الغرب يبحث عن هوية وقيادة
تاريخ النشر : 2017-07-17 11:37

قمة العشرين التي لم تثمر شيئاً مهماً. ما زالت موضع جدل. الرموز كانت كالعادة كثيرة، بل إن اختيار مدينة هامبورغ مكاناً لانعقاد المؤتمر كانت الرمزية وراءه واضحة. هامبورغ في التاريخ عبرت عن معان عدة. كانت دائماً ولاية مستقلة ذات سيادة. اشتهرت بثرائها وقدرة شعبها الفائقة على إعادة البناء بسرعة مذهلة بعد كل حريق وكل حرب وكل خراب دمرها تدميراً. في عام 845 صعدت في نهر الألب 600 سفينة من أسطول الفايكنغ ودمرتها وكان عدد سكانها في ذلك الحين لا يزيد على 500 شخص. وفي عام 1030 أمر بحرقها ملك بولندا. وهي لم تسلم من الحروب الأوروبية بأنواعها كافة. أمر نابليون بضمها موقتاً إلى الإمبراطورية ليحررها الجنود الروس في 1814. وفي 1815 اعترف مؤتمر فيينا باستقلالها وسيادتها ضمن الكونفيديرالية الألمانية. دمرها حريق هائل في 1842 وبناها أهلها، لتخربها ثورة 1848، ولكن لتخرج منها بدستور ينظم الفصل بين السلطات ويضمن حرية التعبير والاجتماعات ويفصل بين الكنيسة والدولة. مرة أخرى أصابها تدمير شامل أثناء الحرب العالمية الثانية بفضل سلاح الجو البريطاني.

هامبورغ بهذا التاريخ هي النموذج الأمثل لتاريخ أوروبا. تدمير وبناء. هي أيضاً أحد النماذج الأشهر للثورة الصناعية. بمعنى آخر هناك في هامبورغ كما في قلاع تجارية وصناعية أخرى تكونت القوة الصلبة التي كانت الأساس الذي قام عليه مفهوم الغرب كمجموعة قوى إمبريالية وتوسعية وأحد أهم الأسس التي قام عليها مفهوم الغرب كحضارة.

كذلك كان وراء اختيار «عقدة الشراع» شعاراً لقمة العشرين مغزى. هذه العقدة التي يعرفها حق معرفة كل من عمل في البحر والموانئ وكل من ارتبط بفرق الكشافة والجوالة، تعني لكل هؤلاء ولأولي الأمر أنه «كلما ازداد الضغط على أطراف الحبل ازداد تماسك العقدة وصار صعباً أو مستحيلاً انفراطها». أما الحبل فهو «الغرب» كما يراه منظمو قمة العشرين، وأما أطرافه، سواء الجغرافية، أي الواقعة على حدوده الشرقية أو الاقتصادية، أي التي تجتاز منذ مدة ظروفاً مالية صعبة، أو السياسية، أي التي اختارت الخروج من التزامات الوحدة الأوروبية والتي اختارت الانعزال وتفضيل مصلحة آنية جداً على مصالح الغرب، هذه الأطراف كلها تضغط بالتوتر والقلق وافتقاد الثقة وغياب الرؤية المتأنية، ويصبح الأمل منعقداً على العقدة أن تتماسك وتقاوم وترفض الانفراط.

بمعنى آخر أرادت ألمانيا أن يكون عقد قمة هامبورغ فرصة أخرى لدق جرس الإنذار. أرادت أن تقول لكل دول الغرب هذه جماعتكم على شفا الانهيار، وفي أيديكم، وبالسرعة الواجبة، الأمل الوحيد لإنقاذها قبل فوات الأوان. في الواقع لم تكن السيدة أنغيلا مركل في حاجة لأن تقدم مزيداً من الشرح. هذه أعمدة الغرب تكشف عن نوايا لم تكن يوماً نوايا معسكر الغرب. أميركا، أو بالأحرى رئاسة دونالد ترامب، تتهرب وتهرب. مقبول أن ننظر في أمر عضو قليل المكانة ضعيف النفوذ والتأثير في الغرب خرج عن الإجماع وقرر أن يحمل شعار «بلدي أولاً»، سواء بهدف التحجج به أو إيماناً أو تحت تأثير دفقة وطنية تصادف انتشارها في عدد غير قليل من دول الغرب. أما أن تكون الدولة التي تهرب أو تتهرب هي القائد والمسير والموجه والممول والحارس فالأمر بالتأكيد يستدعي مناقشات عبر مؤتمرات متلاحقة من نوع هذا المؤتمر المنعقد في هامبورغ أو في غيرها.

أضف إلى هذه الدولة العظيمة أو الأعظم التي تهرب أو تتهرب دولة كبيرة أخرى قررت الخروج والبحث عن تجمعات أخرى تحصل من عضويتها فيها أو تحالفاتها من خلالها واتفاقاتها الثنائية مع بعض أعضائها على مزايا «عينية» تفوق تلك التي كانت تحصل عليها من عضويتها في الاتحاد الأوروبي. أضف أيضاً دولاً انضمت للغرب بكامل إرادتها بعد عقود من الخضوع لإرادة روسيا السوفياتية وهيمنتها. هذه الدول تريد حماية الغرب العسكرية وحصانته الاقتصادية والمالية ولكنها لا تريد التزام أخلاقياته السياسية والإنسانية، وحين ووجهت بهذا الالتزام في مسألة المهاجرين تمردت وأقامت الأسوار وجيشت حدودها.

