«بعد الرحيل».. اعادة نشر حوار مفيد فوزي مع نهلة القدسي زوجة موسيقار الأجيال

تابعنا على:   22:15 2015-08-20

نهلة القدسي

رحلت السيدة نهلة القدسي ، آخر زوجة للموسيقار محمد عبدالوهاب، عن ٨٨ عاماً في عمان.

توفيت نهلة في الرابعة صباح يوم «الأحد» بين يدي ابنها الوحيد السفير عمر الرفاعي الذي كان سفيراً لبلاده الأردن في مصر، وكان الأمير الحسن قد أمر بنقلها بطائرة طبية منذ ٣ سنوات حيث استقرت في بيت ابنها عمر وزوجته للعلاج حتي أسلمت الروح، «المصري اليوم» تعيد نشر حوار مفيد فوزي مع نهلة القدسي للرة الأولي بعد ٤٠ عاماً من الصمت.

أكتب من العاصمة الأردنية عمان، إحدي صديقاتي من مدن العالم، ذات الأبنية البيضاء المنخفضة التي تخاصم ناطحات السحاب. واللون الأبيض هو لون قلوب الأردنيين الذين لا يتجاوز عددهم الملايين الثمانية، وتربطني صداقات عميقة منذ وطئت قدماي عمان منذ سنين بعيدة متعاوناً مع الإذاعة الأردنية ثم شاشة تليفزيون الأردن. وحاورت صحفياً عدداً من الشخصيات منهم الشاعر عبدالمنعم الرفاعي والمفكر محمود الشريف والشاعر حيدر محمود، والدكتورة ليلي شرف والوزير محمد الخطيب والوزير صبري ربيحات الذي يعود له الفضل هو وزوجته المتألقة المذيعة نسرين أبوصالحة في العثور على رقم السفير عمر الرفاعي، ابن عبدالمنعم الرفاعي، عميد عائلة الرفاعي، ووالدته السيدة نهلة القدسي زوجة الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب. كان هدفي المعلن أن أراها وأطمئن عليها وكان الهدف المبيت أن «أكسر صمتها الذي طال كثيراً» منذ رحل الأستاذ وقبل أن يرحل! وهاتفت السفير عمر الرفاعي وأبديت رغبتي في رؤية الوالدة، فرحب بي واتفقنا على موعد.

الإقامة في «دابوق»

مر السفير عمر الرفاعي نهار أحد أيام أكتوبر بسيارته والتقطني من الفندق الذي أقيم فيه، وكما يقولون في الأردن «سيرة وانفتحت» كان حديثنا عن والدته «نهلة هانم» وأنا لا أستطيع أن أخاطبها دون أن يسبق اسمها لقب هانم، فمنذ تزوجها الموسيقار عبدالوهاب أحبها المصريون «لأنها حافظت على الأستاذ ومنحته راحة نفسية». لابد أن أشير إلى حساسية المصريين حين يتزوج منهم «رمز مبدع» سيدة غير مصرية، وقد اختلطت نهلة القدسي بالمجتمع المصري وعقدت صداقات سريعة وعرفت بذكائها طباع المصريين فبادلوها الود. قال لي ابنها السفير عمر الرفاعي ونحن نقطع شوارع عمان: نحن نتجه الآن إلى منطقة جديدة حديثة، حيث أقيم مع زوجتي ومعنا الوالدة «أم عمر» كما يناديها الأهل، والمنطقة اسمها «دابوق»، قال لي السفير عمر الرفاعي: بعد ٤ سنوات من العمل سفيراً للأردن في مصر عدت إلى عمان واصطحبت الوالدة بعد رحيل الأستاذ، فقد صارت وحيدة بالإضافة إلى ظروف مصر في السنوات الأخيرة، وفضلت أن تعيش معنا، والمنطقة هادئة تسمع فيها همس الريح، وسوف تراها ــ ولا تندهش ــ فوق كرسي متحرك، لكنها لم تفقد ابتسامتها، وعندما نقلت إليها رغبتك في الجلوس والتحاور معها رحبت واعتبرتك واحداً من «أعمدة ذكرياتها» بحكم قربك من الأستاذ ومنها. وهي بالطبع تعيش على الذكريات فإذا جاءها من ينعش هذه الذكريات وشاهد حي، على ذلك الزمن فرحت وأفرجت عن كثير مما هو في صدرها، وفيما عدا ذلك تلجأ للصمت، فإذا لاحظت شروداً منها فاعلم أن خيط «ذكري ما» قد شدّها!

