"في حضور الغياب "
تاريخ النشر : 2018-03-13 16:04

خلال احدى زيارات محمود درويش الأخيرة إلى القاهرة قبل سنوات قليلة من رحيله ، طلب منى الصحفى الحصيف سيد محمود أن أتدخل مع محمود درويش ليجرى معه حديثا "للحياة اللندنية"، وبعد أن نجحت فى التغلب على تردده قلت له: نحن نعرف بعضنا منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد وكنت أراك بشكل شبه يومى على مدى عقد كامل فى باريس واهتماماتى الثقافية جعلتنى اجرى للإذاعة التى كنت أعمل بها أحاديث مع كثير من كبار الشعراء والكتاب.. ورتبت لك عشرات الأحاديث مع الصحافة الفرنسية والعربية ولكننى أكتشف الآن أننى لم أطلب اجراء أى حديث معك.

أجابنى: هذا طبيعى فنحن نعرف بعضنا أكثر من اللازم

وها أنا يا صديقى محمود، أيها العصى على الغياب.. لا أعرف عما أكتب بعد عقد من رحيلك  ،  لم تغب فيها عنى وعن أصدقائك الكثر، ففى كل لقاء أنت دوما هنا، فأنت فى الـ«هنا» والـ«هناك» وفى الآن ذاته.

●●●

فهل أحكى قصة لقاء مع أبى سلام، أميل حبيبى، طال أكثر من أربع ساعات فى مطعم باريسى كنت فيه تحدث "البطريرك الشيوعى " بلهجة نقد عن مواقف الحركة التى انتميت أنت أيضا إليها، وأيضا عن انحيازاته الأدبية والثقافية.

أم ترانى أحكى حيرتك السياسية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وحيرتك أمام حماسى الذى وصل إلى حد بحث احتمالات عودتى إلى أرض الوطن. كنت كالعادة ترى ما لا نرى وتنصحنى باسما بأن أستمر فى رى النباتات على شرفتي  شقتى الباريسية. ورغم أنك كنت تعرف وتقول ان لذة الوطن معنوية أكثر منها حسية فقد قررت العودة وقرر الإسرائيليون أن عودتك ستكون إلى غزة ولكنك فى النهاية استطعت أن تقيم فى رام الله.

وعندما كنت أسألك ما دمت تعرف مدى أوسلو فلماذا تعود؟ كنت تجيب: عيب أن ابقى فى المنفى ولى وطن. هكذا كان محمود الحريص على الاستقامة الاخلاقية، فعندما كنا ندعى من بعض الاصدقاء الموسرين لقضاء أيام على الشاطئ اللازوردى جنوب فرنسا  كان يرفض كل هذه الدعوات بحجة أن هذا لا يليق.

كان يحب القائد الفلسطينى ياسر عرفات الذى «يمشى بين قطرات المطر ولا يبتل». كان معجبا ببراجماتيته، ولكنه مع ذلك كان يحتار فى بعض مساحات هذه الشخصية العريضة.

بعد إجراء عمليته الجراحية فى باريس فى 1996 حيث كنت ألازمه، دعانى أثناء نقاهته إلى قضاء إجازة فى تونس فى بيت استأجره على شاطئ البحر. ذهبنا يوما للقاء عرفات فوجدنا عنده رجل الأعمال الفلسطينى المعروف حسيب الصباغ الذى كان يعرض على ابوعمار وساطة لحل الخلاف مع الرئيس حافظ الأسد، وكان يحمل أسئلة من القيادة السورية أحس الفلسطينيون ان بها مساسا بالكرامة الوطنية. ابتسم عرفات الذى لم يكن متحمسا للوساطة: ألم اقل لكم؟ عندها اقترح محمود أن يرد على الرسالة دون الإجابة على الأسئلة. وكلفه عرفات، هو وياسر عبدربه، بكتابة الرد الذى بدأ بعبارة: يسعدنا أن نتقدم من القيادة السورية.

عندما سلم محمود الرسالة لعرفات نظر عرفات إليه وهو يقرأ.. يسعدنا! يسعدنا! أترى يا نبيل لقد كتبت ردا من «امهات» الأدب رفضه الإخوان، وها هو صاحبك يقول «يسعدنا»، فقال له محمود آسف جدا أخ أبوعمار بإمكانك أن تشطب «يسعدنا» وتضع مكانها «يؤسفنا».

●●●

تابعنا سويا وعلى شاشة التلفاز من شقتك الباريسية أحداث ربيع أوروبا الشرقية وشاهدنا القبض على تشاوتشسكو واعدامه مع زوجته. وعندما كنت أشاهد اعدام معمر القذافى خلت أنك تقف إلى جانبى بالتأكيد كنت سترى الخلاف بين الاعدامين وكنت ستهدينى إلى هذا الخلاف بعبارة قصيرة ثم نكمل «لعبة» النرد.

