المصالحة الفلسطينية وتحديات المرحلة الجديدة "البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك"
تاريخ النشر : 2018-04-06 14:10

تمهيد

 

 لم يتوقف الشعب الفلسطيني العربي يوماً واحداً خلال القرن الماضي عن المقاومة والنضال للحفاظ على أرضه وحقوقه وتراثه، ولا بخل يوماً عن تقديم الدم من أجل الحرية والاستقلال والعودة لبلادهم وأرضهم وبناء دولة فلسطينية ذات سيادة، تتحمل مسؤولياتها في محيط انتمائها العربي والإسلامي للمساهمة في بناء شرق أوسط آمن ومستقر.

 الشعب الفلسطيني العربي الذي أدماه الاحتلال الصهيوني الاستيطاني، والذي يودع كل يوم شهداء، ويحنى على جرحى، ويحنّ لحرية الأسرى، ويتوق لعودة لاجئ.  هو نفسه الذي أنهكته ايضاً الانقسامات الفلسطينية، والاقتتال والتراشق بالكلام والرصاص، تلك الممارسات التي تمزّق آماله وأحلامه وجهوده في سبيل وضع نهاية لعذاباته الكثيرة والقاسية، والحفاظ على مستقبل أجيالهم وشبابهم. إن الانقسام الفلسطيني الذي تعددت وطالت أيامه وسنيه، بغض النظر عن أسبابه ومسؤوليته ومبرراته، هو نقيض النجاح، وجزء أساسي من حالة الضعف التي تغلّف جهد شعبنا النضالي على الأرض وعمله السياسي في أروقة الدبلوماسية والتفاوض.

يشهد العالم اليوم، ومنذ عدة سنوات مضت، تغيرات خطيرة في منطقة الشرق الأوسط ومحيطه العربي، تغيّرات سياسية ومجتمعية سوف تترك بصماتها على مجمل أو العديد من الكيانات السياسية في المنطقة. ولسوف تستمر في بلادنا الحروب الصغيرة، وتنافر القوميات.  والأديان والمذاهب، والهجرة والدمار، وتفسّخ الشعوب وانقسامها. كما سوف  يعاد تشكيل دول وكيانات سياسية بما يتوافق مع سيطرة وتفرّد القوى الأعظم،  ووفق الروابط والأسس  الجديدة التي ستفرض نفسها على أرض الواقع. سوف تشهد الفترة الحالية أن الدول الراسخة ذات القيادة الحاسمة والشعب الموحّد هي فقط القادرة على فرض وجودها واستمرارها. لن يكون في هذا العالم الجديد مكاناً لضعيف أو وطناً لشعب مقسّم. لقد كان من حسن الطالع لشعبنا الفلسطيني أن تقوم دولة على ذلك الغرار، مصر العربية، في جمع وتقريب وجهات نظر وتعاون واتفاق الأحزاب والفصائل الفلسطينية.      

لقد أيّدت شعوب وحكومات الدول العربية والإسلامية، والأغلبية الغالبة من شعوب وحكومات العالم، إشراق شمس الأمل في منتصف شهر سبتمبر/أيلول من عام 2017، نتيجة لمبادرة جديدة واعدة بعودة اللحمة إلى الأرض والشعب الفلسطيني. وفيما عدا الأطراف الفصائلية الفلسطينية التي اجتمعت وقررت واحتفلت فإن رد فعل الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده داخل وخارج الوطن الفلسطيني قد اكتسى  بتحفظ كبير ومفهوم، نتيجة لفشل كل محاولات التصالح خلال عشرة أعوام مضت. إن الحقيقة الكامنة وراء هذا التطور المذهل تشير بوضوح الى أن هذه المصالحة ليست من صنع الفصائل الفلسطينية المتصارعة ولا من تخطيطها، وعلى تلك الفصائل اليوم أن تتحلى بالشجاعة والحكمة، وأن تلجأ لقواعد ثابته وعادلة وممكنه، وربما جديدة، لاستعادة ثقة واهتمام ودعم الشعب الفلسطيني.

