ياسر عرفات الانشقاق وطرابلس

تابعنا على:   11:45 2014-11-11

معين الطاهر

أمد/ كانت أثينا هي المرفأ الذي اختاره ياسر عرفات بعد مغادرته بيروت . استقبلت أثينا أبوعمار كما استقبلت قبله بيوم جرحى الحرب , لأن الجرح الفلسطيني لم يجد له بلسما شافيا في اي من عواصم العرب .

لم تنتهي القصة هنا كما لم تبدأ من هنا , فالخلاف السوري - الفلسطيني بدى واضحا للعيان منذ ما بعد حرب تشرين الأول / اكتوبر 1973 , وسعي العرب للحاق بقطار التسوية المرتقبة , ومحاولة ياسر عرفات الحفاظ على مقعد للفلسطينين فيها .

وكثيرا ما كانت العلاقة الفلسطينية - السورية بين مد وجزر. فقد وجدت الثورة الفلسطينية في البدايات احتضانا لها من سوريا , وفي بداية الحرب الأهلية اللبنانية (حرب السنتين -1975-1976 ) تحالفت المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية مع سوريا, لكن هذا التحالف تحول في مرحلة متقدمةمن تلك الحرب الأهلية الى خصومة واقتتال عبر مواجهات ضارية في المتن وبحمدون وشرق صيدا, وسادت العلاقة أجواء من التوتر و الحذر وعدم الثقة التي تعززت خلال حرب 1982 وحصار بيروت . والمفارقة هنا أن ابطال الانشقاق في " فتح " كانوا من دعاة التصدي للقوات السورية في لبنان في مرحلة سابقه .

تمهيد للانشقاق

كان نظام الأسد يسعى جاهدا للامساك بأوراق اللعبة السياسية في المنطقة , وفي مقدمتها الورقة الفلسطينية . وكان أبو عمار يسعى جاهدا للافلات من القبضة السورية والمحافظة على استقلال القرار الفلسطيني , وكان لبنان الساحة المتنازع عليها .

وتجلى الخلاف واضحا بين الفريقين في قمة فاس (6-9-1982 ) اذ تخلف الرئيس الأسد عن الاستقبال الجماعي الذي نظمه الملوك والرؤساء العرب للزعيم الفلسطيني في المطار . وكان الأسد الزعيم الوحيد الذي لم يلتق بعرفات خلال عقد القمة العربية .

احتج السيد نمر صالح ( أبوصالح) عضو اللجنة المركزية لحركة " فتح " على قرارات القمة , وأصدر مع ابوماهر اليماني ( الجبهة الشعبية) وطلال ناجي ( القيادة العامه) تصريحا صحافيا ضدها . وغادروا فاس في طائرة الرئيس السوري المتجهة الى دمشق . وكان أبو صالح قد اجتمع بالرئيس السوري 7 ساعات في دمشق قبل القمة .

في السابع والعشرين من الشهر نفسه اغتيل الشهيد سعد صايل ( ابو الوليد ) مدير العمليات المركزية وبطل معركة بيروت , باطلاق النار على موكبه في سهل البقاع , بالقرب من أحد الحواجز السورية . وكان اغتيال ابو الوليد , الذي كان يحظى باحترام ومحبة وثقة الكادر العسكري والسياسي , المقدمة الضرورية للعبث في جسم قوات العاصفة .

ومن المقدمات التي أشارت أيضا الى استهداف النظام السوري لأبو عمار, ما حدث خلال الاحتفالات بذكرى انطلاقة الثورة , والتي عقد في سياقها دوره للمجلس الثوري في عدن , فقد نظم للمناسبة أيضا احتفالات فنية وعرض لوحدات عسكرية فلسطينية استدعيت من صنعاء والسودان وتونس واليمن والعراق . لكن المعارضة الفلسطينية ووسائل الاعلام السورية تناولت هذه الاحتفالات بانتقادات شديده , غير أن الحدث الأبرز كان في تقديم العقيد أبو موسى مذكرة للمجلس الثوري تضمنت اتهامات قاسية للقيادة مطالبا اياها بعقد مؤتمر للحركة في مدة لا تتعدي الأسبوعين , وتم توزيع المذكرة بكثافةعلى وسائل الاعلام , وفي صفوف القوات في سوريا ولبنان خلال انعقاد المجلس . شكلت هذه المذكرة بداية اعلان واضح لما عرف لاحقا باسم " التيار الوطني الديمقراطي في فتح " . والذي واصل لقاءاته بهذه الصفه مع فصائل المعارضة الفلسطينية , واجتمع مع العقيد القذافي الذي وعد بتمويل حركة الانشقاق بمبلغ 6 ملايين دولار شهريا بترتيب من أحمد جبريل. وجرى في اثرذلك انشاء غرفة عمليات مشتركة مع " الصاعقة " و " القيادة العامة " و "جبهة النضال الشعبي " .

