مذكرات السياسى الكبير.. والوثائق السرية للغاية من «درج مكتبه» ( الحلقة الأولى )

تابعنا على:   22:20 2015-05-05

أمد/ بكل المقاييس، سواء كانت مهنية أو إنسانية، لم يكن أسامة الباز رجلاً عادياً، ويمكنك وضعه بمنتهى الثقة والتقدير فى خانة «العظماء»، فالمؤكد أن تلك الخانة حصل عليها الكثيرون بـ«صخب وضوضاء وأضواء»، أما هذا الرجل فدخلها بـ«هدوء ووطنية وأفكار» سبق بها (مع السادات) عصره، وظل على إنسانيته وبساطته وبُعده عن الأضواء حتى آخر يوم فى حياته، وإلى اليوم لا تكاد تُلقى اسم «أسامة الباز» على سمع أى مواطن عادى فى الشارع، أياً كانت انتماءاته وتوجهاته السياسية، إلا وتجد رد فعله تجاهه تقديراً واحتراماً، لم يسبقه إليهما غيره، وهذا أمر نادر الحدوث فى بلدنا هذه الأيام.

دعك من تلك المقدمة الثابت معناها وفحواها، وتعالَ نبحث معاً عن «صندوق الأسرار» الذى كان يمتلكه الدكتور أسامة الباز، فالرجل عمل مستشاراً سياسياً للرئيس الراحل أنور السادات فى مرحلة عصيبة للغاية من عمر مصر، قبل أن يكلفه الأخير بتولى مهمة على قدر هائل من الأهمية، وهى إعداد محمد حسنى مبارك من جميع الوجوه، ليصبح جاهزاً حين يشاء القدر لتولِّى حكم مصر، وهو ما حدث بالفعل، ليستمر «الباز» فى منصبه كمستشار سياسى للرئيس.. «مبارك» هذه المرة.

السؤال: تُرى ما حجم وقيمة «صندوق الأسرار» الذى يمتلكه رجل بهذه القيمة وتلك المكانة؟ والإجابة: مؤكد أن الحجم والقيمة يفوقان كل التوقعات. من هنا، دخلت «الوطن» فى رحلة بحث مضنية، للحصول على ما يمكن الحصول عليه من صندوق أسرار أسامة الباز، خاصة أن الرجل أصيب فى السنوات الأخيرة بمرض منعه من القدرة على جمع مذكراته الممتدة من قريته فى «طوخ»، مروراً بالدراسة فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى العودة والعمل فى سلك القضاء، وحتى الالتحاق بالعمل فى القصر الرئاسى بالتزامن مع الحرب «المصرية - الإسرائيلية» ومفاوضات «كامب ديفيد»، حتى تولِّى ملف القضية الفلسطينية.

رحلة حياة الرجل الحكيم من «طوخ» إلى «قصر الحكم»: نبوءة الجد تتحقق بـ«المكانة الرفيعة» وتفاصيل عملية تأهيل «مبارك» للحكم.. وقصة العودة مع أميمة تمام إلى «القفص الذهبى»

إذن، مسألة الحصول ولو على جزء من صندوق أسراره مسألة صعبة، غير أن «الوطن» تمكنت من الحصول حصرياً على الوثائق والمذكرات التى كانت تحتفظ بها زوجته، بالإضافة إلى الكتابات والتدوينات التى كان يعلق بها على الأحداث، وتروى 30 سنة من فترة عمله بالرئاسة. تلك المذكرات رصدتها لنا زوجته الإعلامية الكبيرة أميمة تمام.

فى البداية، تحفظت السيدة بشدة، فالمسألة لها أبعاد عديدة يختلط فيها «الشخصى» بـ«الأمن القومى»، وهى تدرك -قبل غيرها- أن زوجها الراحل كان بجعبته الكثير والكثير، وما زالت تحتفظ به فى مكتبته التى تشغل مساحة دورين من فيلته بالتجمع الخامس. فى المكتبة أوراق ومستندات تحمل على وجهها كلمات من نوعية «سرى» و«سرى للغاية»، بالإضافة إلى حكايات تمتد على مدار 17 عاماً من الزواج، وهى الأعوام التى كانت شاهدة على الكثير والكثير من فترة حكم الرئيس «مبارك»: قضايا.. أزمات.. اختلافات وخلافات مع النظام.. ومعلومات تكفى للحكم -بموضوعية- على نظام ما زلنا نبحث عن فهمه من أجل الحكم عليه.