العمل الحقيقي أمام الفصائل  الفلسطينية  لم ولن ينتهي بمجرد إبداء رغبتهم في التوصل إلى صيغة مصالحة، بينما يشهد شعبنا والعالم تعثرهم في الاتفاق على البند الأول، والأسهل، في قائمة بنود طويلة وشائكة. إن التصريحات والإدانات والاتهامات التي رافقت الجهود لإعادة فتح وتيسير قواعد مرور المواطنين عبر معابر قطاع غزة، والتي تضمنت عبارات العار والخيانة والطعن في الوطنية التي صدرت من نفس المتحدثين الذين بشّروا وهللوا لاتفاق القاهرة، قد يكون بشير يأس في عودة للمنهج الذي اتصفت به علاقات الفصائل الفلسطينية إبّان العقد الماضي.  نحن اليوم لا زلنا على أول طريق التحدي الحقيقي الذي يتطلب من الجميع التوصل إلى أرضية عمل مشترك ثابته تؤهل القوى السياسية الفلسطينية الموحّدة من التعاون والتفاهم من أجل إيجاد حلول فاعلة  تقود إلى تحسين وتقوية الموقف السياسي والنضالي الفلسطيني على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي. إن أول المهمات في هذا السبيل هو ادراك  الحقائق التي يواجهها عملنا ونضالنا ومن ثم التعامل معها بالعقل والإدراك وليس بالشعارات والأماني.

إن الاستمرار في متاهة العمل الفصائلي المنفرد والمعادي لبعضه البعض قد أفقدنا أيضاً، كشعب فلسطيني، تقدير العالم وثقته ودعمه، تلك التي كسبناها جيلاً بعد جيل بنضالنا وتضحيات شعبنا. إن التوافق في الوسائل والأهداف في معارك الفترة القادمة، ليس فقط ضرورة للعمل الفلسطيني الداخلي، بل هو ضرورة لازمة أيضًا لعملنا العربي والإقليمي والدولي. إن الوضع الدولي اليوم يجعل شعبنا واثق بإيمان بأن شعوب العالم وغالبية دولها تريد وترغب في مساعدتنا، والاعتراف بحقوقنا، ولكن ذلك يتطلب أن نساعد نحن أنفسنا، ونرحم شعبنا من المزيد من خلافنا واقتتالنا والولوغ في دم بعضنا البعض.

تحكم اليوم  منطقة الشرق الأوسط حقائق جديدة ومعقّدة سوف تؤثر وتحدد  أبعاد الممكن والمستحيل لدول وشعوب المنطقة بما فيها نحن الفلسطينيين، حقائق واضحة وملموسة يجب أن نتجنّب عواقبها، حقائق واقعية نابعة من الماضي البعيد والقريب وتطوّر الأوضاع الإقليمية والدولية والخلل في توازن القوى الذاتية والتحالفات. إن التعامل مع حقائق الواقع هو جزء من استراتيجية النجاح وتحقيق الأهداف، وقد مارسناه نحن الفلسطينيون وقياداتنا السياسية مراراً وتكراراَ في مسيرتنا النضالية الشاقة، على كل الصعد الداخلية والخارجية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، واتفاقي "أوسلو" و"التهدئة" دليلان لا يقبلان الدحض عن ذلك.

 حقائق الواقع الفاسطيني والإقليمي والدولي

إن تجاهل حقائق الواقع الذي تعايشه المشاكل الدولية المختلفة سوف يقود للفشل في التوصل لحلول لتلك المشاكل والنزاعات، وتدفع بالتالي القوى العالمية الفاعلة بالتوافق على إبقاء الأمر الواقع لتلك القضايا. إن عدم التوصل إلى حلول في شبه الجزيرة الكورية منذ خمسينات القرن الماضي كرّس انفصال الكوريتين حتى وقتنا الحاضر، وكذلك فرض في بقاء انقسام جزيرة قبرص منذ بداية سبعينات القرن الماضي، واستمر تقسيم ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لمدة نصف قرن من الزمن، ولا زالت مأساة الشعب الفلسطيني تنزف دماً منذ أكثر من سبعة عقود، ولا حديث اليوم عن انفصال جزيرة تايبيه عن الجسد الصيني في منتصف القرن الماضي، كل هذه النزاعات التي فرضها الواقع وموازين القوى انتهت إلى قبول دولي بإبقاء الوضع الراهن على حاله، الحل الأسوأ لشعوب هذه الدول وقضاياها.  

