سيرة وطن سيرة حياة (ج-4)
تاريخ النشر : 2017-04-18 20:49

 (8)

السلام المفقود

بعد أيام قليلة من خروجي من المعتقل، كانت المفاجأة التي أذهلت الجميع، حدوث ما لم يكن متوقعا أبدا، اندلاع الحرب ضد إسرائيل وعلى الجبهتين المصرية والسورية في آن واحد ظهر يوم السادس من شهر تشرين عام 1973، وبمبادرة مصرية وسورية مشتركة.

وهكذا، بعد طول تشكك وتشكيك بجدية السادات بخوض الحرب، فاجأنا كما فاجأ إسرائيل والعالم، ليس بخوض الحرب فقط، وإنما أيضا، بالمعجزة العسكرية التي حققها الجيش المصري في اليوم الأول للحرب بعبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف الحصين بأقل ما يمكن من الخسائر، إضافة إلى تقدم القوات السورية في الجولان، والتي وصلت طلائعها إلى مشارف بحيرة طبرية.

حركة المقاومة الفلسطينية التي لجأ معظم قياداتها وكوادرها العسكرية والمدنية إلى لبنان، بعد أحداث أيلول الدامية في الأردن، تمكنت قبل وقوع الحرب من استعادة نشاطاتها العسكرية والسياسية، خارجيا وانطلاقا من الأراضي اللبنانية، لتؤكد أنها موجودة وأنها عصية على التصفية أو الحد من نضالها لتحرير الأرض الفلسطينية والإنسان الفلسطيني. ولجأت حركة "فتح" إلى تعزيز وجودها العسكري بإنشاء "قوات اليرموك" من الضباط والجنود الذين غادروا الجيش الأردني والتحقوا بصفوف المقاومة الفلسطينية إبان وبعد أحداث أيلول الدامية. كما لجأت مؤقتا إلى القيام ببعض العمليات العسكرية الخارجية، منها استهداف مواقع إسرائيلية في بعض البلدان الأوربية، مثل عملية احتجاز إسرائيليين مشاركين في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ في 5/9/1972، قامت بها منظمة "أيلول الأسود" التي كانت على صلة بحركة "فتح".

الفرع الخارجي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين واصل عمليات خطف الطائرات، بالرغم من القرار المسبق للجنة المركزية للجبهة الشعبية بوقف هذا النمط من العلميات الخارجية، مما أدى إلى تجدد الخلافات داخل الجبهة الشعبية بهذا الخصوص. كما صعدت تنظيمات المقاومة من عملياتها العسكرية من قواعدها في الجنوب اللبناني داخل أراضي فلسطين المحتلة عبر الحدود الإسرائيلية المتاخمة لجنوب لبنان.

تنظيمات المقاومة الفلسطينية المسلحة على مختلف اتجاهاتها كانت قد بدأت بتعزيز وجودها المسلح في البقاع وجنوب لبنان، منذ أن جرى ترسيم التواجد المسلح للمقاومة الفلسطينية في لبنان بموجب "اتفاق القاهرة 1969" الذي تم عقده في القاهرة في 3/11/1969 بتدخل من الرئيس جمال عبد الناصر، بين قيادة الجيش اللبناني ممثلة بالعماد أميل البستاني، قائد الجيش، ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بالأخ ياسر عرفات، رئيس لجنتها التنفيذية، بهدف تنظيم الوجود المسلح في لبنان، بعد وقوع عدد من الصدامات المسلحة المحدودة بين العناصر الفدائية الفلسطينية والجيش اللبناني. إلا أنه بالرغم من هذا الاتفاق ظلت تحدث صدامات مسلحة محدودة بين الجيش اللبناني وعناصر فدائية بين حين وآخر، كان أشدها وأوسعها، الصدامات التي جرت في أوائل شهر أيار عام 1973 في بيروت، والتي جاءت بعد أسابيع قليله من قيام مجموعتي كوماندوس إسرائيلية ليلة العاشر من شهر نيسان عام 1973 بالتسلل عبر البحر، وصلت إحداها إلى شارع فردان في بيروت واغتيال قادة ثلاثة كبار في منظمة التحرير الفلسطينية، هم القائدان الفتحاويان محمد يوسف النجار عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس اللجنة العليا للفلسطينيين في لبنان وكمال عدوان، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والمسؤول عن قطاع الوطن المحتل، والشاعر كمال ناصر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والناطق الرسمي باسم الثورة الفلسطينية. وتقدمت المجموعة الثانية إلى منطقة الفاكهاني حيث مقر معظم القيادات الفلسطينية، فقامت بنسف مقر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، واضطرت إلى الانسحاب بعد معركة دامية مع حراس المقر، نجم عنها مقتل عدد من الإسرائيليين واستشهاد عددا من الرفاق والمواطنين.