 

«نصيبي أشوفك هنا»

 

عندما دخلت فيلا عمر الرفاعي في حي الدابوق الأنيق، سمعت صوت نهلة هانم في الطابق العلوي تقول «نصيبي أشوفك هنا في عمان مش في مصر» وأعترف بقشعريرة سرت في بدني وأنا سأراها بعد دقية وأصعد «١٠ سلالم»، كانت صورتها القديمة في ذهني ومخيلتي تلك السيدة الجميلة الملامح ذات الطلة الأبهة والأناقة الكاملة والعقل الراجح والعزوف عن الضوء تماماً. و.. ورأيتها، فعانقتها بحرارة ورأيت دمعة تفر من عينيها وصوتها يتهدج. لا شك أنها استعادت أيام شقة الزمالك وأنا أزور الأستاذ وأجلس معه في غرفة المعيشة، فقد كانت نهلة هانم «تصنِّف» بإحساسها الذي لا يخطئ الزائرين. البعض يقابلهم عبدالوهاب في غرفة المعيشة وهم المقربون، والبعض يلتقي بهم في الصالون. نهلة القدسي بعد هذه السنين ورحيل الأستاذ «تحمل توقيع الزمن» ولكن ذاكرتها حاضرة. قلت: شقة الزمالك مغلقة! قالت: رجعت لصاحب البيت! قلت: ألم تكن شقة يمتلكها الأستاذ عبدالوهاب؟ قالت: كنا ساكنين بالإيجار. كان بيدفع ميت جينه إيجار قديم. قلت: ومحتويات الشقة؟ قالت: رجعت لمحمد، ابن عبدالوهاب، قلت: والخزنة الصغيرة التي كان يحتفظ فيها بألحان لم ينفذها وكلمات أغان لم تر النور؟ قالت: والخزنة تسلمها محمد وهو مقيم في فرنسا، قلت: من يحتل الشقة الآن الرابضة على النيل؟ خرجت منها آهة عميقة وقالت: ابن صاحب البيت تزوج فيها! قلت: هل كان ممكناً أن تعيشي عندنا في مصر؟ قالت: «كنت اتجننت» كنت أحس بالنحنحة وأسمعها وأتصور أنه داخل الصالون بالروب، مكنش ممكن أستمر في مصر. وبعدين اللي كانوا جنبي في مصر راحوا ليلي فوزي وهدي سلطان أنا زي ما انت عارف وقعت وكان الوضع سيئاً، ونقلني عمر لأمريكا ولا أخرج إلا مرة واحدة في الشهر، وطوال الوقت أمام التليفزيون المصري متشوقة لأخبار مصر. قلت: لا نسمع صوتك في ذكري محمد عبدالوهاب، قالت بصوت واهن: محمد عبدالوهاب رمز عربي مش مصري، وأكبر من أي حد وأكبر من نهلة القدسي. قلت: لا يمكن إغفال «نهلة القدسي» في حياة عبدالوهاب. أنت «قطعة عزيزة» في حياته، وأعتذر عن التعبير. قاطعتني بضعف: محمد كان يقولي في ساعات الصفا «انتي شيء حلو في حياتي يا بيبي» قلت لها: لماذا كنت صامتة على مدي أربعين عاماً وياما حاولت إغراءك بالكلام؟ قالت: محمد كان يفضل الابتعاد عن الأضواء وأنا كنت مؤمنة بكلامه. قلت: ولكن أنت زوجة فنان ريادة؟ قالت ربما وهي تغالب دموعها: أنا كنت أسمع منه كلام الأغاني قبل ما يلحن، وكان حريص أسمع تسجيلات البروفات وكان بيعتز بوجهة نظري. ثم قالت: أستاذ مفيد ما تنسي أبداً إن علاقتي بمحمد بدأت بأحاديث حول فنه وأغانيه القديمة اللي «أسعدت جيل»، كان دايماً يسمعني بصوته «الليل لما خلي».. واختنق صوت نهلة هانم، فأشار لي السفير عمر الرفاعي أن أتوقف قليلاً عن الأسئلة ريثما تشرب كوب ماء وتستريح. قال لي بصوت منخفض: «هادا نزيف ذكريات»!!

الأستاذ الذي لا تعرفه!