محاولات عديدة ومتكررة أجريناها مع السيدة أميمة تمام للحصول على الأوراق والمستندات وحق النشر، قبل أن توافق بطلبين «أو شرطين»: الحفاظ على الأمن القومى، وصورة زوجها النبيلة التى طالما صنعها وحافظ عليها على مدار سنوات عمره. إذن، قد حصلت «الوطن» على الموافقة أخيراً، ودخلت إلى صندوق أسرار أسامة الباز، لنجد مئات الآلاف من الأوراق والمستندات المهمة، دخلنا فى «عملية فرز» مضنية فى الأوراق التى كان يتلقاها منذ التحاقه بالعمل السياسى والدبلوماسى، وحتى ما بعد اندلاع ثورة «25 يناير».

بخطه المنمق الدقيق، كتب «الباز» عشرات التعليقات والتأشيرات، وراء كل مستند قضية ووجهة نظر وحقائق يكشف عنها لأول مرة، تريد عناوين لتلك القضايا التى سنثيرها فى الحلقات القادمة من «صندوق الأسرار»؟ إليك بعضاً منها: كيف كان يعد «مبارك» سياسياً لتولى الحكم؟ وماذا كان يدور بينهما حول الخطابات التى كان يكتبها للأخير والنصائح التى وجهها له اتقاء لـ«غضبة الشارع» قبل ثورة 25 يناير بسنوات، وإلى أى مدى وصل الصراع فى القضية «الفلسطينية - الإسرائيلية» وتدخلات الأطراف المختلفة فيها وفى المقدمة منها التدخلات الإيرانية؟ ومن بين أوراق «صندوق الأسرار»، نقرأ معاً الوثائق المهمة التى احتفظ بها أمير قطر آنذاك، وطبيعة تحذيرات الأمن لـ«صائب عريقات»، وقائمة المتهمين بتسريب محضر اجتماع على قدر كبير من الأهمية، ونظرته إلى «عمر سليمان»، وطبيعة مفاوضاته مع الإسرائيليين، وكيف كانوا يكرهونه ويحترمونه فى نفس الوقت، وغيرها من الأسرار والتفاصيل التى نكشف عنها النقاب لأول مرة.

وفى الحلقة الأولى من «أسامة الباز.. صندوق الأسرار»، تلقى «الوطن» الضوء على الجانب الإنسانى وطبيعة نشأة أسامة الباز، وهو الجانب الذى يأتى على لسان السيدة أميمة تمام، فنرى أن جده توقع له «مكانة رفيعة»، وأوصى أمه برعايته رعاية خاصة، ورحلته التعليمية من دروس والده «الأزهرى» لتعليمه -وإخوته- النحو وقواعد اللغة، مروراً بالدراسة فى كلية الحقوق، ثم دراسته العليا فى الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى قصة زواجه من أميمة تمام التى بدأت -كما تواصل الحكى- بلقاء تليفزيونى فى برنامج «صباح الخير»، ثم حضور لقاء ثقافى انتهى بـ«زلزال إعلان الزواج»، كما وصفته هى.

من «طوخ» إلى «القصر»