لقد أخذت إسرائيل تلاحق المقاومة الفلسطينية في لبنان وخارجه، وكانت قد شنت أوسع هجوم على مطار بيروت في 28/12/1968 ودمرت العديد من الطائرات، وذلك ردا على ما ادعته من استهداف عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طائرة "العال" الإسرائيلية في مطار أثينا بنفس الفترة. كما دأبت بمدفعيتها وطائراتها استهداف مواقع المقاومة الفلسطينية في المخيمات الفلسطينية وفي الجنوب اللبناني والبقاع.

جرت كل هذه الأحداث، بينما كنت لا أزال في المعتقل، وكنا نتابعها باستمرار بوسائل مختلفة، ونناقشها ونحلل أبعادها السياسية مع بعض. ومن الأخبار المؤلمة التي تلقيتها وآلمتني جدا، استشهاد الرفيق والكاتب المبدع غسان كنفاني في عملية جبانة دبرها عملاء إسرائيل في لبنان، بوضع عبوة ناسفة أسفل سيارته الصغيرة وهي متوقفة في كراج البناية حيث يقيم. أدى انفجارها بعد تشغيل السيارة مباشرة، إلى استشهاد الرفيق غسان، حيث تمزق جسده أشلاء مع ابنة أخته لميس التي كانت معه في السيارة، في 8/7/1972.

عشية حرب أكتوبر، كانت المقاومة الفلسطينية المسلحة قد استعادت نشاطها وفعاليتها، وكان لها إسهام، في الحرب وبخاصة على جبهة الجولان. وفي الأردن، حيث لم يشارك النظام الأردني رسميا بالحرب، تعرض النظام الأردني لضغوط شعبية قوية كي يشارك بفعالية في الحرب، وبذلت مع عديدين من نشيطي المقاومة الفلسطينية في الأردن الذين غادروا معتقل الجفر، وبمشاركة أطراف وطنية أردنية، محاولات جادة ونشطة لدفع النظام الأردني للمشاركة في الحرب، ودفع تشكيلات فدائية فلسطينية مسلحة للقيام بعليات عسكرية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة عبر الحدود الأردنية، إلا أن القوات الأمنية للنظام حالت دون ذلك، واكتفى النظام الأردني بإرسال لواء أو كتيبة من الجيش الأردني إلى الجبهة السورية.

لقد تعامل الفلسطينيون مع الحرب باعتبارها حربهم التي انتظروها طويلا، وـتأملوا منها الكثير، وبعثت فيهم آمالا كبيرة باحتمالات النصر، وأن حلمهم بالتحرير والعودة بات ممكنا. كانت المشاعر جياشة والآمال كبيرة، لكنها سرعان ما بدأت تخبو، ليحل محلها حالة من الشك والتشكيك بهدف السادات من هذه الحرب، بعد أن بدأ مبكرا مستشاره للأمن القومي، حافظ إسماعيل، الاتصال مع الإدارة الأمريكية عبر هنري كيسنجر، الذي كان يشغل مستشار الرئيس الأميركي نيكسون للأمن القومي، قبل أن يتسلم وزارة الخارجية الأميركية لاحقا، وهو الوزير الأميركي الذي تفرد بالإمساك بقضية الحرب وما تلاها من أحداث جسام، وقيادته لعملية خداع مخطط لها لجر السادات إلى عقد صلح منفرد مع إسرائيل.

