حين يكتب الشاعر صالح أحمد كناعنة قصيدته ..!! (شاكر فريد حسن)
تاريخ النشر : 2017-10-10 23:49

صالح أحمد كناعنة شاعر فلسطيني مجيد ، غزير العطاء والانتاج ،لا يكتمل نهاره ان لم يكتب بيتاً من الشعر او يكمل قصيدة ، فكيف لشاعر مثله ان لا يتنفس ؟!

ليله مشوب بحزن فلسطيني وحنين وشجن وشجو وصبابة ،  وقصيدته تبقى ساكنة في الوجدان دائماً ،  بصوره المتقدة بالخيال الشاعري ، وثراء تشبيهاته وأوصافه،  وعاطفته الصادقة الجياشة . وهو صاحب سيرة ابداعية باذخة تمتد زهاء اربعين عاماً ونيف ، ورغم نجاحه في فرض تجاربه الشعرية المتجددة دائماً ، الا انه للأسف لم يحظ بالاهتمام النقدي والدراسة كغيره من شعراء الوطن الفلسطيني ، لكونه لا يملك " ثروة " ولا " جوقة " أو " فرقة سحيجة " .

انه شاعر المعنى بكل ما يخفيه من رموز ويستبطنه من تأويلات ، يعرف كيف يستحضر التراث ليعيد اعتماده كمسوغ يدعم بنية قصيدته ، وبناء موضوع متكامل من الشذرات والمتناقضات ، حتى يرتقي الى أعلى درجات الحرفية الفنية والخصب والابتكار .

من نفحات قصائده تتأصل حقيقة لا لبس فيها ان الانسان له كرامته على هذه الارض ، وله الحق في معانقة الشمس والحرية ، وبدون ذلك فالحياة فارغة من مضامينها ولا قيمة لها .

ينتمي صالح أحمد كناعنة الى النخبة الشعرية المتميزة بثقافتها ومعرفتها ورقيها وأخلاقها وعطائها وسخائها الذي لا يعرف الحدود ، يجمع في شخصيته الفضائل والشيم اليعربية والقحطانية بما يتحلى به من علم وفكر وثقافة ورفعة وتواضع واستقامة وطيب خلق والتزام بعقيدته الدينية الايمانية ، وحرصه على لغة الضاد .

صالح أحمد كناعنة من عرابة البطوف الجليلية ، انضم الى سلك التدريس معلماً للغة العربية التي حببها وغرسها في وجدان وعقول وقلوب طلابه ، وعمل مشرفاً أدبياً في صحيفة " صوت الحق والحرية " التي اغلقتها من قبل المؤسسة الاسرائلية الحاكمة عند حظر الحركة الاسلامية .

بدأ النشر في سبعينات القرن الماضي ، واذكر كتاباته في صحيفة " الأنباء " و" الشرق " ، وهو دائم النشر في المواقع الالكترونية وصفحته الفيسبوكية .

صدر له عدداً من المجاميع الشعرية ، آخرها ديوان " اليوم قمح غداً أغنية " ، وديوان " مرثاة لتضاريس السلالة " .

يرى صالح أحمد كناعنة ان الشاعر بالمفهوم المعاصر  - كما يكتب في مقدمة ديوانه " اليوم قمح غداً أغنية " - هو من تولد الألفاظ في وعيه مبلورة الى آفاق فكرية ومعان تحمل مراقي تعبيرية تسمو باللغة المألوفة الى أفق من الفنتازيا الفكرية المتصورة تستثير خيال وفكر ووعي القارىء ، ولا يكون الشاعر شاعراً اذا لم تولد المفردات والتعابير والمعاني في وعيه مموسقة ، الأمر الذي اتفق مع أخي معين حاطوم بأنه الوميض الحسي والتصوري والفكري الذي يميز الشعر عن أي جنس أدبي آخر ، وهو ما يكسب المفردة والتعبير صفة الشاعرية ، ليرقى بها الى مرتبة الشعر ، وما الوزن الا أداة ووسيلة من شأنها أن تصقل ، تضبط ، وتحدد ملامح هذا الوميض واشراقاته النغمية الموسيقية لا أكثر ، ولكنها لم ابداً لا تشكل شرطاً للمزاوجة بين الشعرية والشعر ، او يجعل الشعرية تنصهر في بوتقة الشعر لتولد القصيدة ، مع التأكيد على أن لا فصل بين الشعرية والشعر من حيث البعد التلازمي للمصطلحين ، فلا شعر بلا شعرية ، ولا يمكن للتعبير أن يرقى الى أفق الشعر ان لم يتوج بروح الشعرية .

صالح أحمد كناعنة يعرف كيف يقتنص الكلمة ويوظفها في قصيدته باسلوب شعري عفوي وتلقائي ناضج ، حيث يبني عالماً كاملاً معبأ بالمأساة والاسى والغضب والخواطر والتساؤلات ، معتمداً الصورة والايحاء ، ويمد قصيدته بالحياة والدينامية والحرارة .

يقول صالح أحمد في مقدمة ديوانه " مرثاة لتضاريس السلالة " : " نعم ، اشعر ان الواقع يتأزر مع الكلمات ، يشحنها لتفرض نفسها على وعيي وشعوري ، فأصوغها شعراً ... وكم ترتاح روحي لهذا الشعور ، فاترك الكلمات لتكتبني بكل عفوية وتلقائية ، يشاركها وجعي باملاء تعابيره واصدائه لتكون روح القصيدة .