قلت لنهلة هانم: بعد أربعين عاماً من الصمت، أريد أن أسألك عن «الأستاذ الذي لا نعرفه»، قالت: انت بتعرف كل حاجة عنه. قلت: أريد أن أقترب منه أكثر. قالت مداعبة: إيه تاني يا أستاذ مفيد؟ ثم وجهت الكلام للسفير عمر الرفاعي: كان محمد يقول عن الأستاذ مفيد «لما تعصريه تنزل منه صحافة» وكان يقول «هوه سؤال زي مصطفي أمين لما قال عنه» قلت لنهلة هانم: ما سر الوسوسة الفنية في حياته؟ قالت: الرغبة في الإتقان. قلت: ما سبب الوسوسة الصحية؟ قالت: خوفه الزائد على حياته. قلت: ما أهم صفة حين يأكل؟ قالت: المضغ الجيد «علي مهله» قلت: هل تتحدثين معه وهو يتناول وجباته في أمور حياتية؟ قالت: ممنوع الكلام مهما كانت المشكلة! قلت: متي تقررين الابتعاد المؤقت الذي دائماً يشيد به؟ قالت: أول ما يسرح ويدق بأصابعه على أي شيء ويدندن لوحده، أشعر أن «لحظة الولادة جت»! كيف يا نهلة هانم كانت علاقته بالست أم كلثوم؟ قالت بسرعة: كانوا بيغيروا من بعض! قلت: وعلاقته بعبدالحليم حافظ: كان يحبه بلؤمه! قلت: هو عبدالحليم لئيم؟ قالت: بتسألني عن عبدالحليم يا مفيد؟ قلت: ما رأي الأستاذ فيه؟ قالت: ذكي وألأم خلق الله! قلت: هل الأستاذ والست أم كلثوم عملوا فيه مقلب في إحدي حفلات الثورة أمام عبدالناصر؟ قالت: حليم كان عصبي ليلتها! هل الست أم كلثوم كانت معجبة بصوت عبدالحليم؟ قالت باستنكار: أم كلثوم فنانة «لغاية ضوافرها» على رأي محمد وكانت بتحب صوته! قلت: لماذا كان التليفون وسيلته للناس؟ قالت: يفضل التليفون عن الخروج. قلت: مع من كان يتكلم بفضفضة؟ قالت: كان «يرغي» بالساعات مع مصطفي محمود في الحياة والموت والعبادة الصحيحة. قلت: مع من يتحدث في السياسة؟ قالت: مع موسي صبري. قلت: هل حضرتك وراء طرد مغنية ليست مصرية كانت «تريد مجداً» من الأستاذ؟ قالت نهلة القدسي: كلام فارغ وتشنيعات سخيفة. خد بالك الفنانة اللي تحترم نفسها أشيلها فوق راسي. عندك الفنانة التونسية لطيفة، محمد قال لها «بخري صوتك م الحسد» وعجبني أوي المعني. ولما قال لنجاة «انت كلك إحساس وعاوزك تسقي حروفك إحساس» كان على حق، إنما مغنية عاوزة تدلع و«تعمل شو» عيب! قلت: من كان مستشاره القانوني الأمين عليه؟ قالت: الأستاذ لبيب معوض. قاطعتها: أكثر من شريكه مجدي العمروسي؟ قالت: أكثر. قلت لها: ما علاقتك بأولاد الأستاذ؟ قالت: بنتكلم مع بعض أنا وعصمت وأحمد ومحمد أولاده، وأنا بيربطني بمحمد «ود كبير» أكتر من أي حد تاني. قلت لها: سمعت الأستاذ يقول مرة «ضع ٥٪ نسبة غدر مع أي صديق قبل صدمتك فيه» قالت نهلة القدسي: مظبوط! ثم صمتت قليلاً وطلبت كوباً من الماء والتفتت إلى ابنها السفير وقالت: لي عمر أشوف أستاذ مفيد في عمان. قلت: ماذا يمثل لك عبدالوهاب؟ قالت: أمه وأخته وحبيبته وزوجته.

هالة القدسي حرة !

سمعت السفير عمر الرفاعي يقول لوالدته: هالة راجعة الليلة أمريكا! قالت نهلة هانم: يعني اكتفت بالسؤال بالتليفون؟ قال السفير: هالة حرة، جت تحضر فرح في عمان هي ومرات مصطفي العقاد مجرد ليلة وراجعة، ثم وجه لي الكلام: هالة القدسي قريبتنا وعندها بيوتي سنتر في هوليوود وساكنة في لوس أنجلوس ومعندهاش ولاد ومش متجوزة فهي حرة طليقة زي طائر محدش بيحاسبه!

