر أنك أمام شخص “عادي”، يُقبِل على الحياة كباقي أقرانه في العالم، ومثلهم مثلا “ينثر” حياته، على فيسبوك وغيره. لكن كثيراً ما تجد قصصا صغيرة، وأخرى كبيرة، مسكوت عنها. كم مرة استطاعت صبية، الحديث عن الرعب الذي تمر به على حاجز الاحتلال، خوفها من مد يدها لحقيبتها لإخراج منديل ورق صِحي، فمد اليد للحقيبة على الحاجز قد يقال إنه أدى لاشتباه جندية أو جندي بنية الفتاة القيام بعملية طعن ويتم قتلها، وهذا حدث.
يعاني قياديو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الفصيل التاريخي، والثاني الأكبر في منظمة التحرير الفلسطينية، منذ سنوات ليست قليلة، أكثر من غيرهم، اعتقالات إدارية متتالية (من دون محاكمة)، حتى أصبح الأمر أشبه بالباب الدوّار لا يخرجون حتى يُعاد اعتقالهم.
في الاعتقال الإداري حالة رعب خاصة، لأنّه ببساطة حكم من القاضي بناء على “ملف سري” لا يطلع عليه حتى الأسير، ويَزعُم الملف أنّ هذا شخص “خطر”، ويمكن تجديد الاعتقال مراراً، فكل حكم قد يكون لعدة شهور، ثم يُجدَد في آخر يوم مقرر للاعتقال.
أفرج الاحتلال قبل أيام عن القيادية في الجبهة الشعبية، خالدة جرار، بعد اعتقال تجدد ودام 20 شهراً. ونشرت صحيفة القدس، مقابلة معها عن ظروف الاعتقال، اقتصرت المقابلة تقريباً على حياة الأسيرات.
بحسب الصحيفة اعتقل الاحتلال 16 ألف امرأة منذ العام 1967، ويوجد “الآن”، 47 أسيرة تم تجميعهن في سجن الدامون، الذي يقع في منطقة جميلة على قمة جبل الكرمل، ولكن السجناء فيه محاطون بجدران وأسوار لا تمنع الرؤية منه وحسب، بل وتمنع الشمس، فتشع الرطوبة والبرد بدلا من دفء الشمس. وتتحدث جرار، عن التفاصيل الصغيرة الهائلة. فمثلا تروي كيف كانت غالبية الأسيرات في سجن آخر هو هشارون، ولكن الأسيرات وصلن الحد الأقصى من الاحتمال عندما شَغّلت الإدارة كاميرات تنتهك المزيد من خصوصيتهن، فأضربن عن الخروج من غرفهن للساحة، مدة 63 يوما. ونتيجة للاحتجاج نقلن للدامون، الذي كان يستخدم زمن العثمانيين لتخزين التبغ؛ تنتشر الرطوبة وأرضيات اسمنتية مشققة، لكل أسيرتين كرسي (هو عبارة عن “اسكملة”)، التلفزيون القديم الذي حصل عليه الأسرى بإضرابات طعام شاقة، مُعلّق عاليا جدا ليسبب ألما في الرقبة، وتعبا في العيون. تُعاقب أسيرات على أمور لم يفعلنها، يعانين ظروفاً صحية صعبة، مثل إسراء الجعابيص، التي أصيبت بحروق شديدة، وبترت ثمانية أصابع لها من احتراق سيارتها، حيث اتهمت بالعزم على القيام بعملية فدائية. والاحتلال يماطل في السماح بإجراء عمليات لها، مثلما كانت أسيرة أخرى تتقيأ كل ما تأكله، وبات ضروريا القيام بعملية منظار لها، واستغرق تحديد موعد العملية سبعة شهور. هذا فضلا عن أن الأسيرة إذا أجريت لها عملية جراحية، تستيقظ وتجد نفسها مقيدة بالأصفاد بالسرير. وبعض الأسيرات اللاتي تعرضن لعذاب البوسطة، “ذنبهن” أنّهن أمهات، كوالدة الشهيد أشرف نعالوة. وفي الأيام الأخيرة مثلا تم اعتقال (وإطلاق) أم عاصف البرغوثي، لأن ولديها نفذا عملية فدائية، واعتقلت زوجة المحامي طارق برغوث، محامي الأسرى، محامي الأسيرات والأطفال.
تصف جرار البوسطة أنها “أصعب معاناة للأسيرات”. والبوسطة كما يصف أسرى متعددة الأقسام والأشكال، فيها زنازين (خزائن) حديدية بلا شبابيك أو منافذ، باردة شتاء ملتهبة صيفاً، وقد يكون بها مقعد بلا مسند، ويستمر الركوب فيها مع تقييد الأيدي بالحديد ساعات طويلة قد تصل 12 ساعة، ليمثل أمام المحكمة ثلاث دقائق.
هناك تفاصيل في العذاب اليومي للفلسطينيين، وفي مقدمتهم الأسرى، مسكوت عنها. بعضها خاص جداً، شخصي، داخلي، مُحرج، والبوح بها صعب، لأنّ البوح عن النفس ليس سهلاً.

عن الغد الأردنية

اخر الأخبار