وفيما بعد , تفاخر أبو صالح , الذي اعتبر نفسه الحليف الرئيسي لسوريا , بأنه امضى 18 ساعة من المباحثات مع الرئيس السوري في الأسابيع التي سبقت اعلان الانشقاق. تتوجت بلقاء تحدثت عنه وسائل الاعلام باسهاب في بداية آيار 1983 .

وردت اللجنة المركزية بتجميد عضوية كل من أبو صالح و قدري من اللجنة المركزية . واصدر ابو عمار مجموعة من القرارات العسكرية تضمنت نقل العقيد ابوموسى وابو خالد العملة الى مقر القيادة في تونس , وتعيين بعض الضباط الذين اثير جدل واسع حول ادائهم خلال حرب 1982 في مواقع قيادة القوات, كما جرى تطعيم هذه القرارات بترفيع بعض الكوادر العسكرية من ابناء العاصفة , وتعيينهم كنواب لقادة القوات الثلاثة التي أعيد تشكيلها في لبنان , الا ان من المؤسف أن هؤلاء الأخوة ما لبثوا أن غادروا كأفراد مواقعهم , وانضموا للانشقاق لبضعة ايام او اسابيع قبل ان يغادروه مجددا .

من الواضح أن عبئا ثقيلا قد القي على عاتق أبو عمار وأبو جهاد بعد اغتيال الشهيد أبو الوليد الذي كان يقوم باعادة تنظيم القوات الفلسطينية في لبنان . وأدى هذا الفراغ الى ارباك في وضع قوات فتح , والى اثارة العديد من الأسئلة المشروعة حول مستقبل النضال الفلسطيني بعد الخروج من بيروت . لكن المبادرات التي قامت بها بعض الوحدات مثل مجموعات القطاع الغربي وكتيبة الجرمق التي أعادت بسرعة تنظيم صفوفها والتوجه الى القتال خلف خطوط العدو الصهيوني ,و نجحت بأسر ثمانية من جنود العدو ,عوضت هذا الجانب بشكل جزئي .

لم تكن القرارات التي اتخذها ياسر عرفات كافية لمواجهة الانشقاق , فهي اعتمدت بالدرجة الأولى على معايير الولاء والطاعة , التي لم تكن, على أهميتها, لتنجح في مواجهة حالة انشقاق جديه مدعومة من دولتين عربيتين (سوريا وليبيا ) , وتغلف نفسها بشعارات الاصلاح الداخلي , ومحاربة الفساد , ومناهضة التسويات المطروحه , والدعوة الى عودة القوات التي خرجت من بيروت الى الساحة اللبنانية مجددا . لذا سرعان ما اضطر أبوعمار أمام تطور الأحداث الى الغاء معظمها , كما اضطر بالتدريج الى الاعتراف بوجود الانشقاق , ومواجهته بقوة وصلابة بعد ان كان يتحدث عن تمرد بضعة عناصر يجري احتواءه .