ما سننشره هنا هو كل ما يمكن نشره قانوناً -بعض الأوراق لا يمكن لأحد تحمل تبعات نشرها القانونية والأمنية سوى الباز نفسه وبالتالى ستظل فى مكانها حتى إشعار آخر- أو بمعنى أدق هى المادة الخام التى جمعها أسامة الباز عبر سنوات طويلة فى الدبلوماسية المصرية شارك خلالها فى صنع القرار، بل كان فاعله وصانعه فى أحيان كثيرة، وكان محركه ومحوره، وامتلك علاقات ومساحات اتصال فى الداخل والخارج مع القوى الفاعلة فى العالم ومحركى التاريخ لم تتوافر لغيره، بعض الأوراق كتبها الباز بخط يده وبعضها الآخر أشبه بيوميات، وأخرى كانت ملحوظات كتبها خلال لقاءات جمعته برؤساء ووزراء وزعماء، وعلى الهوامش تجد نقاطاً كتبها لاجتماعات مع قيادات الحزب الوطنى فى لقاءات خاصة كتب عليها «جمال»، فضلاً عن عشرات الـ«بلوك نوت» التى كتب فى كل منها بضع صفحات عن محاضرات يشارك فيها وأسئلة طرحها الجمهور عليه، ومشاركات قديمة له فى مفاوضات ودروس فى التفاوض، تلك التى كانت تحمل خبراته التى أراد أن ينقلها لمن بعده. الأوراق التى تحمل سرى للغاية والتى تضرب طولاً وعرضاً فى التاريخ، من حكم السادات حتى ما بعد ثورة يناير 2011، والتقارير الاستخباراتية عن الأوضاع فى الداخل والخارج والأوراق التى ترسل من مكاتبنا الخارجية وسفاراتنا فى المناطق الملتهبة، والأوراق الخاصة بالملف الفلسطينى، خاصة فى أوقات الاشتباك التى التبست فيها المواقف، تكشف جزءاً مهماً من تاريخ مصر الحديث، كما تكشف أيضاً فى أجزاء منها بدايات دخول تركيا فى المنطقة فى أوراق رسمية وتقارير تتحدث وترصد دخولها طرفاً فى المعادلة، وكيف وضعت أول أقدامها فى الملف الفلسطينى، أما عن إيران فحدث ولا حرج، لا تبدأ بالأوراق السرية القادمة من مكتب رعاية المصالح واللقاءات الخاصة التى كانت تجرى فى قلب إيران ولا تنتهى بالتحذيرات التى جاءت من تل أبيب فى أعقاب ثورة 25 يناير، ما بين أيدينا هو كنز حقيقى لأوراق كانت ستشكل مجلدات خاصة تحمل اسم وبصمة الرجل القوى فى الدبلوماسية المصرية، رجل اقترب من السادات فى فترة غيرت مجرى تاريخ الشرق الأوسط، وأوكل له مهام أقلها صياغة فكر وخيال نائبه حسنى مبارك، وتأهيله لتولى رئاسة الجمهورية فيما بعد، ليقترن اسمه بقمة هرم السلطة مع صعود مبارك إلى سدة الحكم، ناصحاً أميناً ومعلماً ومرشداً محافظاً على خطوط فاصلة بين اقترابه من الرئيس واقترانه بالشارع، الذى كان يعرف دبيب قدمه فى حوارى السيدة زينب ومطاعم الحسين وجنبات مسجد السيدة نفيسة، وعربات مترو الأنفاق التى كان يرتادها دون حراسة، ليستمع إلى الناس ويحتوى مشاكلهم ويضع فى حقيبته أو جاكيت البدلة أوراقهم التى تحمل أوجاعاً بسيطة لحلها، الأمر الذى مكنه من قلوب البسطاء ووجدوه ابن بلد مثلهم لا متعالياً أو متكلفاً، فضلاً عن علاقاته الواسعة بالوسط الثقافى والفنى وارتباطه الوثيق بأصحاب الفكر حتى لو اختلفت التوجهات، لذا لم يكن غريباً أن نشاهد فى أوراقه الخاصة أجندات مواعيده التى كان يكتبها بخط يده وتحوى مواعيد افتتاح معارض فنون تشكيلية وحفلات وندوات يشارك فيها كمستمع ومشاهد ليستفيد من تنوع الأفكار.

ربما لهذه الأسباب ظل مبارك فى الحكم طيلة سنين طويلة، لا يعرف القلق باباً إلى عرشه، هذا القلق الذى ظهر مع إبعاده عن المشهد فى 2005 وهو العام الذى شهد للمصادفة ظهور حركات التغيير فى مصر مع إعلان حركة كفاية. وقتها لم يكن أسامة الباز بجانب مبارك لينصحه، كان الأمر بيد من تسبب فى إبعاد «عقل النظام» عن قصر الحكم، الغريب أن الأوراق التى بين أيدينا تواريخ بعضها يعود إلى فترة ما بعد إبعاد أسامة الباز عن المشهد، كانت تصله ويضع خطوطاً بأقلام ملونة تحت سطور غاية فى الأهمية، لو كانت خطوط الاتصالات مفتوحة مع مبارك وقتها لتغيرت بوصلة الأحداث، أو على الأقل لتأخر مؤشرها عن الحركة.

من هنا تكمن أهمية الأوراق التى وضعها الباز أمامه استعداداً لكتابة مذكراته، لكن المرض لم يمهل ذاكرته ليبدأ فيها قبل أن يعاجله بمشهد النهاية الذى جاء قبل أن يمنح الرجل خبراته للأجيال المقبلة فى كتاب، وقبل أن يضع أوراقه الخاصة فى مكانها الصحيح فى المذكرات،

