خدعوك فقالوا الأرقام لا تكذب
تاريخ النشر : 2017-08-10 11:45

نشأت كبقية أطفال مصر فى بيئة تعليمية مدرسية تقوم على الفصل القاطع بين «العلوم الحقيقية اليقينية» و بين «الدراسات الفلسفية الاحتمالية»؛ وأصبح مألوفا أن نتحدث عن «شهادة الثانوية علمي» فى مقابل «شهادة الثانوية أدبي»؛ بل إننى أتوجس أن يكون ذلك التعريف الضيق للعلم قد امتد إلى صناع القرار فى الدولة بحيث اقتصر عيد العلم الأخير الذى أبهجتنا عودته بعد طول غياب، على تكريم الحاصلين على جوائز الدولة التى تمنحها أكاديمية البحث العلمى وتختص بالعلوم دون تلك التى تمنحها وزارة الثقافة فى الآداب و الفنون و العلوم الاجتماعية رغم تعادل النوعين من الجوائز ماديا و معنويا.

لقد كان حظى استثنائيا حين حصلت على شهادة الثانوية العامة عام 1954 حيث كانت التخصص الأدبى فى تلك الشهادة ينقسم فيما أذكر إلى شعبتين: أدبى رياضة وأدبى فلسفة؛ واخترت شعبة أدبى رياضة التى تجمع بين المواد الاجتماعية و الأدبية ومادة الإحصاء، مما يتوافق مع عشقى للتاريخ واللغة العربية و الحساب.كنت مغرما بالرقم، فللأرقام والإحصاءات بريق يكاد يأخذ بالعقول. يكفى أن تزين حديثك أو كتابتك بأرقام و جداول ورسوم إحصائية؛ لكى يصبح قولك عصيا على النقد. ورغم أننى كنت من الطلاب المتفوقين فى مادة الإحصاء حين درستها على يد أستاذى الراحل الجليل السيد محمد خيرى ضمن مقررات قسم علم النفس بجامعة عين شمس؛ فإن رفضى العميق لليقينية، الذى وجد مناخا مواتيا فى مدرسة عين شمس لعلم النفس؛ دفعنى لمحاولة التمرد على تلك اليقينية التى تقوم عليها الأرقام وترسخها لدى المتلقين وخاصة ممن يفتقدون الرؤية الفلسفية النظرية؛ حتى إننا فى خطابنا اليومى كثيرا ما نستخدم عبارة خاطئة بقدر شيوعها على ألسنتنا حين نقول «الأرقام تتحدث عن نفسها» بمعنى أنها لا تحتاج إلى بيان؛ وكما يقول العامة فى مجال احترام الأرقام «واحد زائد واحد يساوى اثنين» حين يشيرون إلى أمر يبدو لديهم واضحا جليا لا يقبل جدلا. والحقيقة أن الأرقام لا تنطق بلسان ولكن ينطق بها صانعها الإنسان.

ورحت ألتمس ما يساند تمردى على يقينية الرقم إلى أن وقعت فى إحدى المكتبات على كتيب صغير لا تتجاوز صفحاته 124 صفحة يحمل عنوانا صادما «كيف تكذب بالإحصاء». وزادت دهشتى حين قرأت أن مؤلف الكتاب داريل هف Darrell Huff حاصل على درجة الدكتوراه فى علم النفس الاجتماعى و أن تخصصه الدقيق هو الاختبارات العقلية والمعالجات الإحصائية. وقرأت على ظهر الكتاب عبارة شهيرة لصمويل جونسون الكاتب والناقد والشاعر البريطانى تقول «الأرقام التقريبية زائفة دائما»؛ كما قرأت وصفا مدهشا لعالم الاقتصاد السياسى جون كونيل للكتاب بأنه تجديف فى «علم الإحصاء» باعتبار أن ذلك العلم يكاد يكون دين العصر الحديث؛ حيث توفر الإحصاء بمعادلاتها الرقمية «أدوات الإقناع الديمقراطية اللازمة لهذا العصر».

ورغم مرور ما يزيد على نصف القرن على صدور ذلك الكتيب الفريد فإن ميشيل ستيل Michael Steel أستاذ الإحصاء بجامعة برنستون والرئيس المنتخب للجمعية الدولية للإحصاء الرياضى عام 2009 يصف كتاب داريل بأنه أفضل الكتب فى تخصصه عبر ستين عاما وأن ما كتبه داريل عام 1954 مازال صحيحا حتى اليوم. ولعله لا يخفى على القارئ الفطن أنه من المستبعد أن يقدم أستاذ مرموق فى علم الإحصاء على هدم تخصصه.فيما يبدو أن داريل تنبه إلى خطورة سحر الأرقام وكيف أن ذلك السحر يتضاعف بتأثير الجاذبية الطاغية للأساليب الحديثة لعرض البيانات والجداول والرسومات التوضيحية؛ حتى أوشك علم الإحصاء أن يصبح الوسيلة الرئيسية لتشكيل وعى الجماهير والسيطرة على العامة فى المجتمعات الديمقراطية الحديثة؛ ومادامت المصالح السياسية الاقتصادية بل والعسكرية المتصارعة فى عالم اليوم تسعى لتشكيل وعى الجماهير بما يتلاءم مع مصالحها؛ فإن جميع الأطراف المتصارعة تسعى لتوظيف تطبيقات علم الإحصاء لخدمة تلك المصالح حتى لو دفعت بذلك العلم إلى الكذب. الكذب الذى يقصده داريل ليس اختلاقا فجا للأرقام والبيانات، فالحاسب الآلى لا يستطيع الكذب إلا إذا ساعده شخص ما متخصص فى الإحصاء يستطيع الالتزام تماما بالحيادية وبعرض النتائج بموضوعية تامة ولكنه بحكم تخصصه ومهارته يستطيع تصميم اختيار برنامج «علمي» للحاسوب بحيث يصل إلى النتيجة التى تريدها الجهة التى كلفت الخبير الإحصائى بالبحث. ولنكتفى بمثال واحد:

نقرأ أحيانا أن إحصاءات مدعومة بالرسوم التوضيحية تبين أن متوسط دخل الفرد قد ارتفع فى دولة معينة؛ وفى أغلب الأحيان يعد القارئ غير المتخصص تلك النتيجة تعبر عن تحسن أحوال الأفراد المعيشية؛ فى حين أن الوقوف فحسب عند ارتفاع قيمة «المتوسط» يغفل حقيقة أن ذلك الارتفاع لا ينفى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أى لا يعبر عن توزيع الدخل بين المواطنين الذى يتطلب إلى جانب ذلك ما يعرف بمقياس التشتت أو الانتشار أو التوزيع، وكلا المقياسين يتصف بالعلمية والموضوعية دون جدال؛ ويكمن الفارق فى درجة انحياز الخبير الإحصائى للجهة التى مولت البحث.

خلاصة القول إن ما أثاره داريل منذ سنوات طوال؛ينبغى أن يدفعنا لضرورة شحذ الوعى الإحصائى لدينا؛ و لعلها مناسبة أيضا لدعوة المركز القومى للترجمة لترجمة ذلك الكتاب المهم.

عن الاهرام