على الصعيد الميداني , سيطر العقيد ابو موسى في 9-5-1983 على كتيبتين من قوات اليرموك من أصل ثلاثه , بعد أن سلمته المخابرات السورية 60 طنا من الأسلحة المصادرة من مستودعات " فتح " . كما انضم الى حركة التمرد وحدات من جيش التحرير في منطقة الروضة في البقاع . وترافق ذلك مع اصدار بيان بتهم قيادة فتح بتسهيل التسوية الأمريكية , وتمزيق وحدة حركة فتح , ودعا الى التحالف مع سوريا , والغاء قرارات النقل , والتعينات التي شملت " المنحرفين والمهزومين " مطالبة بتسريحهم وتحويلهم للمحاكمة , كما طالبت بعقد مؤتمر للحركة من حقهم تعيين نصف اعضائه , وبتعيين قيادة مؤقتة لحين انعقاد المؤتمر يكون فيها العقيد أبو موسى نائبا للقائد العام .

افشال مساعي الاحتواء

تداعت كوادر عديده من فتح في محاولة لتطويق الموقف والحيلولة دون الاقتتال الداخلي , من ابرزهم عباس زكي وابو العبد العكلوك وجميل شحاده ومروان كيالي وابوابراهيم عبود , وأجرت سلسلة حوارات لكن بدون نتيجة , اذ استمر التمرد في التوسع على الأرض واكتساب مواقع جديده , على الرغم من الموافقة على عقد المؤتمر العام والغاء القرارات الآخيرة . وفي الوقت ذاته أعلن القذافي دعمه للتمرد في حين صرح عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري في حينه والمسؤول عن الملفين الفلسطيني واللبناني , في لقاء مباشر مع خليل الوزير أنه " اذا كنتم ترغبون في حل مشاكلكم فيجب أن تتقيدوا بسياساتنا , تصادقون أصدقائنا وتعادون أعدائنا "

في ظل هذه الأوضاع قام ابو عمار بزيارة لسهل البقاع التقى فيها القوات الموجودة هناك , وهي الزيارة الأولى له منذ الخروج من بيروت . ولعل في هذا اشارة كافية لبعض ما كانت تعانيه هذه القوات من فراغ هائل على مستوى القيادة العليا. عاد ياسر عرفات الى دمشق لحضور اجتماع طارئ للمجلس الثوري فيها , ومنها توجه الى طرابلس من طريق حمص , في الطريق غير المسار و سلك مع قسم من الموكب عن طريق الهرمل , بينما واصل الجزء الآخر السير على الطريق الأصلية , حيث تعرض لاطلاق نار من كمين أدى الى مقتل احد العناصر واصابة 9 بجروح . واتهمت وسائل الاعلام الفلسطينية النظام السوري بالوقوف وراء هذا الحادث .

عند وصوله طرابلس تلقى ياسر عرفات اتصالا من السيد رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري دعاه فيه للعودة الى دمشق حيث سيتم ترتيب لقاء له مع الرئيس الأسد , فعاد الى دمشق . لكن بعد اجتماعه برفعت الأسد بقليل صدر قرار بطرده من سوريا , واعتبار خليل الوزير ( أبو جهاد) شخصا غير مرغوب فيه , غادر أبو عمار سوريا على متن رحلة عادية للطيران التونسي كأي راكب عادي مع ما يحمله ذلك من مخاطر . و مع طرد من دمشق في 24-5- 1983 تكرست حالة الانشقاق التي عرفت باسم " فتح الانتفاضة ", ودخل الوضع الفلسطيني في مرحلة من الاقتتال الداخلي .

في اثر ذلك , اشتعلت جبهة البقاع وسيطرت " فتح الانتفاضة " على مقر قيادة قوات اليرموك في مجدل عنجر. وتم حصار تلك القوات في منطقة رياق وسط لواء من المدرعات السورية . بينما تمكنت قوات " فتح " في منطقة شتورا - تعلبايا من وقف اي تمدد للمنشقين . و أعيد تنظيم قوات " فتح " في تلك المنطقة تحسبا من أي اختراقات , وتم توزيع تلك القوات على المحاور المتعددة ضمن تشكيلات جديدة أدت فيها كتيبة الجرمق دور النواة الصلبة للقوات , كما اتحدت مجموعة من الكوادر القيادية العسكرية المتميزة من مختلف الوحدات بقيادة الأخ زياد الأطرش . وحافظت هذه القوات على مواقعها المتقدمة في الجبل و زادت من وتيرة عملياتها ضد العدو الصهيوني خلف الخطوط , على الرغم من حالة الانشقاق التي كانت سائدة . والمحاولة الأخيرة لتمدد قوات الانشقاق كانت من خلال تسلل مجموعات منها عبر الخطوط السورية الى بلدة جديتا لحصار قوات " فتح " واغلاق طريق البقاع - الجبل .لكن قوات " فتح " تمكنت من صد الهجوم وأسر أكثر من سبعين من القوات المهاجمة بينهم قائدهم الضابط أبو الحكم . وقد تمت معاملتهم كرفاق سلاح واعيدوا الى مواقعهم بأسلحتهم من طريق الجبهة الديمقراطية . لم يعد هنالك اي امكانية للتقدم في اتجاه قوات " فتح " في هذا المحور, وانتهت القدرة العسكرية للانشقاق .