هنا نعرض الأوراق التى تشبه الألغام فى مناطق منها، سنحاول تفكيك بعضها، ونؤجل «التعامل» مع البعض الآخر، حتى تسمح قوانين الوثائق بالنشر، التى يلاحظ منها أن الباز بدأ بالفعل فى ترتيبها ووضع بعضها فى ملفات خاصة، فيما ترك مئات منها بغير ملفات، لكنه كتب عليها ملحوظات، ليستخدمها فيما بعد فى موضعها الذى حدده لها، وهو يحكى عن تجاربه وخبراته والمواقف التى حدثت وشارك فيها، فى موضوعات الصراع العربى الإسرائيلى، والمفاوضات التى جرت، وإيران وملفها النووى، والعراق واليمن والسعودية، ولبنان والصراعات الطائفية والمذهبية، وكيف أدارت مصر الأزمات التى حدثت داخلها، وقطر وصعودها ودورها فى لبنان وعلاقاتها بـ«حماس» وتركيا، وقصة ظهور أردوغان فى المشهد وكيف بدأ، وعلاقة تركيا بإسرائيل والوساطة التى قام بها أردوغان بين دمشق وتل أبيب، فضلاً عن واشنطن التى كانت شريكاً فى كل التفاصيل وجزءاً لا يتجزأ من لعبة الأحداث التى حركت العالم، بالإضافة إلى الملف الليبى حتى بعد رحيل القذافى، التى تكشف بدورها أن الباز ظل على علاقة وثيقة بالأحداث حتى رحيل مبارك، بعكس ما هو شائع، فالاختفاء والإبعاد عن المشهد لم يمنع الوثائق والأوراق من الوصول إلى مكتبه حتى المرة الأخيرة التى ذهب إليه بعد 11 فبراير لينقذ ما يمكن إنقاذه من أوراق.

حكاية كراهية «الأضواء والمال والمناصب».. وحب «العلم والمعرفة والوطن»

الملف الأكبر فى أوراق أسامة الباز هو ما يتعلق بفلسطين، الملف الذى قضى فيه سنوات عمره، مفاوضاً ولاعباً أساسياً، الملف تضخمت أوراقه لتضم أوراقاً بعضها بروتوكولية -برقيات معلومات أو ملخصات لما تناولته وسائل الإعلام- وبعضها الآخر غاية فى الأهمية، وبين «البروتوكول» و«المهم»، تجد أوراقاً كُتب عليها «سرى» و«سرى جداً» و«عاجل للأهمية» و«فورى» تحتوى معلومات استخباراتية فى موضوع ما أو مقابلة خاصة تكشف معلومة جديدة.

ولمع اسم «الباز» فى الحياة السياسية المصرية طوال العقود الثلاثة الماضية بمستوييها الرسمى والشعبى، وكانت قوة شخصيته سبباً فى إزالة الاغتراب والحواجز بينه والكثيرين، لا سيما أن خطابه الإصلاحى بدا أمام معظم النخب المصرية متطوراً عن شخصيات متعددة قريبة من نظام الحكم. لذلك كان السؤال الحاضر الغائب: لماذا لم ترَ رؤاه لأهمية الإصلاح والتغيير طريقها للتطبيق طوال السنوات الماضية؟!

وعلى الرغم من تأثيره البالغ فى مجال عمله، فإن «الباز» ظل مخلصاً للاشتراطات غير المعلنة لطبيعة منصبه، لذلك، فإنه على قدر إسهاماته فى مجال الفكر السياسى، ظل الأكثر صمتاً على ترسانة المعلومات والأسرار التى يحملها فى ذاكرته. واستطاعت «الوطن» اختراق ذلك الحصن المنيع حول أسرار الرجل، من خلال زوجته الإعلامية أميمة تمام، وسننشر، على عدة حلقات، ما يمكن أن تسمح به قيود العمل الدبلوماسى من أسرار وتفاصيل عن حياة الرجل.

 

نبدأ من ملف الحياة الشخصية والمهنية لـ«أسامة الباز» والذى نحكيه على لسان أميمة تمام:

فى يوم من أيام يوليو الحارة فى قرية طوخ بالقليوبية عام 1931، ولدت الأم ابنها الثانى من الشيخ السيد الباز، وفرح أهل المنزل بقدوم الولد، وقرر الوالد الشيخ أن اسمه سيكون «أسامة». وبعد عامه الرابع، تنبأ الجد أن «أسامة» سيكون له شأن كبير، بالمقارنة بباقى أشقائه، فسألته الأم: «لماذا؟»، ولم يجب الجد، لكنه شدد عليها أن تهتم به، ومنذ تلك اللحظة والأم لا تنسى نصيحة الجد.