لقد أخطأ السادات عندما أحجم عن استثمار المفاجأة الاستراتيجية بشن الحرب، التي أصابت القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية بارتباك شديد. وبخاصة بعد معارك اليوم الثامن من الحرب، التي تكبدت القوات الإسرائيلية خلالها خسائر فادحة في المعدات والأرواح، لدرجة جعلت موشيه ديان، وزير الحرب الإسرائيلي يطالب بالانسحاب إلى خط ثان، وجولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية، تناشد الرئيس الأميركي نيكسون، لإنقاذ إسرائيل والإسراع بمدها بأسلحة نوعية وتعويض ما خسرت من طائرات ودبابات وغيرها.

لا شك أن تأخر خمسة أيام عن تطوير هجوم الجيش المصري وعدم مواصلة التقدم، وقبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من الخروج من ربكتها وتعويض خسائرها الكبيرة من المساعدات الأميركية التي أخذت بالتدفق عليها بسرعة منذ بداية الحرب، أثر على مسار الحرب لصالح إسرائيل. حيث تمكنت القوات الإسرائيلية من استعادة زمام المبادرة. حسمت الوضع على الجبهة السورية لصالحها، وأعادت تعبئة قواتها وحشدها على الجبهة المصرية، وتمكنت من صد هجوم الجيش المصري في الرابع عشر من أكتوبر، الذي أمر به السادات، وكبدته خسائر فادحة في المعدات والأرواح. وتمكنت بعد ذلك من مواصلة وتطوير هجومها والاندفاع إلى غربي القناة عبر ثغرة الدفرسوار، وتطويق الجيش المصري الثالث في السويس.

 كنت ككثيرين غيري أتابع مجريات الحرب، وبخاصة على الجبهة المصرية، وبدا جو التفاؤل الذي غمرنا مع اندلاع الحرب والنتائج الناجحة لمجرياتها في الايام الأولى، يخبو ويأخذ بالتراجع شيئا فشيئا، وليحل محله تساؤلات عن هدف الرئيس السادات من الحرب، بعد أن فتح خطوط اتصال مع الإدارة الأميركية، ولم يسمح للجيش المصري بتطوير هجومه الناجح ومواصلة التقدم في اختراق خطوط العدو في سيناء وتفتيتها وعدم التوقف، وصولا حتى خط المضايق والتشبث به، كما هي الخطة العسكرية المقرة مسبقا.

هكذا، تحول ما كان ممكنا أن يكون نصرا يٌحدث تغييرا في موازين القوى، ويفتح المجال لحل سياسي شامل ومتوازن، تستعيد عبره الدول العربية أراضيها المحتلة عام 1967، ويستعيد الشعب الفلسطيني جزءا من حقوقه الوطنية التي أهدرتها الأنظمة العربية بحروبها الفاشلة وبأنظمة حكمها الاستبدادية، تحول إلى سراب وإلى متاهة أغرقت المنطقة العربية بسلسلة من الحروب، استهدفت بشكل أساسي تصفية وتحجيم المقاومة الفلسطينية. وتم إجهاض الأمل بالوصول إلى سلام شامل متوازن للصراع العربي الإسرائيلي، بعد أن تمكنت إسرائيل من اصطياد مصر، السمكة العربية الكبيرة، وعقد صلح منفرد معها. وبالتالي الإقفال على أي احتمال لإمكانية قيام مواجهة عسكرية عربية فاعلة ضد إسرائيل مستقبلا. أما لماذا حدث ذلك، وما هي دوافع السادات السياسية للقيام بذلك؟ تلك أمور كشفتها الأيام اللاحقة.

