وثائق بن لادن 2017
تاريخ النشر : 2017-11-05 12:27

لم تكد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) تنشر وثائق جديدة الخميس الماضي من تلك التي تم العثور عليها بعد مقتل زعيم ومؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في أبوت آباد، حتى توقف موقع تحميل الوثائق بسبب الضغط الكبير عليه، وهذا خبرٌ بحد ذاته.
تم سابقاً نشر مجموعة أصغر من تلك الوثائق مع حرص إدارة باراك أوباما على عدم نشر كثيرٍ منها بسبب خشيته من تحمل تبعات علاقات إيران بتنظيم القاعدة وتأثير ذلك على أفشل مشاريع أوباما وهو مشروع الاتفاق النووي مع إيران، والذي أراد به وضع بصمة له في السياسة الخارجية بأي ثمنٍ، فكانت بصمة عارٍ وشاهد خيبة وانعزالية أضرت بأميركا أكثر من غيرها.
اختلف الوضع اليوم، وجاءت إدارة الرئيس ترمب التي تسعى جهدها لمواجهة إرهاب «القاعدة» وإيران و«داعش» بشكل جادٍ، وأعلن الرئيس استراتيجيته تجاه إيران وأدوارها التخريبية الكبرى في المنطقة والعالم، وكخطوة فاعلة لمواجهة الإرهاب تمّ نشر مجموعة كبيرة من تلك الوثائق التي تثبت فيما تثبت حقائق معروفة للمتابع والباحث من علاقة بن لادن بجماعة الإخوان المسلمين بخط يده ومن العلاقات المتداخلة التي ربطت تنظيمه (تنظيم القاعدة) بقيادته وبرموزه وبعائلته مع نظام الملالي في طهران وغيرها الكثير.
ثمة قصور ظاهر لدى وسائل الإعلام ومراكز الدراسات العربية في عدم الاهتمام بما تنشره الـ«سي آي إيه» من وثائق تتعلق بتنظيم القاعدة وزعيمها بن لادن، مع أن هذه الوثائق بالغة الأهمية وفيها العديد من التفاصيل المثيرة لأحداثٍ كبرى وجرائم لا تنسى تبناها هذا التنظيم وعلاقاته برموز وجماعات الإسلام السياسي وبدولٍ في المنطقة مثل إيران وقطر، والدول العربية وشعوبها معنية بكثيرٍ منها أكثر من غيرها من دول العالم لأننا نحن من عاش مأساة الإرهاب أكثر من غيرنا، يفترض أن يتم جمع هذه الوثائق وترجمتها وترتيبها وإتاحتها للقارئ والباحث.
قد يتساءل البعض، لماذا نهتم بها وهي تحكي عن ماضٍ تجاوزناه وانتهينا؟ وهو سؤال خاطئ دون شكٍ، فنحن لم ننتهِ من الإرهاب والتطرف بعد، وأمامنا مشوارٌ طويلٌ يجب أن يخاض للقضاء عليه، ومن هنا فهي وثائق تحكي عن الماضي دون شكٍ، ولكنه ماضٍ مختلطٌ بالحاضر، وله أثرٌ في المستقبل، فمعرفة ما جرى بالأمس القريب على وجه أدق بالغة المنفعة لفهم ما يجري اليوم، وما يمكن أن يجري مستقبلاً.
كشف الزيف مهمة جلّى، بالأسماء والتواريخ والأحداث والمعلومات، ولا يقل عنها أهمية إتاحتها للباحثين والمختصين كلٌ في مجاله، ليدلوا بدلوهم فيها ويضعوها في سياقاتها ويقرأوا علائقها وتحولاتها ويرصدوا تطوراتها ويستشرفوا مستقبلها، وهذه أهمية لا ينكرها عاقلٌ.
معارك المستقبل تبدأ أحياناً في الماضي، ولن ينجح مستقبلٌ ما لم تتمّ تصفية الماضي، وتنقيحه وإعادة تفسيره وتأويله، ورسم طرق الخلاص منه، وتلك واحدة من أعظم مهمات التحضر في التاريخ، خاضتها العديد من الأمم وكان لكلٍ منها طريقة مختلفة ولكنها نجحت في تجاوز الماضي عبر الاشتباك معه إيجاباً وسلباً وتمهيد الطريق الصحيح للمستقبل، حدث هذا في السياق الحضاري الغربي في عصر النهضة وعصر التنوير والعصر الحالي كما حدث سياق تجارب شرقية مثل اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وغيرها.