كان اهتمام الأسرة بالتعليم أكثر من أى شىء آخر، ولأن والده رجل أزهرى، فقد حرص على تعليمه القرآن الكريم واللغة العربية بشكل سليم، وكان الأب كل يوم يجمع الأبناء ليعلمهم قواعد النحو، ولفت انتباهه أن «أسامة» كان أكثرهم ذكاءً، ذكاء يسبق سنه بمراحل كثيرة، لم يكن طفلاً مثل باقى الأطفال المهتمين باللعب فقط، بل كان يفضل القراءة، ويبحث عن المعرفة.

مرَّ «أسامة» بالمراحل التعليمية المعتادة، حتى انتهى من البكالوريا، وقتها قرر أن يلتحق بكلية الحقوق، وهى كلية القادة والقامة، ولأن شغفه بالقانون أهّله لكى يكون من المتفوقين بالكلية، حصل على ليسانس الحقوق فى 1954، وقرر أن يكمل دراسته العليا فى الولايات المتحدة، وقتها مرض الأب، وكان «أسامة» يعمل وكيل نيابة، ومن الصعب أن يترك الأسرة ويسافر فى هذه المحنة، فقرر أن يؤجل سفره لمرافقة الأب ورعايته، لم يكن يتركه أبداً.

ورغم تعلقه الشديد بوالدته، فقد كانت للأب مكانة خاصة لدى «أسامة»، فهو معلمه الأول، كان يعتز دائماً بأن والده من شيوخ الأزهر، وأنه سبب إتقانه اللغة العربية الفصحى، والخط العربى، وفى كثير من الأحيان كان «أسامة» يتذكر والده وهو يجمع أبناءه ويعطيهم دروساً فى القيم والأخلاق والدين، لم ينسَ حتى نهاية العمر الدعاء الذى علمه إياه، خاصة فى أحلك المواقف والمصاعب: «اللهم اكفنى شر حب المال»، كان الأب يجعلهم يكررون الدعاء، وهكذا ظل راسخاً فى ذاكرته مدى العمر.

وظل «أسامة» بجانب والده حتى توفاه الله، وظل طوال حياته عندما يذكر والده تدمع عيناه، تعلم منه كيف تكون للأسرة مكانة مختلفة، كان يقدس الأسرة والعائلة، ولا يسمح لأى شخص أن يمس أسرته بسوء.

بعد وفاة الأب سافر «أسامة» إلى أمريكا لاستكمال رسالة الدكتوراه فى القانون، ولدى وصوله استأجر شقة صغيرة، كان وقتها يشعر بالغربة، حاول أن يجد رفقاء فى الغربة الموحشة، وبالفعل تعرف على بعض الأصدقاء فى أمريكا، ومن كثرة حبه للكتابة والخط كتب بعض الآيات القرآنية على حوائط المنزل الذى يعيش فيه، وعندما انتهى من دراسته، وأثناء تسليمه الشقة، وجدت صاحبة المنزل الآيات، التى أعجبت بها، لدرجة أنها قررت عدم إزالتها.

 

بين «السادات» و«مبارك»

عاد «الباز» من أمريكا ليستكمل عمله النيابى فى محكمة الجيزة الابتدائية، وفى إحدى المرات كانت هناك مناسبة لأحد زملائه، فذهب إلى أحد محال الشيكولاتة لشراء هدية، فقابله قاضى المحكمة، وعندما علم منه أنه ينوى شراء حلوى من إحدى المناطق التى يعمل بها، أخبره بألا يفعل، من هنا تعلم «الباز» ألا يخلط العمل بالعلاقات الشخصية. تدرج «الباز» فى عمله سريعاً ليلحق بالمطبخ السياسى، وقتها كانت مصر فى حالة حرب، وكان «السادات» يحكم مصر، ارتبط «الباز» بعلاقة قوية مع «السادات». كان على المستوى الشخصى يحبه، ويرى أن «السادات» شخصية فريدة من نوعها، ولن تتكرر ثانية، واعتمد «السادات» بشكل أساسى على «الباز» فى تولى بعض الحقائب السياسية، وكان يستشيره فى بعض الأحيان فى أشياء مصيرية. وكان «السادات» يجادل «الباز» كثيراً، ويظلان لساعات يتناقشان، كان «الباز» يرى فى «السادات» ذكاءً، وبادله «السادات» الانطباع نفسه.