وفي تجربته الممتدة ، فلصالح أحمد اكثر من اسلوب في التعبير ، وهذا التنوع يخدم قصيدته وتجربته ويزيدها قوة وعمقاً ومتانة ، وهي تجربة انسانية حية متشابكة تحتوي الوعي والايمان العقيدي والحب والميلاد والحياة والموت .

من يقرأ نصوص صالح أحمد كناعنة يستشف تنسيقها المبرمج لتراكيبها الفنية واللغوية والجمالية ومعانيها الجديدة ، ذات الايحاءات والدلالات التي تكسبها فنيتها العالية وجماليتها الشعرية ، ويجد النفس الشاعري المتجدد والدفاق ، فضلاً عن الصور الشعرية والبيانية الخلابة المميزة المدهشة ، والموسيقى الداخلية الواضحة ، وما أجمل الجرس والرنين والايقاع الموسيقي الذي ينسحب على جل قصائده ، ولنستمع اليه يقول في قصيدته " نحب الحياة شعر " :

نحب الحياة ...

ونعشق دفء رداذ المطر

وصوت التراب اذا ما تشقق

ليولد ميت ... ويحيا اثر

نحب الحياة ...

ولا ... ولا نبالي

بسحر المعاجز ، ظل الخطر !

ونبحث دوماً ... وخلف السكون

عن الصمت بهمس سر الوتر

كذا الجرح يهتف بي ناصحاً ...

ترفع وحي الصدى المنتظر

نحب الحياة

نصد الصدود

ونعشق بوح الندى للورود ...

ألم نك بعث اجتراء الزنود  ؟

خيالاً تخطى افتراء الصور

ليغدو المكان جنى امنيات

ويغدو الزمان بنا يختصر

واسطورة ترفض الانسلاخ عن الأخيلة ...

ندمع وعين ... وقلب ودمع

ووحدة اللون دليلي على ما ترقرق

في عبن ذاتي ...

صالح أحمد كناعنة كتب الشعر في معظم الاغراض والموضوعات كالوصف والنسيب والرثاء والمناسبات الوطنية والدينية ، وفي الشعر الوطني والانساني والاجتماعي ، بتنوع مجالاته وتعدد مناحيه ، وسكب في شعره ذوب قلبه واحساس روحه ونبض عروقه ، فغنى للحب والوطن والارض والجمال والورد وسنابل القمح والطبيعة الغناء ، وانشد للمكان الفلسطيني ، فناجى الاقصى ، وهتف للقدس الجريحة المحاصرة باسوارها ، وحاكى العيد ، فأجاد وأبدع بكل ما خطه القلم وكتبه الوجدان .

في قصيدة صالح أحمد كناعنة تتوحد اللحظة الشعرية ، وتصبح الغنائية المأساوية صدى جماعياً ، وهو يكرس قصيدته للحياة وللانسان بأبعاده المختلفة ، ولا يغفل أن يلتفت للهم الفلسطيني والشقاء والغربة في الوطن ، وهموم الحب ، وانبعاث الفقراء والكادحين الثائرين من اجل العدالة ... يقول في قصيدة " لمن تشرق الشمس " :

للفجر أغنيتي وقد بان الأثر

ورأيت امثالي من البسطاء وينتفضون من اجل الحياة

والشمس تعلن ودها ...

للصاعد المرصود في غاب التحرش والحصار

يا شرفة المنفى المطل على شغاف القلب

يا عمر الصراع

قد آن للكف التي حملت بقاياها مقارنة النزيف

والفجر يغرس رمحه في قلب ليل خان درب سراته

والأفق يعلن : أيها الماضون ،

قلب الليل حاضرة القلوب المجفلة

لا تتركيني يا ريح البيد ،

لست اريد أن أنسى ملاممح زحفتي

كم ساذجاً يا قلب صحرائي

بدوت وأنت تؤوي كل ما لا وجه له

ام كان للتاريخ وجه حينما انتصب السرى .

في تجربة صالح أحمد كناعنة بساطة عميقة ، وذائقة رفيعة ، واحساس مرهف دافئ ، ومع البساطة والعمق مسحة من الغموض والتنميق الجديدة ، يطعم بها قصيدته فزاد رونقها وارهف موسيقاها ، وخلق فيها الرمز الموحي ، والشمولية الجامعة .

في  قصائده تركيز على القيم والفضائل الاخلاقية والدينية وعلى التسامح والمودة ، مدار كل عطاء أصيل ، وعلى نشوته وسعادته من وراء التضحية الكاملة ، في سبيل الانسانية والجمال والتآخي والمحبة التي لا تعرف حدوداً فتسقط امام سلطان الزمان والمكان .

وكما يختلج الاحساس في الجذور ، طولاً وعمقاً ، اي باشكال وصور مركبة ، هكذا تأتي الصورة في قصائد شاعرنا صالح أحمد ، امتداداً صادقاً لاحساسه ، فالاحساس هو كالموجة ، ولا تكون الا كذلك ، والصورة موجة تنقل هذه الموجة الشعورية ، لذلك فالكلمة اعجز من أن تحمل هذه الشحنات العاطفية والتموجات الوجدانية ذات الصبغة الانسانية ، اما الصورة فيمكنها ذلك ، وهكذا هو شعره ، شعر الصورة الجميلة ..!!

تحية من القلب للشاعر الجليلي صالح أحمد كناعنة ، مع تمنياتي له بالعطاء والابداع الدائم المتواصل ، فهو حقاً موهبة شعرية صادقة لن تنضب .