كنت أتابع هذه الأحداث وما تلاها من تطورات، أحللها وأعلق عليها بالمقالات التي كنت أنشرها في العديد من المنابر الإعلامية والصحفية. وفي هذه العجالة وأنا أستعيد بعض ذكريات هذه الأيام المجيدة، لا أكتب تاريخا، وإنما هي حالة من المران الذهني في استعادة بعض الأحداث من شريط الذاكرة. وقد توقف ذهني وأنا أستعيد هذا الشريط أمام تساؤل شغل ذهني في حينه، وهو: ماذا لو أن مسار حرب تشرين/أكتوبر أتخذ مسارا آخر، بالوصول إلى حالة من التوازن العسكري، هل كان الوضع في المنطقة سيكون أفضل من الوضع الذي نعيشه حاليا؟

على كل حال، لست أجزم بما يمكن أن تكون عليه الأمور، ولكن بالتأكيد كانت ستكون غير ما انتهت إليه، حينما تحولت إلى ما سميناه في حينه "حرب تحريك" للجمود السياسي الذي اتسم به الوضع في المنطقة قبل الحرب، وإلى حرب فتحت الأبواب المغلقة في المنطقة أمام الولايات الأميركية المتحدة، لتقتحمها بقوة، وتوكل لوزير خارجيتها هنري كيسنجر "هنري العزيز"، للقيام بتحركات دبلوماسية ومكوكية نشطة لتنفيذ سياسته فيما بات يعرف بسياسة "الخطوة-خطوة"، بدءا من "اتفاقية الكيلو 101" في بداية يناير عام 1974 لتحديد مواقع قوات الطرفين الإسرائيلي والمصري بعد وقف إطلاق النار، مرورا باتفاقيات فصل القوات الأحادية على الجبهتين المصرية والسورية، وبمؤتمر جنيف الصُوري، وصولا إلى زيارة السادات المشؤومة إلى إسرائيل في 19 نوفمبر 1977، وانتهاء بعقد اتفاقات كامب ديفيد عام 1978، وعقد صلح منفرد بين مصر وإسرائيل، وبشروط مجحفة، بموجب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تم عقدها في 26 مارس 1979 برعاية أميركية..

 

(9)

نحو فكر سياسي فلسطيني جديد

 بعد وقف إطلاق النار وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338 في 22/11/1973، الذي وافقت عليه كل من مصر وسورية والأردن وإسرائيل، عادت المنطقة إلى مساراتها السابقة بالبحث عن حلول سياسية للصراع العربي الإسرائيلي، في ضوء ما أسفرت عنه حرب تشرين/أكتوبر من نتائج غير حاسمة لكلا الطرفين، العربي والإسرائيلي. الولايات المتحدة الأميركية وجدت فيما جرى فرصتها لفرض هيمنتها على المنطقة، وحرصت على التفرد بالإمساك بزمام الحركة السياسية والدبلوماسية، تاركة أدوارا ثانوية وهامشية، إلى حد كبير، سواء للأمم المتحدة أو الاتحاد السوفياتي أو الأوروبي، وهذا ما تجلى بداية بشكل واضح في الإشكالات المتعددة التي برزت لدى محاولة عقد مؤتمر جنيف الدولي الذي كان مقررا عقده في 21/12/1973 وتأجل عقده عدة مرات، لفرض رؤية سياسية أميركية وإسرائيلية على المؤتمر وإشغاله بأمور ثانوية، وتهميش دور الأمم المتحدة وبعض الدول الأوروبية فيه. ولما تم عقده مؤخرا، لم يستمر إلا يومين وتم إفراغه من أي مضمون. لم تشارك فيه سورية لاعتبارات خاصة بها، كما لم تدع إليه منظمة التحرير الفلسطينية. ولم يتكرر عقده مرة أخرى، حيث فشلت محاولات عقده مرة أخرى عام 1977.

طغى على التحرك السياسي سياسة الخطوة خطوة الكيسنجرية، عبر العمل على عقد اتفاقيات جزئية، أحادية ومنفصلة لفصل القوات على الجبهتين المصرية والسورية، حيث تم ذلك خلال سنة تقريبا، بداية على الجبهة المصرية، ثم على الجبهة السورية. وفشلت محولات النظام الأردني للتوصل إلى اتفاقية مماثلة على الجبهة الأردنية، ولو بصفة شكلية، بالسماح بتواجد محدود ورمزي لقوات أردنية على شريط حدودي ضيق في القسم المحتل من الضفة الغربية غربي نهر الأردن، ليتخذ منها لاحقا منطلقا لفرض سيطرته على أي أراضٍ في الضفة الغربية قد تنسحب منها إسرائيل بموجب أي اتفاقيات سلام لاحقة.