كان الأب الأزهرى يجمع أبناءه يومياً ويعلمهم قراءة القرآن وقواعد اللغة والنحو ولفت انتباهه أن «أسامة» الأكثر ذكاءً ويسبق سنه بمراحل.. ووالدته «نقطة ضعفه»

عندما اختار الرئيس أنور السادات، «مبارك» نائباً له، كان يرى أنه شخص يستطيع أن يكمل المسيرة، لكنه كان يحتاج إلى إعداد، فأوكل مسألة إعداده لأسامة الباز، بداية من اللغة العربية، والنحو، وطريقة إلقاء الخطب، وأسلوب التفاوض، وكيف يتم، لأن «مبارك» كان عسكرياً، ولم يكن مؤهلاً للسياسة، وهكذا تم إعداده سياسياً قبل أن يصير رئيساً. واستمر هذا التدريب لفترة قريبة حتى 2002، بحكم أن «الباز» كان لصيقاً به طوال الوقت بحكم العمل وطبيعته.

فى خطاب للرئيس «السادات» أمام الاتحاد الأوروبى فى السبعينات، كان أسامة الباز يريد أن يوصل شيئاً ما داخل مضمون الخطاب، إذ طالما أوكل إليه «السادات» كتابة خطاباته، لكن «الباز» كتب الخطاب وفقاً لرؤيته وتوجهاته، فقال له «السادات» إن له بعض التحفظات على نص الخطاب، ويريد إجراء بعض التغييرات على مضمونه، وتوجهه، كان الخطاب يتحدث عن القضية الفلسطينية، لكن «أسامة» أصر على وجهة نظره، رافضاً تغيير الخطاب، وكان هناك سجال بينهما، على أثره ألقى «السادات» الخطاب كما يراه هو، وبعدها قال لـ«الباز» إن رأيه كان الأنسب.

لم يفارق مشهد «اغتيال السادات» «الباز» طوال حياته، كان يقدر له دوره المهم فى المرحلة، ويقول إن مصر خسرت كثيراً باغتياله، وكان «الباز» حاضراً مشهد الاغتيال، حيث جلس فى الصف الرابع من المنصة، وكانوا جميعاً يعلمون بالتهديدات التى أرسلت إلى «السادات»، لم يكن خائفاً، وأثناء اغتياله كان الشخص الوحيد الذى وقف أمام الرصاص، بينما نزل الجميع تحت الكراسى. كان متأثراً بمشهد قتل الرئيس، خاصة عندما لفظ «السادات» أمامه أنفاسه الأخيرة، وكان يحكى الواقعة بحزن، لدرجة أن عينيه كانتا تدمعان.

رغم صعوبة التعامل مع «السادات» فى العمل فإن «الباز» كان يقدره، فوجهة نظره أن «السادات» رجل عبقرى، لا يتردد فى اتخاذ القرارات، ولديه رؤى، ويعرف ماذا يريد، كان مستمتعاً بالعمل معه، ففى عهده استفادت مصر سواء على المستوى الخارجى فى الحرب والسلام، أو على مستوى الشئون الداخلية، كانت التحديات فى فترة «السادات» أكثر من عهد «مبارك»، والنتائج أكثر إثماراً.

وافق «الباز» على اتفاقية السلام، رغم التهديدات التى واجهها خارجياً، التى وصلت إلى حد رفع لافتات فى المطارات لدى سفره تطالب باغتياله، كان يرى أنه بعد سنوات سيرى العالم أهمية اتفاقية السلام، كانت لديه القدرة على استشراف المستقبل، وكانت هناك قائمة بأسماء المطلوب قتلهم فى العالم العربى بسبب الاتفاقية، وتم إلغاء عضوية مصر فى جامعة الدول العربية، لكنه رأى أنها مرحلة انتقالية، وكان «السادات» يرى هذا أيضاً، كان «أسامة» يتألم لأن «السادات» لم يمهله العمر ليعيش ويرى ما فعلته اتفاقية السلام.

كان يتمنى أن تحسم القضية الفلسطينية عن طريق التفاوض، وتنتهى بالسلام، كما فعلت مصر، لكن تعنت الطرف الإسرائيلى حال دون ذلك، وكان يجرى اتصالات مكثفة، ويسافر باستمرار لإجراء مقابلات، إلى جانب المقابلات التى كانت تتم فى مصر، وبذل جهداً شاقاً جداً، لكنه كان يتعثر كل ما تقدم خطوة على صعيد عملية المفاوضات والسلام، بسبب عدم التزام الطرف الإسرائيلى، وأحياناً بسبب الخصومات بين الفصائل الفلسطينية. قال لى ذات مرة إن «الفلسطينى قطع على نفسه عهداً بعدم الاقتتال، لكن هناك خونة، يعرقلون الأمور». لكنه ظل حريصاً على السير فى عملية التفاوض.