-------------------------------------

هدأ القتال نسبيا , وتدخل عدد من الوسطاء لمنع تجدده وتطويقه . ومن ابرز الذبن توسطوا كان ممدوح نوفل وأبو أحمد فؤاد- القائدان العسكريان للجبهتين الديقراطية والشعبية - . تم عقد عدة لقاءات حضرها عن المنشقين أبو موسى وأبو خالد العملة , وعن حركة " فتح " ابو ابراهيم عبود ومعين الطاهر ومروان كيالي . وفي احد اللقاءات اقترح وفد " فتح " على المنشقين اصدار بيان يعلن انتهاء الاقتتال الفلسطيني وتفرغ قوات العاصفة لقتال العدو الصهيوني , مع تشكيل كتيبة مشتركة من الطرفين تكون هذه مهمتها الأساسية . وان يكون هذا هو المعيار لأي تحركات قادمة , مع التمسك المشترك بالاصلاح وعقد المؤتمر الحركي . لكن اللقاءات توقفت, كما توقف القتال لعدم قدرة المنشقين على اقناع مقاتليهم بمهاجمة قوات " فتح " التي لم تقم بأي مبادرة هجومية , وانما اكتفت بالدفاع عن النفس , وبمواصلة العمليات ضد الجيش الاسرائيلي , الأمر الذي أوقع المنشقين في حرج شديد .

جاء التطور الأبرز في اعلان الجيش الاسرائيلي نيتة الانسحاب من الجبل والشوف . فشكلت " فتح الانتفاضة " قوة مشتركه مع حلفائها , وكتبت على سياراتها " قوات العودة الى بيروت " , بينما شكلنت " فتح " مع الجبهة الشعبية والديمقراطية وجبهة التحرير الفلسطينية قوة موحدة اندفعت من مواقع " فتح " في المتن وصوفر الى عاليه وبيصور وقبرشمون حيث صدت بالتعاون مع قوات الحزب التقدمي الاشتراكي الهجوم المعاكس الذي شنه اللواء الرابع في الجيش اللبناني . وكانت هذه المجموعات قد وصلت الى حي السلم وأطراف برج البراجنه , وبدأت المدمرة نيوجيرسي في قصف مواقع القوات المشتركة , فأحضرت " فتح " أعدادا كبيرة من المقاتلين من البقاع الى الجبل, وعمدت الى اخراج قوات اليرموك المحاصرة الى المنطقة التي تسيطر عليها قوات " فتح " عبر جسر أقامه القائد علي أبو طوق من مواسير الصرف الصحي . وكانت الخطة هي مغادرة البقاع ومناطق انتشار الجيش السوري كليا والانتشار في الجبل ومخيمات بيروت والانطلق نحو الجنوب . ووجدنا في ذلك فرصة ذهبية للخروج من مستنقع الاقتتال الفلسطيني , ومن دائرة النفوذ السوري , وللتوجه الى قتال العدو الصهيوني .

-----------------------------------------

علم ابوعمار أن القوات اصبحت على مشارف بيروت , وأدرك أن ثمة متغيرات كبيرة تحدث في الساحة اللبنانية , وفوجئنا به يصل الى طرابلس . ومن يعرف أبو عمار يدرك انه لا يمكن الا ان يكون هناك .وقد وصل الى طرابلس على ظهر زورق متنكرا بلباس عالم دين جزائري .