كان واضحا أن الهدف من سير المفاوضات بسياسة الخطوة خطوة وعقد الاتفاقيات الجزئية المنفصلة، تفكيك ومنع أي محاولة لموقف تفاوضي عربي موحد، أو للتفاوض عبر وفد عربي موحد، أو للتفاوض حول صفقة سياسية شاملة، حول مصير كل الأراضي العربية المحتلة بما فيها الأراضي الفلسطينية. إسرائيل كانت ترفض ذلك بالمطلق مدعومة بالموقف الأميركي، والدول العربية لم تصر على ذلك أو تتمسك به، على الرغم من كل ادعاءاتها حول الحل الشامل، ورفضها للحلول الجزئية والانفرادية.

كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي الأضعف، وهي المستهدفة مباشرة لتحجيمها واستبعاد مشاركتها بأي جهد أو تحرك سياسي كطرف مستقل. وكانت تجري محاولات من أطراف عربية ودولية لإعادة إحلال النظام الأردني كطرف معني بشؤون الفلسطينيين ومستقبلهم. ولذلك فإن قيادة المنظمة استشعرت المخاطر التي تحدق بها مبكرا، وانتهجت سياسة تمكنها من استعادة تموضعها على الخارطة السياسية، باعتبارها رقما صعبا لا يمكن تجاوزه. ولذلك فقد شهدت تلك الفترة تصعيد وتكثيف العمليات العسكرية داخل الأرض المحتلة وعبر الحدود المتاخمة لإسرائيل في جنوب لبنان. للتأكيد أنها موجودة، وأنه لا يمكن تصفيتها عسكريا أو سياسيا، أو استبعادها عن مسار الأحداث الجارية. وتميزت تلك الفترة بنشاط عسكري مكثف ونوعي للمقاومة الفلسطينية، بما فيه شن عمليات شبه انتحارية، بإرسال عناصر مقاتلة إلى داخل الأرض المحتلة والسيطرة على مواقع واحتجاز رهائن من الإسرائيليين لإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، مثل عملية الخالصة-كريات شمونه (11/4/1974) وعملية "أم العقارب" (13/6/74) اللتين قامت بهما الجبهة الشعبية-القيادة العامة، وعملية ترشيحا (معلوت) (15/5/1975)، التي قامت بها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وغيرها من العمليات المماثلة.

وعلى الصعيد العربي كثفت قيادة المنظمة نشاطها وتحركاتها على الصعيد العربي لوضع حد لأي ادعاءات للنظام الأردني بتمثيل الشعب الفلسطيني أو أي جزء منه، وانتزاع قرار عربي باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي والوحيد. وقد اتسمت الفترة التي أعقبت حرب تشرين/أكتوبر بصراع سياسي مرير ضد النظام الأردني ومطالبته بتمثيل الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وفي الأردن، ورفض أي محاولات تشي بذلك، مثل تشكيل حكومة فلسطينية في المنفى التي طرحها السادات في حينه، وخوض الصراع في مؤتمرات القمة العربية لعزل مواقف النظام الأردني بهذا الخصوص، والتأكيد على أحقية منظمة التحرير الفلسطينية في التمثيل الشرعي والوحيد للكل الفلسطيني. وهو ما تم تحقيقه في مؤتمر القمة العربي السابع المنعقد في الرباط عام 1974.