وأثناء تقطيع «تورتة الزفاف» مع أميمة تمام

أدرك «الباز» منذ اللحظة الأولى أن حسنى مبارك رجل ذكى على المستوى المهنى، لكنه ليس على مستوى أنور السادات، وفى الفترة التى كان يدربه فيها على العمل السياسى كان يتلقى التدريب بوعى ودقة حتى جاءت اللحظة التى تولى فيها «مبارك» حكم مصر.

الكثير كانوا يتوقعون تولى «الباز» وقتها منصباً أكبر مما كان عليه أواخر عهد «السادات»، خاصة لقربه الشديد من «مبارك» وأنه معلمه الأول فى الحياة السياسية، إلا أن «الباز» ظل فى مكانه رغبة منه فى ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يتلق أى عروض من «مبارك» سوى عروض الوزارات التى كان يرفضها دائماً بحجة أنه يستطيع أن يفيد البلد أكثر من موقعه.

مرت السنوات الأولى من عهد «مبارك»، وتوقف التلميذ عن الدروس السياسية التى كان يتلقاها من أستاذه أسامة الباز، لسبب ما لم يذكره، وتولى «الباز» الملف الفلسطينى كاملاً لحنكته السياسية وكونه الأمهر فى عملية التفاوض، حيث كان الإسرائيليون لا يفضلون التفاوض مع «الباز» لشراسته وقوته التى شهدوا بها رغم عدم حبهم له، إلا أنهم كانوا يحترمونه.

كان منهمكاً ومهتماً جداً بمباحثات السلام والقضية الفلسطينية، وكان هذا واضحاً أمام الجميع، كانت القضية بالنسبة له مسألة حياة أو موت، وأخذ فى هذا الملف فترة طويلة من حياته، وكان يحزن جداً عندما يحدث أى اعتداء إسرائيلى ويشعر أن مجهوده فى مهب الريح، خاصة أن اليمين الإسرائيلى كان شديد التطرف.

وفى صيف 1996 كنت أعمل فى برنامج «صباح الخير يا مصر»، وأردت التسجيل مع الدكتور أسامة، بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية فى أمريكا، وكان خالى صديقاً له وقتها، فسهل لى الاتصال به ولقاءه فى وزارة الخارجية، حيث تعرفنا للمرة الأولى، وكانت البداية الحقيقية، وأجريت التسجيل معه، وانصرفت، وبعدها بشهور تقابلنا مرة ثانية وتوطدت علاقتنا سريعاً، ومنذ اللحظة الأولى أعجبت بشخصيته ولم يكن بالنسبة لى شخصاً عادياً، عرفنا بعض أكثر، ولم نأخذ وقتاً حتى أصبح الإعجاب متبادلاً، ووجه لى دعوة لحضور معرض فى المركز الثقافى التايلاندى، وهو بشكل عام شخص يحب الأصدقاء، وفجأة وجدت أننا أصبحنا أكثر قرباً، وفى آخر عام 96 كان الارتباط العاطفى قد حدث بالفعل.

ذهبت معه إلى المركز الثقافى وكنت «مكسوفة جداً»، لدرجة أننى كنت أمشى بعيداً عنه، وحاول وقتها أن يشركنى معه ويمحو خجلى، شعرت باهتمام وعطف وتقدير كبير منه، وكانت تلك الفترة بين عامى 1996 و1998 أسعد أيام حياتى، ثم تزوجنا وعرف الناس، وحدث الزلزال الكبير.

قبل الزواج كان يتصل بى باستمرار، يسألنى ما إذا كان يمكن أن أذهب إليه فى المكتب وكنت أشعر بالسعادة جداً لهذا الاتصال، كنت أذهب إلى المكتب تقريباً بشكل يومى، وكنا نتكلم مع بعض فى كل شىء: الثقافة والسياسة والفنون وحياتنا الشخصية.

قبل ذلك، وأثناء وجودى ذات مرة فى مكتبه، شعرت أنه يريد أن يجرى مكالمة مهمة لكنه محرج من وجودى، خاصة إذا كانت مكالمة مع الرئيس أو مكالمة سرية، فغادرت من تلقاء نفسى، لاحظ أننى انتبهت إلى أنه يريد أن يجرى مكالمة سرية، فأعجبه هذا الأداء، وقال لى: «برافو إن فيه حد فى سنك ويفهم فى الأصول بهذا الشكل، ناس كثيرون يكون لديهم الفضول لمعرفة كل حاجة، خاصة المكالمات السرية، ويحاولون التقرب من الشخصيات المهمة لنقل المكالمات».