ان عجز تحالف الانشقاق عن التقدم في اتجاه مواقع " فتح " , ووصول أبو عمار الى طرابلس , تقدم مجموعات " فتح " الى أطراف بيروت ومشاركتها الفاعلة في معارك الجبل , واخراج قوات اليرموك من دائرة الحصار , و محاولة تسلل معظم القوات باتجاه الجبل وبيروت والجنوب , والتدخل الأمريكي في المعركة . عوامل دفعت بالرئيس السوري الى اصدار تعليماته الحازمة بالتدخل السوري المباشر . كان لابد من انهاء ما كان النظام السوري يطلق عليه تسمية " زمرة عرفات " قبل أن تتمكن من احداث متغيرات غير مرغوب فيها وتمس بالسياسة السورية في لبنان , على أن هذا لا يمكن تحقيقه من دون التدخل المباشر للمدرعات السورية .وهكذا , حاصرت الدبابات السورية مواقع " فتح " في البقاع , وقطعت جميع الطرق المؤدية الى الجبل , وصار" الأر بي جي " الفلسطيني في مواجهة الدبابة السورية . وكان غازي كنعان قد احتجز القائدين نصر يوسف ومروان كيالى وأخرين ممن ذهبو للقائه . فرفضت قيادة قوات " فتح " القيام بأي خطوة قبل اطلاقهم , وامتلأت الشوارع بالمتاريس وأكوام الرمل .فتم الافراج عنهم جميعا . واجتمعت القيادة الميدانية وقررت بالاجماع الانسحاب من البقاع والتوجه الى طرابلس , تلافيا لاشتباك غير مرغوب فيه مع الجيش السوري , و تجنبا لمذبحه كبري في منطقة لا يتجاوز سعتها 6 كيلو مترات ما بين تعلبايا وسعدنايل .

غادرنا في اليوم التالي البقاع وسط احتفال كبير من أهالى المنطقة الذين نثروا الورود والأرز على جانبي الطريق . وحاولت القوات السورية مرتين وقف تلك القوات وتجريدها من اسلحتها , لكن ذلك لم ينجح بسبب ارادة المقاتلين وتصميمهم على الحفاظ على أسلحتهم ومواصلة طريقهم .

على ابواب الهرمل , وجدت قوات " فتح " المنسحبة في اتجاه الشمال بعض الأخوة في انتظارها يتقدمهم الأخ طراد حماده , وقالو أن السوريين يخططون لاحتجازن القوات المنسحبة في منطقة تدعى جباب الحمر . توقفنا , كان عديد تلك القوات نحو 1200 مقاتل انتشروا على التلال , الى أن قام شباب الهرمل باكتشاف طريق وتمهيدها لاستيعاب آلياتقوات " فتح " يسمح لها باكمال طريقها الى طرابلس . وفي موازاة ذلك , توجهت العشائر الى الرئيس الأسد لتدارك اي تداعيات . وفي اليوم الثاني من وجودنا في الهرمل دعتنا العشائر الى غذاء على نهر العاصي بحضور غازي كنعان , سؤاله الرئيسي لنا بعد ان رأى وداع الجماهير في البقاع واستقبال أهل الهرمل لنا : كان لماذا يحبكم الناس ؟

نقلت اذاعة مونتي كارلو عن مسؤول سوري أن أبوعمار قد شوهد في جزيرة قبرص , وأنه ربما يكون في طريقه الآن الى طرابلس . وقد أثار هذا الخبر رعب الأخوة في طرابلس , فهو ليس أقل من دعوة للبحرية الاسرائيلية لاعتراض زورقه . واتصل أحمد عبد الرحمن بنبيل درويش مذيع الأخبار في مونتي كارلو , ورجاه عدم تكرار الخبر في النشرات اللاحقة , بينما حرك الأخ أبو جهاد عشرات الزوارق على خط طرابلس قبرص في محاولة لتضليل البحرية الاسرائيلية أو اعاقتها . وفجأة ظهر أبو عمار في مخيم البداوي , متنكرا بزي عالم الدين , اذ اعتاد الجزائريون على طلب العلم من المعاهد الدينية في المدينة التي أصبحت تحت سيطرة حركة التوحيد الاسلامي بزعامة الشيخ سعيد شعبان .