وقد جرى تتويج هذا النشاط السياسي والدبلوماسي بالحصول على اعتراف أممي بمنظمة التحرير الفلسطينية من الأمم المتحدة، وهو ما تم أواخر العام 1974، بدعوة الأخ الرئيس ياسر عرفات، بصفته رئسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم ما تلا ذلك من قبول منظمة التحرير الفلسطينية عضوا مراقبا في المنظمة الدولية، وهي المرة الأولى في تاريخ هيئة الأمم المتحدة التي تقبل بها حركة تحر وطني عضوا فيها، وإن كان مراقبا، ثم ما تلا ذلك من صدور قرارات عدة أخرى من الجمعية العامة للأمم المتحدة تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، من أبرزها القرار رقم 3236 في 22/11/1974، الذي أكد على حقوق الشعب غير القابلة للتصرف وخصوصا الحق في تقرير مصيره دون تدخل خارجي، وحقه في الاستقلال والسيادة، وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي اقتلعوا منها، ثم لاحقا قرار الأمم المتحدة رقم 3379 الصادر في 10/11/1975 والذي اعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية.

ولعل من غرائب الحالة الفلسطينية في تلك الفترة، أن تندد أطراف فلسطينية بمن فيهم قيادات في جبهة الرفض الفلسطينية، الذهاب الفلسطيني إلى الأمم المتحدة والمشاركة في أعمال الجلسة الخاصة بقضية فلسطين. حيث اعتبرته هذه الأطراف والقيادات بمثابة خيانة للقضية وخطوة في اتجاه الانخراط الفلسطيني في المخططات "التصفوية الاستسلامية" للقضية الفلسطينية. واستمر البعض على هذا الدأب سنوات عدة في التنديد بأي تحرك سياسي فلسطيني، باعتبار أنه مظهر من مظاهر الاستسلام السياسي الفلسطيني. وأذكر أنني كتبت مقالا مطولا في مجلة "إلى الأمام" التي كانت تصدرها "الجبهة الشعبية-القيادة العامة" أنتقد موقف هذه الأطراف، مؤكدا أن الذهاب الفلسطيني إلى الأمم المتحدة ومخاطبة الرأي العام العالمي من منبر عالمي، كالجمعية العامة للأمم المتحدة، هو حدث تاريخي وهو نتاج كفاح الشعب الفلسطيني وتضحياته، يعزز نضاله وتواجده على خارطة الأحداث السياسية، بعد أن جرى تغييبه عنها سنين طويلة، ويعزز مواقف الشعب الفلسطيني ودفاعه عن قضيته الوطنية و"حقوقه الوطنية الثابتة"، وهو التعبير الذي كنت أول من استخدمه وأطلقه في تلك الفترة.

لا شط أن التطور الأبرز والأهم كان البحث جديا في خيارات سياسية فلسطينية تتسم بالمرونة، وبما يمكن منظمة التحرير الفلسطينية من التعاطي بإيجابية مع العوامل الإقليمية والدولية التي استجدت بعد حرب أكتوبر، وبخاصة أن موضوع مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب العام 1967، بات قضية مطروحة، في ظل احتمالات الوصول إلى تسوية سياسية عربية-إسرائيلية شاملة.

كان الفكر السياسي الفلسطيني لا يزال أسير رؤيته لفكرة التحرير الشامل لكامل الأرض الفلسطينية المحتلة، وأي تفكير خارج هذه الرؤية لم يكن مطروحا أو مقبولا ويعتبر خيانة وتفريطا بالحق الفلسطيني. فكرة الكيانية الفلسطينية الجيوسياسية على جزء من الأرض الفلسطينية كانت مرفوضة كليا ومن مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية. بعض تلميحات عن هذه الفكرة أو ما يشبهها كان يطرحها بعض القادة الفلسطينيين في مجالسهم الخاصة، بعد أحداث أيلول الدامية في الأردن، ولكن هذه التلميحات كانت تظل عابرة ودون أي توجه فعلي لبلورتها كمشروع سياسي.

بيروت عندما وصلت إليها أواخر العام 1973 كانت تموج بحوارات ساخنة، معمقة وصاخبة، وبخاصة حول الأفكار المستجدة بشأن الوجهة السياسية لفصائل المقاومة الفلسطينية بعد خضة حرب تشرين/أكتوبر. كان الجو السائد أن الحرب فتحت الطريق لتسوية سياسية سلمية للصراع العربي-الإسرائيلي، على الرغم من نتائج حرب تشرين/أكتوبر غير الحاسمة. الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حسمت موقفها السياسي، وأعلنت بكل وضوح برنامجها حول إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين.