هذه الأوضاع في الغرب، هي وغيرها، نبهت ألمانيا من ناحية أو ألمانيا ومعها فرنسا من ناحية أخرى، ونبهت روسيا من جهة والصين من جهة أخرى إلى واقع الفراغ في قيادة الغرب. لا سبيل أمام البولنديين وغيرهم من الذين استمعوا إلى خطاب السيد ترامب في وارسو وهو في طريقه إلى هامبورغ إلا أن يزدادوا ثقة في أن هناك أزمة شديدة في قيادة الغرب. قال ترامب في خطابه في وارسو عكس ما قاله في تصريحاته وتغريداته وما ذكره في اجتماعات حلف الأطلسي قبل أيام معدودة وعاد وكرره في هامبورغ. لم يكن مفاجئاً أو غريباً اتجاه معظم الآراء إلى أن ألمانيا أفضل القادرين على سد فراغ القيادة ومنع انفراط مؤسسات الغرب تحت ضغط الكرملين من جهة والبيت الأبيض من جهة أخرى. مع ذلك هناك من يحذر أو على الأقل يطالب بحماية هذا الاختيار، اختيار ألمانيا لسد الفراغ، ودعمه بأفكار وشركاء قيادة من داخل الغرب، وربما من خارجه إذا استدعى الأمر، وفي هذه الحال نكون أمام مشروع إقامة نظام دولي جديد لا يكون الغرب محوره أو مصدر هويته.

يعتقد المحذرون من التسرع في اختيار ألمانيا، وهي ذاتها لن توافق في الغالب، لمهمة قيادة الغرب أن قيوداً مهمة تحول دون تولي ألمانيا هذه المسؤولية.

القيد الأول هو حقيقة أن ألمانيا ليست بقوة أميركا حتى تتولى خلافتها، ولن تكون في الأجل القصير ولا المتوسط. هنا يتضح حجم المشكلة لأنه لا توجد في دول الغرب دولة تستطيع أن تكون في قوة أميركا في الأجل المنظور. هنا تتضح أيضاً أهمية بدائل هذا الاختيار وخطورتها، أولاً احتمال أن تنفرد روسيا بالدول الحدودية «وتلتهمها» وفق تعبير معلق فرنسي، ثانياً أن ينقسم الغرب إلى تجمعات صغيرة حول مصالح ضيقة وتحالفات دفاعية موقتة، ثالثاً أن تأتي الصين وتعرض استعدادها لإقامة ثنائية قيادة تتحمل مسؤولية الدفاع عن الغرب من ناحية وآسيا من ناحية أخرى. عندئذ سوف يتعين على ألمانيا التنازل عن صفة العالم الحر التي تتمسك بها عندما تتحدث عن الغرب. رابعاً أن يسرع السيد ماكرون في تنفيذ الإصلاح الاقتصادي الذي وعد به السيدة مركل ليستحق شرف المشاركة في القيادة الاقتصادية لمنطقة اليورو ثم الغرب والنظام الراسمالي العالمي.

القيد الثاني الذي يحول أو يعرقل مهمة تحمل ألمانيا مسؤولية القيادة هو تاريخها الذي تجره خلفها في حلها وترحالها. لا شك في أنه أحد أهم المشكلات التي واجهت ألمانيا في محاولتها إصلاح أحوال دول شرق أوروبا واليونان. بل هو السبب الرئيس في أن ألمانيا مثل اليابان لم تحاول الانضمام إلى سباقات التسلح النووي وغيره من سباقات الاستعداد للحرب. وبالتالي تبقى ألمانيا ولوقت طويل مقبل دولة تعتمد أساليب أخرى لإدارة مصالحها وتسوية النزاعات مثل الديبلوماسية الأقرب إلى القسوة، وهذه استخدمتها بنجاح مع السيد أردوغان قبل عقد مؤتمر هامبورغ وأثنائه.

القيد الثالث هو الخلاف القائم داخل مجتمع الغرب بين دول تعتبر أن مسؤولية الغرب تنحصر في قضية النمو الاقتصادي ورخاء أمم الغرب وبين دول تعتبر أن مسؤولية الغرب يجب أن تنحصر في المسائل الأمنية، أي الدفاع عن الدول الغربية ضد الأعداء الخارجيين وقوى الإرهاب. ألمانيا لا تريد حصر المسؤولية في أي من الأمن أو التنمية بل تضيف مسائل الحقوق والديموقراطية والحريات. في رأيها أن الغرب ليس غرباً إذا أهمل هذا الجانب من مسؤولياته.

هذه القيود وغيرها من التحفظات على ضرورة تولي ألمانيا، منفردة أو مع فرنسا أو مع فرنسا والصين، مسؤولية ملء فراغ القيادة، لا تخفي حقيقة أننا واقعياً وجغرافياً وجيواقتصادياً نعيش على مشارف عالم جديد قاعدته أوراسيا، وألمانيا في موقع القلب منها.

عن الحياة اللندنية