الصندوق الأسود ( الحلقة الأولي )

تابعنا على:   15:27 2015-01-31

كتب مصطفي بكري :  في عام 2004 سأل مبارك عمر سليمان: ما رأيك فيما حدث؟

 قال عمر سليمان بعفوية وتلقائية: أعتقد أن  المؤامرة قد بدت واضحة الآن وعلينا أن نستعد!!

كان مبارك قد عاد لتوه من زيارة إلي الولايات المتحدة التقي خلالها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في مزرعته بالولايات الأمريكية.

أدرك مبارك منذ اللحظة الأولي لوصوله إلي الولايات المتحدة أن واشنطن قررت إعداد العدة لرحيله عن الحكم في مصر لقد ركَّزت وسائل الإعلام والصحافة الأمريكية علي ملف انتهاكات حقوق الإنسان وسجن النشطاء، وتحدثوا عن الرجل 'العجوز' الذي يجب أن يرحل، كانوا يرونه عدوًا للسلام، وأن مصيره يجب أن يكون نفس مصير الرئيس العراقي صدام حسين، الذي أُسقط عن الحكم بعد الغزو الأمريكي، البريطاني للعراق في عام 2003. وخلال المباحثات التي أجراها مبارك مع بوش في هذه الزيارة، كان موقفه عنيدًا في مواجهة المطالب الأمريكية ورفضها جميعًا، خاصة ما يتعلق منها بمنح الفلسطينيين مساحة 1600كم2 لإقامة دولتهم 'غزة الكبري' داخل سيناء، وإقامة قاعدة أمريكية علي الأراضي المصرية.

كانت الإدارة الأمريكية في هذا الوقت قد حسمت أمرها، وقررت تنفيذ مخططاتها في المنطقة، ولكن هذه المرة بشكل مختلف عن الغزو المباشر، كما حدث في العراق وأفغانستان.

لقد أدركت واشنطن أن خطة 'الجيل الرابع من الحروب' التي تعتمد علي تفتيت المجتمعات من الداخل هي وحدها التي يمكن أن تحقق الهدف بلا خسائر أمريكية في المقابل، وكان المحافظون الجدد الذين أحاطوا ببوش من كل اتجاه قد استعدوا للمرحلة الجديدة، وحددوا خياراتها وآلياتها.

كانت الخطوات تمضي سريعة، وكانت أبعاد المؤامرة تتضح يومًا بعد يوم، وكانت أجهزة الدولة المصرية تتلقي التقارير الدورية والموثقة حول حقائق ما يجري علي الأرض.

في هذا الوقت ظهرت فكرة مشروع 'الشرق الأوسط الكبير' التي تحددت معالمها في مؤتمر جورجيا الذي عقد بحضور رؤساء الدول الصناعية الثماني في نفس العام 2004 وكان الهدف هو إعادة صياغة خريطة الوطن العربي علي أسس جديدة، تقضي بتقسيم الدولة الوطنية إلي دويلات طائفية وعِرقية.

كانت السفارة المصرية تبعث بتقاريرها في هذا الوقت إلي الخارجية المصرية، وكانت التقارير تحوي معلومات تثير القلق حول الخطط التي وضعتها أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأمن القومي، لإثارة القلاقل في العديد من دول المنطقة، ومن بينها مصر.

وكان جهاز الأمن القومي المصري يرصد في هذا الوقت العديد من التقارير الخطيرة حول الدور الأمريكي المتصاعد والمساند لجماعة الإخوان وبعض الشباب الذين ينتمون إلي حركات بعينها، خاصة حركة شباب 6 إبريل، كذلك منظمات المجتمع المدني المموَّلة من الخارج، وكان الجهاز يحذر، غير أن الرئيس كان مترددًا ويرفض اتخاذ أية قرارات حاسمة.

لقد استجاب مبارك قبل ذلك للضغوط الأمريكية بالإفراج عن د.سعد الدين إبراهيم، وأيضًا الإفراج في وقت لاحق عن أيمن نور، رغم إدانته في قضية التزوير، وكذلك الحال الإفراج عن بعض مَنْ تم إلقاء القبض عليهم من النشطاء وأصحاب منظمات حقوق الإنسان، الذين كانت تتدفق إليهم الأموال بعيدًا عن الأطر القانونية. بعد احتدام الأزمة بين الرئيس مبارك والرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في عام 2004 كان جورج تينت مدير المخابرات المركزية الأمريكية قد استقال من منصبه في يونيو 2004.