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أعلنت رفضها لكافة الحلول والبرامج السياسية التي تنتقص من أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية، ووصفت ما يُطرح من برامج أو يروج له من حلول قادمة حول إقامة سلطة فلسطينية أو دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، مشاريع استسلامية وتفريطية بحقوق الشعب الفلسطيني، وشنت حملة إعلامية نشطة ضدها، وأعلنت عن تشكل "جبهة الرفض ضد الحلول الاستسلامية" من كل القوى والفصائل الفلسطينية التي تتفق معها بالرأي. وتعبيرا عن هذا الموقف انسحبت الجبهة الشعبية من مشاركتها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأبقت على مشاركتها في عضوية المجلس الوطني الفلسطيني. وستمر سنوات عدة قبل أن تغادر الجبهة الشعبية موقفها هذا، وتلتحق ببرنامج الإجماع الوطني المرحلي عام 1979، برنامج العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة، بعد أن تبين لها أن كل ما كان يطرح من حلول قريبة، كان وهما ومجرد سراب.

حركة فتح لم تتساوق في البداية علنا مع طروحات الجبهة الديمقراطية، تاركة الجبهة الديمقراطية بإمكانياتها الفكرية والتحليلية أن تشق لها الطريق، وأن تتلقى ردة الفعل الجماهيرية الصاخبة ضد طروحاتها. ولكنها بعد أن أدركت أن الوضع الجماهيري بات مهيئا، دخلت الميدان بقوة، وحملت البرنامج السياسي المرحلي وأوصلته إلى المجلس الوطني الفلسطيني لإقراره برنامجا سياسيا للشعب الفلسطيني (البرنامج السياسي المرحلي) في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني أواسط عام 1974.

باقي منظمات المقاومة الفلسطينية تنوعت في مواقفها بين من رفض التوجهات السياسية الجديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية والتحق بجبهة الرفض، أو انسجم مع هذه التوجهات، إلى حد ما.

لا شك أن أوساطا قيادية فلسطينية كانت لديها مخاوف، وهي محقة بذلك، من أن يجري بتوافق عربي ترتيب حلا ما للأراضي المحتلة عام 1967 عبر الأردن بمعزل عنها، ويعود العرب لفرض وصايتهم مجددا على القضية الفلسطينية، فبادرت إلى بلورة البرنامج المرحلي والذي بات يعرف ببرنامج الاجماع الوطني (الدولة المستقلة وتقرير المصير والعودة).

ولعل من الأفكار الهامة في إقرار البرنامج المرحلي أن القيادة الفلسطينية كسرت لأول مرة تابو "وحدانية الكفاح المسلح" كطريق وحيد لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، وتعلن لأول مرة عن "اعتماد كافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح". وهذا تطور إيجابي هام يمكن القيادة الفلسطينية من تنشيط حركتها السياسية، واعتماد أساليب كفاحية عدة، دبلوماسية وسياسية وتعبوية.

إقرار البرنامج المرحلي في المجلس الوطني الفلسطيني لم يحل دون نشوء معارضة واسعة من أطراف فلسطينية وعربية له، معتبرة إياه مشروعا استسلاميا يفرط بحقوق الشعب الفلسطيني. ولأول مرة أسمع في حياتي مصطلحات مثل تفريطي وانبطاحي...إلخ من المصطلحات التي طغت على أي تفكير عقلاني أو حوار هادئ يتسم بالحد الأدنى من الموضوعية وأدب النقاش والخلاف.

وبإقرار البرنامج المرحلي برنامجا للإجماع الوطني دخلت منظمة التحرير الفلسطينية وقضية شعبنا الوطنية في مرحلة سياسية جديدة لا زالت تتواصل حتى الآن.