تألفت حركة التوحيد من ائتلاف ثلاث قوى رئيسية يتزعمها خليل عكاوي , وناجي كنعان , والدكتور عصمت مراد الماركسي اللينيني الذي قاتل مع " فتح " وأسس حركة لبنان العربي قبل أن يعتنق التوجه الاسلامي ويساهم في تأسيس حركة التوحيد . و أغلبية مجموعات التوحيد كان لها علاقات سابقة مع المقاومة وفاتلت معها في معظم معاركها . لكن فضلا عن هذه المجموعات كان هنالك العشرات من المجموعات الصغيرة ذات الاتجاه السلفي أو الصوفي والمرتبطة بمشايخ أو زعامات في الأحياء . ولم تكن الحركة قد انصهرت بعد في بوتقة واحدة بقدر ما كان يجمعها مبايعة الشيخ سعيد شعبان أميرا لها , وتأييد شعبي كبير مترافق مع المد الاسلامي الذي ساد في تلك الحقبة .

كان الاسلاميون حليفا جديدا لياسر عرفات بمواصفات مختلفة عن تلك التي تعود عليها في مقر قيادته في بيروت مع فصائل الحركة الوطنية اللبنانية . فالمفاهيم والمصطلحات والأفكار والأراء كانت مختلفة تماما عن تلك المتداوله في صفوف منظمة التحرير وفصائلها , لكنها ربما كانت تذكر ياسر عرفات بأيام صباه يوم كان عضوا في حركة الاخوان المسلمين أو نصيرا مقربا منها .

في سياق هذا التحالف الجديد كان التحدي الأول برز في 12تشرين الأول/ أكتوبر حين اشتبكت مجموعات متعددة من التوحيد مع الحزب الشيوعي اللبناني , وحاصرت مكاتبه في طرابلس , فبقي أبو عمار ساعات طويله مع الشيخ سعيد شعبان يحاول وقف القتال واخراج المحاصرين سالمين من مكاتبهم , لكن من دون جدوي , وفي النهاية تقرر ان أذهب مع الشيخ سعيد شعبان والأخ ابو الهول والأخ منذر ابو غزاله والدكتور عصمت وآخرين الى الأزقة المحيطة بمواقع الاشتباك لمحاولة وقفه . حاول الشيخ سعيد والأخ ابو الهول أن يشرحا لقادة المجموعات أهمية وقف اطلاق النار والسماح للمحاصرين بالمغادرة , لكن صوت التطرف كان أعلى . غير أن احد الأخوة أنقذ الموقف حين استغل تطاول احد الحاضرين على الشيخ فنهره , وذكرهم أنهم قد بايعو الشيخ على المنشط والمكره , ولا يجوز لهم شرعا رفض أوامره الا اذا تخلوا عن البيعة , مطالبا اياهم بالطاعة والاستغفار . فتراجع قادة المجموعات فورا , وتوقف اطلاق النار , وتم انقاذ المحاصرين واجلائهم الى خارج طرابلس . الا أن حملة اعلامية ضخمه اتهمت أبو عمار بالتواطؤ على قتل الشيوعيين في طرابلس .

تحولت طرابلس الى ورشة عمل لا تهدأ , وصل اليها عبر البحر مئات المقاتلين الذين تمكنت الزوارق الاسرائيلية من اعتراض بعضهم , ومصادرة بعض الأسلحة والذخائر.

وفي المقابل اخذت سوريا على عاتقها قيادة المعركة , فلم تتركها لحلفائها , وتم حشد لوائين سوريين من القوات الخاصة , و4000 مقاتل من جيش التحرير , و500 مقاتل من " فتح الانتفاضة " وما يوازيهم من الصاعقة والقيادة العامة . ووضع الجميع بامره غرفة عمليات مشتركة ترأسها قائد القوات السورية في شمال لبنان سليمان العيسى , وضمت غازي كنعان وطارق الخضرا واحمد جبريل وابو موسى وصلاح المعاني من الصاعقة .