وحكي لي عمر سليمان: إن 'جورج تينت' طلب منه أن يلتقيا سويًا في مكان بعيد عن الفنادق أو المكاتب، وبالفعل تمت المقابلة بعيدًا عن أجهزة التسجيل والمتابعة. - قال جورج تينت: لو ظلت مصر علي هذا الموقف، فإن الإدارة الأمريكية ستسعي إلي إضعافها، وربما يصل الأمر إلي حدّ إجبار مبارك علي ترك السلطة. - قال عمر سليمان: وما هو المطلوب لمحاصرة هذا التوجه؟ - قال تينت: لا بد من تغيير المواقف المصرية، الرئيس بوش ومعه مجموعات المحافظين الجدد لديهم قناعة أن الرئيس مبارك معاد للسلام ولمشروع الولايات المتحدة في المنطقة.

قال عمر سليمان: ولكن هذا غير حقيقي، مصر ليست معادية للسلام، بل بالعكس، مصر تدعم الاستقرار في المنطقة، لكن مشكلة إدارة بوش أنها لا تنظر إلا إلي النصف الفارغ من الكوب، أين التزامها باستحقاقات السلام؟ ولماذا تتخلي عن دور الوسيط، لتصبح طرفًا، لقد أفشلوا كل جهودك وجهودنا لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، كما أن الرئيس مبارك ولا أي من رجال الحكم أو الشعب المصري يمكن أن يقبل بالتفريط في ذرة تراب واحدة من أرض سيناء، وعليه أن يدرك أن سياسة مبادلة الأراضي ومنح أبناء غزة مساحة لإنشاء دولة لهم في أراضي سيناء هو أمر مرفوض ولو قبل به مبارك فالشعب المصري أول من سيثور ضده.