كنت تحب كثيرا تفاعل جمهورك السورى مع قصائدك، ماذا كنت ستقول وأنت تتابع ما يحدث الآن هناك؟ كنت لربما ستعيد عبارة قلتها قبل ذلك "عام يذهب وآخر يأتى وكل شىء يزداد فيك سوءا يا وطنى"، أو لربما كنت ستعيد تساؤلك الرهيب: "من يدخل الجنة أولا؟ من مات برصاص العدو أو من مات برصاص الأخ؟"

أيها المحمود الباقى، آثارك فى باريس باقية راسخة. لقد أحببت فيها عبق الثقافة.. أتذكر كم كنت سعيدا وكم كان القاؤك رائعا فى أجمل قاعات السوربون ذات القبة المزركشة بالتاريخ الناطق الحاكى.

مررت بالأمس من ميدانك، "ميدان محمود درويش ــ شاعر من فلسطين ــ "فى قلب باريس الذى افتتح قبل ثلاثة أعوام بعبارتك الشهيرة نحب الحياة اذا ما استطعنا إليها سبيلا، ميدانك يجاور قلعة اللغة الفرنسية، الكوميدى فرانسيز. ومن ميدانك توجهت إلى الحى اللاتينى وأكلت وجبة فى مطعمنا المفضل والقيت السلام على فندق ماديسون ثم صعدت إلى ميدان الولايات المتحدة حيث كانت شقتك الصغيرة بجوار سفارة مصر التى سكنها الكونت دو روشفوكو.

تذكرت لقاءاتك فى بيت الشعر فى الحى السابع وحواراتك مع الشاعر جنوب الأفريقى بريتنباخ، وفى مطعم أمام مسرح الأوديون تذكرت انطباعاتك عن لقائك الأول مع صديقك الشاعر والمفكر ورئيس الوزراء الفرنسى السابق دومينيك دو فيلبان.. أتذكر ما قلته عنه، ومن المؤكد أنك لاحظت وجوده فى رحلتك الأخيرة إلى رام الله... هل تعرف ماذا قال عنك وعن لقائكما الأول؟

قال دو فيلبان:" كان اللقاء الأول مع محمود درويش فى صالونات الكى دورسيه "الخارجية الفرنسية "متناهية الفخامة، هناك حيث كان احتساء الشاى بالنعناع على حافة النافورة كافيا، فلا الديكورات الباهرة ولا الملائكة المنحوتة تستطيع إضافة شىء لهيبة هذا الرجل منتصب القامة فى اطار الباب. إن له ضوء نجمة حزينة.. ببعض الكلمات والقليل القليل من الحركات يشدد على امكانية عدم تجزئة السلام وعلى أن الأرض تبتغى حضور الآخر وقبوله."

●●●

كم كان يفاجئنا محمود درويش بمعرفته الواسعة بالأدب الفرنسى رغم أنه لم يتحدث الفرنسية سوى ما يلزم منها للحياة اليومية. كان شديد الإعجاب بالشاعر سان جون بيرس وبستيفان مالارميه، شاعر القرن التاسع عشر الذى أحدثت قصيدته «رمية الزهر لن تبطل المصادفة» ثورة فى عالم الشعر. عندما كتب محمود درويش آخر قصائده لاعب النرد، كتبها لأن النرد، هواية محمود درويش المفضلة، هو ايضا لدى علماء الرياضيات الاصل وراء نظرية الاحتمالات. لقد كتبها وهو يتردد بشأن اجراء العملية الجراحية التى أودت بحياته: أنا لاعب النرد أربح حينا وأخسر حينا.

كانت علاقة محمود بالموت الذى تحدث عنها طويلا فى قصائده علاقة طبيعية لأنه كان يعرف أن المعركة محسومة، وكم كان يسخر منى عندما يرى اهتمامى الزائد بصحتى ويقول: كلنا سنموت ما عداك، فأنت ستخلد.

كان فى زيارة لبيتي قبل احدى وثلاثين سنة ، كنت اعلم المشى لإبنى اسماعيل، وهو على اسم أخى الشهيد الذي رحل قبل ميلاد ابني بعدة أشهر ، .. كنت فى منتهى السعادة وأنا أراه يخطو خطوته الأولى، عندها قال لى محمود: نبيل لا تنزعج منى ولكن خطوة اسماعيل هى أول خطوة باتجاه القبر فنحن نتعلم المشى لنسير نحو قبورنا.