 

سألت السفير عمر الرفاعي ريثما تسترد الوالدة أنفاسها؛ إذ يبدو أني أرهقتها، وهذا مجهود ذهني لم تتكيف معه. قلت: أين الوزير صلاح أبوزيد الآن؟ قال عمر الرفاعي: في الإمارات مستشار للشيخ خليفة، ساكن في طابق كامل في عمارة في الدور الخمسين. سألتني الفاضلة زوجة السفير عمر الرفاعي: كيفها فاتن حمامة هلا كانت مريضة؟ قلت لها: نعم وتعافت وحضرت حفلة وكرمها الرئيس السيسي بمصافحتها والسؤال عن صحتها. قالت نهلة هانم: فاتن حاجة كبيرة مش في مصر بس، بل في كل الوطن العربي. قلت على الفور: هي من «اكتشافات» الأستاذ عبدالوهاب. قالت نهلة القدسي: من اكتشافات المخرج محمد كريم لكن أول ظهورها على الشاشة كان مع محمد عبدالوهاب. كان محمد لما يشوف الفيلم ده يقول «مش ممكن حجب موهبة بالطعامة دي». قلت لنهلة هانم: كان الأستاذ عبدالوهاب يطلق عليك «هدية من السماء»، فقالت: كان بيبالغ، قلت: كان على حق؛ لقد لعبت أدواراً مهمة. منحته الراحة النفسية والاتزان الاجتماعي والعلاقات القليلة وحافظت على فنه وصحته دعيني أسألك! قالت: لسه عندك أسئلة؟ قلت: لمن كان يستريح للإذاعيين؟ قالت: جلال معوض ويحب قعدته وسامية صادق ونادية توفيق. قلت: لماذا حرصه الجنوني على المواعيد؟ قالت: لأنه منظم كالساعة. قلت: لماذا كان يكره الإضاءة المباشرة في التصوير ويستعين بالأستاذ المصور وحيد فريد؟ قالت: أضعف ما في جسم عبدالوهاب نظره. والإضاءة المباشرة تفقده القدرة على الكلام وتصيبه بصداع مفاجئ.

قلت لنهلة هانم: ماذا يمثل لك هذا الفتي الجميل السفير عمر الرفاعي؟ قالت: «حياتي». قلت: ما الذي تفتقدينه في عبدالوهاب في وحدتك؟ قالت: عبدالوهاب نفسه. قلت لها: ألا يستحق عبدالوهاب مسلسلاً عن حياته من باب الشعرية إلى المجد؟ قالت في أسي: لما إنعام محمد على تفكر نمدها بالمعلومات. سألتها: هل كان يكتب مذكراته وآراءه فيمن حوله؟ قالت: في السنين الأخيرة وأطلع الشاعر فاروق جويدة على بعضها والباقي في خزنة تحت تصرف ابنه محمد، قلت: هل كان يكتب بقلمه؟ قالت نهلة القدسي: كان بيسجل بصوته. قلت: بالمناسبة، هل خدم السفير عمر الرفاعي في تل أبيب؟ تنهدت نهلة هانم وقالت: انت عارف يا أستاذ مفيد، أنا كلمت جلالة الملك حسين وقلت له «ابني الوحيد تودوه إسرائيل؟» قال لي: خليه ياخد تجربة!

 

صار مجرد... !

عالم نهلة القدسي صار مجرد «مقعد متحرك» تتجول به في رقعة محدودة، و«شاشة تليفزيون» تنقل لها الدنيا.. وأخبار مصر، و«ركن كنبة» تسند ظهرها عليه وهي تأكل من يد زوجة السفير عمر الرفاعي المتفانية في خدمتها بحب، و«حفنة ذكريات» تطوف برأسها حين يتسلل إليها صوت محمد عبدالوهاب يغني. و«ابنها السفير» يتحرك أمامها ويعطيها دفقة حماس للحياة، و«نسمة شجن» تلفحها وهي وحدها والكل مشغول. و.. لا شيء أكثر.

نهليات

١- كان بيعمل حساب لألحان السنباطي.

٢- لم يشعر بعمره إلا بعد وفاة أمه.

٣- يعتز بشدة بكلمات الشاعر حسين السيد.

٤- أنا الزوجة الثالثة لمحمد عبدالوهاب.

٥- كاظم الساهر غني له «بفكر في اللي ناسيني».

٦- نجاة غنت لعبدالوهاب «أيظن وأسألك الرحيلا» من أشعار نزار قباني.

5- كان يثق في حس كامل الشناوي ويستظرفه.

 

٨- كان وفدياً ولكنه أعلن أنه مغني كل الناس.

٩- سعي للتعرف على د. لويس عوض واقترب منه.

١٠- كان عاشقاً للشوربة الساخنة على الغداء.

١١- كان يقرأ صحف الصباح عصراً.

١٢- ربطات العنق أكثر ما يهمه في ملابسه.

١٣- كان يصفك كصحفي بالقدرة على «النكش».

١٤- كان يحب «قفلات» محمد ثروت في غنائه.

١٥- لآخر لحظة في حياته كان يقول «الأوتومبيل» على سيارته و«الشوفير» على السائق.

١٦- كانت تربطه علاقة متحضرة بزوجي السابق عبدالمنعم الرفاعي والد عمر.

مفيد فوزى مع نهلة القدسى

عن المصري اليوم

اخر الأخبار