نحتاج لعقودٍ حتى نستطيع الزعم بأننا انتهينا من تجاوز التطرف والإرهاب والصحوة والإخوان المسلمين والسرورية والقطبية وحزب التحرير وأحزاب الإصلاح والعدالة ونحوها من المسميات التي وإن حمل بعضها تسمياتٍ حديثة أو معاني محببة إلا أنها جميعاً كانت منابع الإرهاب ومصانع التطرف، ومثلها أحزاب الله الشيعية بنسخها المتعددة وميليشيات الإرهاب الشيعي كالحشد الشعبي وحركة أنصار الله الحوثية وعشرات الأحزاب والجماعات والتنظيمات في شرق العالم وغربه.
مهمة طي صفحات التاريخ، وإعادة ترتيب أولويات الدول والأمم والشعوب مهمة القادة العظماء، القادرين على تجاوز الماضي وإعاقاته وإحكام التطوير وتفاصيله في الحاضر وبالتالي إتقان الرؤية في المستقبل، وهو ما يجري في المملكة العربية السعودية والعديد من دول الخليج العربي والدول العربية، ويبقى على المثقفين والباحثين والمتخصصين كلٌ في مجاله توضيح وقراءة هذه التحولات الكبرى، لماذا تم تجاوز الماضي؟ وما هي السياقات التي أدت لذلك؟ مع توضيح للسياقات الكبرى والصغرى وغربلة للمفاهيم والتصورات التي كانت سائدة حتى لا تعود، ونقدٍ جادٍ وعلمي يبحث في الجذور والخطابات والمنابع والروافد وكافة المعطيات التي اكتنفت مراحل تمتد لما يقارب القرن من الزمان.
بالجمع وبالتفريق، وبالرصد وبالتحليل، وبالنقد والمعرفة، وبشتى مناهج البحث، يجب أن تتم قراءة الماضي، وخطاباته السائدة، القريبة والبعيدة، تلك التي ساهمت مجتمعة في ضياع عقودٍ من الزمن وأجيالٍ من البشر، في خطاباتٍ مؤدلجة دموية، ملأت الفضاء العربي والمسلم، بخطاباتها وأولوياتها ومفاهيمها حتى وصلنا إلى مرحلة أصبح الإسلام فيها متهماً بالإرهاب والتطرف دون غيره من الأديان والثقافات والأمم والحضارات.
ليس سهلاً على الإطلاق إيجاد الكيفية التي يتم من خلالها إيجاد السبيل والكيفية التي يتم بها تحويل جدالات الماضي محفزاً للمستقبل، ولكنها سبيلٌ يجب أن تخاض، فالشعارات والحملات الإعلامية أو الإعلانية تؤدي غرضاً مهماً في التأثير الآني واللحظي وهي تمهد الطريق لبحوثٍ أعمق ودراساتٍ أبقى، والتاريخ خير شاهدٍ والحاضر يحكي هذه الأهمية لدى الدول والأمم المتقدمة والمتحضرة.
وسائل التواصل الاجتماعي ومواقعها وبرامجها كلها تصب في تعزيز قضايا آنية يمكن تسميتها بقضية اليوم الواحد، تشتعل كالشرارة ثم تنطفئ، ولها تأثير لحظي له أهميته وتنتهي سريعاً دون أن تترك أثراً عميقاً، وهي مفيدة في المعارك الوقتية ولكنها لا يمكن أن تبني علماً أو معرفة نظراً لطبيعتها وبنيتها.
وقد استفادت الجماعات الأصولية والإرهابية كثيراً من هذه المواقع لإيصال رسائلها وحشد صفوفها والتخطيط الآمن لنشر الإرهاب وجرائمه، وحسناً فعلت أميركا بفرض قوانين صارمة تلزم تلك المواقع والتطبيقات بمكافحة التطرف والإرهاب، فأمن الناس والدول مقدمٌ دائماً على غيره، وقد كان بن لادن وتنظيمه «القاعدة» من أوائل من استفاد من الإنترنت ومواقعها في التجنيد والتمويل والتخطيط والتنفيذ.
أخيراً، تحدث بن لادن في هذه الوثائق بحسب ما اطلعت عليه من نتفٍ منشورة هنا وهناك عن علاقته بالإخوان المسلمين في جدة، وتحدث عن تأثره بطروحات الإعجاز العلمي في القرآن وتحديداً كتب الإخواني اليمني العتيد عبد المجيد الزنداني، وتحدث عن إيران وقطر، وبالتأكيد هنالك المزيد.

عن الشرق الأوسط اللندنية