من هنا بدأ يشعر أننى مناسبة جداً له، ولما بدأ الإعجاب المتبادل بيننا قلت له إننى كنت أعتقد أنك متزوج لأنه كان يرتدى دبلة فى يده، فقال إنه منفصل منذ 20 سنة، سألته: لماذا لم تتزوج كل هذه الفترة؟ قال: بصراحة لم أجد امرأة مناسبة لى، ولطبيعة عملى الحساس.

 

فكرة أنه ليس متزوجاً شجعتنى أننى لن أفعل «حاجة غلط»، وقبل معرفتى بـ«الباز» كنت مرتبطة بزميل لى، ولكن لم نستمر كثيراً، وحين التقيت «أسامة» سألنى ما إذا كنت مرتبطة أم لا؟ فحكيت له قصتى مع زميلى. لم يجد صعوبة فى أن يقول لى إنه معجب بى، لأنه كان دبلوماسياً ولأن الإعجاب كان متبادلاً، فكانت الأمور تمشى بسلاسة، ولم يجد صعوبة فى أن يعبر عن مشاعره، وصلت له مشاعرى بسرعة، وكان ترددى كثيراً على المكتب واهتمامى بكل ما هو مهتم به ومشاركته فى موضوعات كثيرة إشارات قوية على هذه المشاعر.

لكن «أسامة» فاجأنى بتأجيل الارتباط بشكل رسمى حتى عام 97 لنقرر بشكل حاسم، نظراً لاعتبارات كثيرة منها فارق السن، والاطمئنان إلى حكمنا على سلامة التصرف الذى سنقدم عليه، وعدم كونه مجرد اندفاع، خاصة أنه كان هناك تربص من بعض الناس، فبعض الصحف تناولت العلاقة، وكان هناك لغط فى الأوساط الاجتماعية، فيما لم تكن هناك أى معارضة من عمله أو من الناحية السياسية.

عندما أخذ قرار الزواج كان يشعر أنه موضوع مهم، وقال لى: «لا بد أن تستوعبى إنت داخلة على إيه، وأن تكونى مقتنعة بالموضوع»، وطرح مسألة فارق السن بيننا، وتساءل هل سيسبب ذلك مشكلة أم لا؟ كان يريد أن يتأكد بشكل عام أننى مقتنعة به، وأننى درست قرار الزواج قبل اتخاذه، وأخبرنى أنه سيستجيب فى اللحظة التى أقرر فيها التراجع عن قرار الزواج ولن تكون هناك مشكلة.

بدأ كثير من الناس يتدخلون فى الشئون الشخصية لنا، ودار كلام حول أننا لم نتزوج رسمياً، وأن علاقتى بـ«الباز» مجرد نزوة من الطرفين، ومن هنا بدأ حسم الموقف، ليقول كل منا ما يريده، وكان أمامنا اختيار واحد فقط: الارتباط أو الافتراق، واخترنا الارتباط بكل تحدياته، فيما كان هناك ترقب من الناس، وبدأنا رحلة الزواج، ولم تعترض عائلتى على شخص أسامة الباز؛ لأنها متفتحة، وافق والدى على الفور، وسألتنى والدتى عما إذا كنت مقتنعة بهذا القرار أم أنه مجرد نزوة، وبعد وقت أصبحت والدتى و«الباز» صديقين جداً، وكان السكن فى المعادى، وبعد الزواج كنا كأى زوجين تدور بينهما مشاكل، فكنت أشكو لوالدتى وكانت تقول لى دائماً: «ما حدش يزعل من الدكتور الباز».

أكثر الأماكن التى كان يفضلها «أسامة»: «الميريديان القديم»؛ لأنه على النيل، كما كان يفضل دائماً الذهاب إلى الحسين، خاصة قهوة الفيشاوى، والتردد على محل كبابجى فى أحد أزقة الغورية، وكنا نمشى كثيراً جداً، وكان يفضل أن يذهب معى فى أى مشوار بسيارتى ويترك سيارته ويترك لى مهمة القيادة، ورغم أنه شخص معروف لكنه كان يفضل الأماكن البسيطة والشعبية. وفى حالة وجود مناسبة اجتماعية كان يفضل الأماكن المتعارف عليها مثل الفنادق أو غيرها، وعندما نكون وحدنا يعيش على طبيعته، ويذهب إلى السيدة زينب، ويفضل أن يصلى فى السيدة نفيسة المكان الأقرب إلى قلبه.

الوطن المصرية

اخر الأخبار