في 17 تشرين الأول / أكتوبر أعلن طارق الخضرا قائد جيش التحرير الفلسطيني في سوريا من على شاشة التلفزيون السوري ما يشبه البيان رقم واحد ضد ياسر عرفات و وطالب بعزله ومحاكمته.

وفي 2 تشرين الثاني / نوفمبر بدأ الهجوم المنسق الكبير على طول خط الجبهة من نهر البارد حتى البداوي وطرابلس بقصف مدفعي وصاروخي عنيف . وذكرني القصف الشديد الذي تعرضت له طرابلس والمخيمات بالقصف الذي تعرضت له بيروت خلال حصار 1982 . ومنذ اللحظات الأولى فر مئات المقاتلين من جيش التحرير والتحقوا بقوات عرفات , وكان بعضهم قد سرب خطة الهجوم كاملة قبل ذلك بساعات , ومنهم قائد احدى الكتائب الذي سبق وان تولى قيادة محور المتحف في بيروت وصد الهجوم الصهيوني المعادي . لقد دفع هذا الضابط حياته في السجون السورية ثمنا لذلك .

بعد اسيوع من القتال تراجع الموالون لعرفات الى مخيم البداوي ومدينة طرابلس . في 15تشرين الثاني / نوفمبر بدأ هجوم جديد شاركت فيه القوات الخاصة السورية , وتركز على مخيم البداوي وحي القبة في طرابلس . واستمر 3 أيام تراجعت يعده قوات عرفات الى طرابلس التي قطعت عنها المياه والكهرباء , وتم تدمير 3 سفن في مينائها جراء القصف السوري .

دفع ابو عمار بكل قواته الى المعركة واشرف عليها بشكل مباشر, وكان دائم الحضور على الخطوط الأمامية , و حتى أنه أرسل حتى مرافقيه الشخصيين الى القتال في اصعب النقاط , ووضع قيادات الصف الأول في المواقع الأمامية .

بوساطة عربية تم الوصول الى وقف لاطلاق النار , لكن سوريا كانت مصممة هذه المرة على عدم السماح لعرفات بالافلات , فنقلت كتيبتين من قوات القادسية في 20تشرين الثاني/ نوفمبر من جبهة الجولان الى طرابلس استعدادا للهجوم النهائي عليها .

وعلى الرغم من احتدام حدة المعارك والقصف المتواصل على المدينة , فان ياسر عرفات تمكن في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر من انجاز صفقة تبادل عن طريق الصليب الأحمر , تم فيها اطلاق سراح 5900 أسير لبناني وفلسطيني من معسكر أنصار, و عدد من الأسري داخل السجون الاسرائيلية . واربكت هذه الصفقة الموقف السوري , فتوقف الهجوم النهائي على المدينة , والذي كان مقررا في 25 تشرين الثاني/نوفمبر, اذ لم تعد الأوضاع السياسية ملائمة بعد الصمود في طرابلس وانجاز صفقة التبادل والتدخلات العربية والدولية .

في 6 كانون الأول / ديسمبر نفذت عملية جريئه استهدفت حافلة اسرائيلية في القدس المحتلة , وأسفرت عن مقتل 4 صهاينة واصابة 46 بجروح . وعلى الرغم من أنه لم يتم الكشف عن هوية المنفذين الا بعد أعوام , وكانوا من" فتح " ومن المجموعات التي تلقت تدريبها في الكتيبة الطلابية , فان اسرائيل أدركت أن هذه العملية لا تخرج عن نطاق " فتح " , فقامت بقصف جوي ومن السفن على بعض المواقع في طرابلس .

اخيرا وافق ابو عمار على الجلاء عن طرابلس بعد الحصول على تطمينات عربية وضمانات أمريكية قدمت الى السعودية , وعلى مواكبة بحرية فرنسية. في 17 كانون الأول/ ديسمبر غادر 470 جريحا على متن باخرة مستشفى , ورافقهم الجراح اليوناني / الفلسطيني الدكتور يانو الذي ما لبث أن عاد الى مخيم شاتيلا . وفي 20 من الشهر نفسه , ابحر 4700 مقاتل عبر بواخر متجهة الى اليمن والسودان والجزائر .