قال تينت: إن خطة المحافظين الجدد تستهدف بعد العراق ثلاث دول هي مصر وسوريا والسعودية، وهناك خطط جاهزة لتفجير الأوضاع في البلدان الثلاثة، لذلك أنصح الرئيس مبارك بأن يأتي لمقابلة الرئيس بوش، وأن يتوصل معه لحلول حول المشاكل الأساسية بينهما. - عمر سليمان: الرئيس بوش لا يريد أن يستمع إلا إلي صوت رجاله، وينسي أن المنطقة بعد العراق أصبحت في حالة غليان شديدة، وأن أمريكا هي التي تدفع الآن الثمن، يجب أن يغير الرئيس بوش نظرته للعالم العربي وللرئيس مبارك، وأرجو أن تثق أنه إذا سقط الرئيس مبارك فسوف تعم الفوضي والإرهاب، كما أن جماعة الإخوان المسلمين ستسيطر علي البلاد بكل سهولة فأرجو أن تحذروا من غضبة المصريين. - قال جورج تينت: المخطط يمضي سريعًا، والإخوان أبدوا استعدادهم للتحالف مع الولايات المتحدة، وهم دائمو الاتصال بموظفي سفارتنا في القاهرة، وهناك عناصر منهم تأتي إلي الولايات المتحدة وتقابل كبار المسؤولين، وأعتقد أن المخطط قطع شوطًا كبيرًا علي طريق التنفيذ، يجب علي الرئيس مبارك أن يقطع الطريق عليهم، خاصة أن أمريكا ليست وحدها هناك. - قال عمر سليمان: سأبلغ الرئيس مبارك بمجرد عودتي إلي القاهرة بمضمون حديثك، وسنبقي علي اتصال مشترك بيننا. وعندما عاد عمر سليمان من الولايات المتحدة، نقل إلي الرئيس نص الحوار بينه وبين جورج تينت، فقال له مبارك: 'أنا عارف علاقتهم مع الإخوان، ولكن الأمريكيين يطلبون مني أشياء مستحيلة تمس الأمن القومي في الصميم، وأنا لن أستطيع الاستجابة لهم'. لقد رصد جهاز المخابرات العامة منذ عام 2005 خروجًا أمريكيًا علي برنامج المساعدات الاقتصادية المقدمة إلي مصر، حيث خصص منها مبالغ كبيرة لصالح هذه المنظمات التي كانت تلعب دور 'الطابور الخامس' لصالح أجندات الغرب وأمريكا وإسرائيل. كان برنامج المساعدات الأمريكية لمصر الذي أنشئ بعد اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978 ينص في مادته السابعة علي 'أن ينشأ برنامج للمعونة الاقتصادية تُقَّدم إلي مصر كنوع من ثمار السلام مع إسرائيل'. وكانت الأموال المقدمة لهذا البرنامج يتم التصرف فيها باتفاق بين الحكومتين المصرية والأمريكية، خاصة أن قيمة هذا البرنامج بدأت بنحو 815 مليون دولار سنويًا. وقد حافظت الولايات المتحدة علي التزامها بالاتفاق الموقَّع مع مصر حتي عام 2004 عام الأزمات الكبري بين مبارك وبوش، والتي دفعت الرئيس مبارك إلي التوقف عن الزيارة منذ هذا الوقت وحتي مايو 2009. وفي هذا العام قررت الإدارة الأمريكية استقطاع ما بين 10: 20 مليون دولار خصصتها لتمويل ما أسمته بـ'برنامج الديمقراطية والحكم الرشيد'؟ وقامت أمريكا بتسليم هذه المبالغ إلي المنظمات الحقوقية والعاملة في مجال الديمقراطية داخل مصر دون الرجوع إلي الحكومة المصرية. وقد اشتاط الرئيس مبارك غيظًا في هذا الوقت، وطلب من الحكومة المصرية الاعتراض رسميًا علي ذلك، وإبلاغ أمريكا بأنها خرقت الاتفاق الموقَّع مع الحكومة المصرية عام 78 وطلب منها بالتوقف علي الفور عن هذا العبث. لم تعطِ أمريكا اهتمامًا لاحتجاج الحكومة المصرية، ومضت في طريقها، وراحت تفتح الأبواب المغلقة لهذه المنظمات وتقيم لها الدورات التدريبية، ورصدت موازنة وفيرة لعدد من المنظمات الأمريكية التي عهدت إليها الاستخبارات الأمريكية بالتواصل مع النشطاء المصريين وتجنيدهم لصالح المخطط الجديد، الذي يهدف إلي إسقاط حكم مبارك وتغيير الأوضاع في مصر والمنطقة العربية، وكانت أبرز هذه المنظمات المموَّلة هي: 'المعهد الديمقراطي، والمعهد الجمهوري، وبيت الحرية الأمريكي'. مارست مصر ضغوطها وتهديداتها لإجبار الولايات المتحدة علي مراجعة موقفها من تمويل المنظمات الحقوقية المصرية بشكل مباشر ودون الرجوع إلي الحكومة، غير أنها فشلت في ذلك. وبعد حوار وجدل تراجعت مصر عن موقفها، وطلبت من الخارجية الأمريكية القبول بحل يقضي بموافقة الحكومة المصرية علي استقطاع هذه المبالغ من حجم المعونة الاقتصادية المقدمة إليها، شريطة أن تبلغ واشنطن مصر بكل مبالغ التمويل التي تقدمها لهذه الجمعيات، علي أن يقتصر ذلك علي المسجل منها لدي وزارة الشؤون الاجتماعية. رفضت واشنطن الحل المصري المقترح، وقام بعدها 'ديفيد وولش' السفير الأمريكي في مصر بتقديم مبلغ مليون دولار لأربع منظمات تمارس أدوارًا سياسية، وهي غير مسجلة لدي الشؤون الاجتماعية، وكان ذلك من خلال لقاء علني أقيم بمبني السفارة الأمريكية بالقاهرة. أبدي الرئيس مبارك، اعتراضه علي ذلك، وطلب من الأجهزة المعنية متابعة الأمر، إلا أن حملته توقفت بعد قليل، وأتذكر أنه عندما قرأ الرئيس لي مقالاً انتقذ فيه هذا الدور المشبوه للسفير الأمريكي، اتصل بي مسؤول كبير بمكتب الرئيس وأبلغني تحية الرئيس علي هذا المقال، وعندما قلت له ولماذا لا يخرج الرئيس ويعلن إدانته لهذا التدخل السافر في الشؤون المصرية ويستدعي السفير الأمريكي؟ قال لي: أنت تعرف أبعاد المؤامرة علي مصر، وهو لا يريد التصعيد.أدركتُ منذ هذا الوقت أن مبارك يريد البقاء علي كرسي الحكم بأي ثمن، وأنه يريد تسكين الأوضاع، دون أن يتخذ إجراءات فاعلة تحمي الأمن القومي للبلاد.في عام 2007 حدث تطور مهم، علي صعيد العلاقة المصرية، الأمريكية، إذ اتخذ الرئيس الأمريكي جورج بوش قرارًا بتخفيض حجم المعونة الأمريكية التي كانت قد وصلت إلي 415 مليون دولار في هذا الوقت لتصبح بمقتضي هذا القرار 200 مليون دولار سنويًا فقط. كان الموقف مهينًا، وقد اقترحت الدكتورة فايزة أبوالنجا، وزيرة التعاون الدولي، التقدم بطلب للتخارج من برنامج المساعدات الاقتصادية، إلا أن أمريكا رفضت الطلب، ولم تجد الحكومة المصرية أمامها من خيار سوي التوقف عن استخدام برنامج المساعدات الاقتصادية الأمريكية لمدة عامين، وحتي وصول الرئيس باراك أوباما إلي الحكم في عام 2009. وعندما جاء أوباما إلي الحكم تعهد بالتزام أمريكا بمطلب الحكومة المصرية بأن يجري تمويل منظمات المجتمع المدني المصرية التابعة فقط لقانون الشركات، غير أن الوقائع أكدت عدم التزام الخارجية الأمريكية بهذا التعهد.لقد رصدت الحكومة المصرية أن إجمالي ما تم تسليمه لهذه المنظمات من أمريكا فقط في الفترة من 2004 - 2010 بلغ نحو خمسين مليون دولار، وهو أمر كان مثار دهشة من كبار المسؤولين المصريين. كان عمر سليمان ينصح الرئيس مبارك كثيرًا بضرورة الرد علي الموقف الأمريكي بإجراءات حاسمة ورادعة، إلا أن مبارك كان يري تجميد الموقف حتي لا يحدث الصدام الأخير. كان عمر سليمان يعرف أن هؤلاء النشطاء والمموَّلين من الخارج هم الجيش السري أو الطابور الخامس، الذين أصبحوا مجرد أدوات يجري استخدامها في 'معارك الجيل الرابع من الحروب'. كانت تجارب أوكرانيا وجورجيا وصربيا ماثلة أمام عمر سليمان، وكان يتخوف من خطر هذه الجماعات المموَّلة، التي اكتسبت حصانة دولية، وتمارس عملها التجسسي في حماية المجتمع الدولي وتحديدًا الغرب والولايات المتحدة. وكان من بين هؤلاء مَنْ يعملون لصالح إسرائيل ويقومون بزيارات متعددة يلتقون خلالها بقادة الموساد، ثم يعودون إلي مصر ولا أحد يستطيع الاقتراب منهم. لم ينسَ عمر سليمان مقولة 'عاموس يادلين' الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية 'آمان' في فبراير عام 2010 التي قال فيها: 'إن مصر هي الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلية، وإن العمل في مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979'. وقال يومها: 'لقد تمكنَّا من إحداث الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي، لتوليد بيئة متصارعة، متوترة دائمًا، ومنقسمة إلي أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك عن معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر'. كانت الكلمات رسالة لمن يعنيه الأمر، وكان عمر سليمان أكثر مَنْ يعي هذه الرسالة ومعانيها، غير أن يده كانت مغلولة حتي هذا الوقت. كانت الأجواء في مصر، بعد سقوط نظام الرئيس بن علي وتوارد الأنباء عن دور محوري ينتظر حركة النهضة 'الإخوانية' في تونس برئاسة راشد الغنوشي، تقول: 'إن مصر قد تجد نفسها في المستنقع بأسرع مما يتوقع الكثيرون'. وكان عمر سليمان يعرف أن الإخوان المسلمين في مصر هم الأداة الفاعلة للمخطط الجديد، ألم يقل جيمس وولسي مدير المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق 'إننا سوف نصنع إسلامًا مناسبًا لنا، ثم ندعهم يصنعون ثوراتهم'؟! كان ذلك يعني في نظر عمر سليمان أن حروب الجيل الرابع قد بدأت، خاصة أن عملية التجنيد لم تقتصر فقط علي الإخوان والإسلاميين، وإنما امتدت أيضًا إلي عناصر شبابية ارتضت لنفسها أن تكون حلقة في إطار هذا المخطط الكبير.

اخر الأخبار