قبل مغادرة طرابلس كان هنالك ورشة عمل كبرى تتمثل في نقل ما يمكن من السلاح والذخيرة الى بيروت والجبل والجنوب عبر عشرات القنوات ووسائل التهريب المتعددة , وكأن ابو عمار وبجهد أساسي من علي أبوطوق ومساعدة بعض الفصائل الفلسطينية واللبنانية يعد العدة للعودة مرة أخري عبر نافذة جديده.

اللافت في موضوع الخروج أن أبو عمار قد اختار أن يذهب في الباخرة المسافرة الى اليمن . وبعد الاجتماع الذي تقرر فيه توزيع المقاتلين على البواخر , همست في أذن الأخ أبو جهاد قائلا : صاحبك سيلتقي الرئيس مبارك . اعتقد أبو جهاد أن لدي معلومات عن ذلك , لكنني أوضحت له أنه لا يعقل أن يكون اختيار أبو عمار المرور في قناة السويس في طريقه لليمن دون أن يكون هنالك ترتيب ما للقاء الرئيس المصري حسني مبارك , وأنه اذا لم يكن يريد ذلك فان عليه أن يستقل الباخرة الذاهبة الى تونس . وعد أبو جهاد أن يستفسر عن ذلك , وعاد ليخبرني بأن هواجسي لا محل لها . لم أقتنع بطبيعه الحال, ولا أعرف اذا كان الأخ ابو جهاد قد تحفظ عن البوح بما قد يعتبر سرا من الأسرار . لكن ابو عمار كان يدرك أن عليه, وبعد طرابلس وربما قبلها أن يعيد ترتيب علاقاته العربية , خصوصا أنه يقول عن نفسه دوما أنه مصري الهوى , وهو يؤمن بأن عودة مصر الى الصف العربي قوة كبيرة تضاف الى رصيده .

--------------------------------------------------

خاتمه لابد منها

بعد طردنا من البقاع بيومين , طلبت القوات السورية من جميع الفصائل الفلسطينية المتواجدة في الجبل والمتن الانسحاب والابقاء على قوة رمزية لا تتجاوز ال 200 مقاتل للفصائل كافة . بينما توجهت قوات العودة الى بيروت الى طرابلس لاستكمال مهماتها هناك . وبعد الخروج من طرابلس تم ايقاف الأخ أبو صالح في المصنع على الحدود اللبنانية - السورية في اثر عودته من لبنان , وادلائه بتصريح يعلن فيه عودة المقاومة الفلسطينية الى بيروت . وطلب من أبو صالح التزام بيته في دمشق , وفرضت علية الاقامة الجبرية حتى وفاته . وعادت أغلبية الكوادر التي شاركت في الانشقاق الى صفوف حركة " فتح " , أو التزمت منازلها .وتم اجهاض حركة اصلاح حقيقية في صفوف " فتح ". ولم يسمح لأي من الفصائل الفلسطينية بأي وجود ذي مغزي في لبنان , بل ولم يسمح لها حتى بالمشاركة في نشاطات المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني للجنوب اللبناني , وتم محاربة القوات التي عادت الى لبنان بعد معركة طرابلس بضراوة شديده في ما عرف بحرب المخيمات . ونجح النظام السوري في رسم الوضع اللبناني والوجود الفلسطيني فيه وفق سياساته . وهكذا أنهت حرب طرابلس الجمل الثورية الكبيرة التي تستر ورائها دعاة الانشقاق والاقتتال .وبذلك شكل انسحاب ياسر عرفات من طرابلس هزيمة كبرى لمنافسيه .

اعتمدت هذه الشهاده على ذاكرة الكاتب وعلى المصادر الأساسية التالية

1- صايغ , يزيد. الكفاح المسلح والبحث عن الدولة : الحركة الوطنية الفلسطينية, 1949-1993, بيروت, مؤسسة الدراسات الفلسطينية , 2002

2- عبد الرحمن, أحمد. عشت في زمن عرفات , رام الله , مؤسسة ياسر عرفات ,2013

3- عز الدين,مازن ( اللواء) ,الطريق الى طرابلس , رام الله ,الهيئة الوطنية للمتقاعدين العسكريين. 2010

نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية

اخر الأخبار