تتمثل حقيقة الواقع الأولى في أن الموقف العام للقضية الفلسطينية منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً مضت، يبدو وكأنه وصل إلى طريق مسدود، ثلاثة عشر عاماً على استشهاد الرئيس ياسر عرفات لم تتمكّن فيها القيادات والفصائل والأحزاب التي تقود العمل السياسي والنضالي، من تحقيق نجاح واحد على كافة الصعد السياسية والنضالية والمجتمعية. ولم تتفق تلك القوى على أهداف لعملها ونضالها، ولا أضافت متراً مربعاَ من الأرض، ولا فازت بقرار واحد منصف من الأسرة الدولية، ولا أرست قضية بلادنا على أولويات برنامج للأمم المتحدة. لقد تراجع اهتمام الدول العربية والإسلامية بالقضية الفلسطينية، وتراجع دعم دول العالم لنا. لم تفلح تضحيات المقاومة ولا جهود السياسة من تحريك اهتمام وسياسات  دول عربية أو إسلامية أو أجنبية، ولا رفعت مستوى حياة وعمل مواطني الضفة الغربية أو أهالي قطاع غزة، ولا أمور معيشتهم وحقوقهم وأمنهم.

لقد حقق النضال الفلسطيني إنجازات كبيرة وصعبة في الفترة منذ نكبة عام 1948 وحتى إعادة اعتراف العالم، في عام 1994، بوجود وشرعية الشعب الفلسطيني على بعض الأرض الفلسطينية، وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في تجربة قلّ مثيلها في تاريخ الشعوب لبعث شعب ووطن وكيانية سياسية بعد شطبهم لأكثر من نصف قرن من قائمة دول وشعوب العالم، ولقد تم ذلك بسبب وحدة الشعب والقيادة، ووحدة الأهداف والمطالب، ووحدة التحالفات الإقليمية والدولية، وتواجد الجماعية الموحّدة المستندة لبرنامج سياسي فلسطيني مشترك هو ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، ذلك الميثاق الذي تمت الموافقة عليه من كافة الفصائل الفلسطينية المتواجدة في تلك الفترة على الساحة، الأمر الذي لم يستمر العمل به منذ بداية الاختلاف الفلسطيني في بداية تسعينات القرن الماضي، حيث استُبدل البرنامج الموحّد ببرامج حزبية متناقضة ومتصادمة في الاستراتيجية والعمل والأهداف، ليبدأ بعدها التراشق بالكلام والاتهام ومن ثم الصدام بالسلاح والرصاص الذي قاد للانقسام والتفرّق الحالي. 

 تتلخّص أسباب هذا التراجع بالفلسطينيين أنفسهم، قيادات الفصائل والأحزاب الفلسطينية المتناحرة والمتعادية التي قادت وتقود العمل الفلسطيني منذ الثلاثة عشر عاماً الماضية. إن أخطر نتائج الانقسام بين شطري الأرض والشعب تتمثّل في أن ذلك الانقسام سوف يؤدي إلى انقسامات جديدة، ليس بين حركتي فتح وحماس بل في داخل كل من الحركتين.  يتحتّم علينا الاعتراف بأن الفترة الوحيدة التي تم فيها تحقيق وحدة وجماعية القيادة الفلسطينية خلال مسيرتها الطويلة منذ عام 1917 وحتى وقتنا الحاضر، كانت في تلك السنوات التي توفرت فيها وحدة البرنامج  السياسي ووحدة القيادة والأهداف والعمل. لقد كلّمنا كفلسطينيين العالم كله في تلك الفترة، أصدقاء وأعداء، بصوت واحد لشعب واحد وبرنامج واحد، وتعاملنا مع العالم جميعه بقرار واحد وموقف واحد. خضنا بجمعنا معاركنا وتحدياتها، موحّدين ومتحدين، للعبور من عالم اللاجئين إلى واقع المواطنين، من مجموعة بشرية تراكض العالم لاستبدال حقها في بلدها بغمرنا بالمواد الغذائية ومسحوق العدس والحليب، إلي شعب سيد قادر، على أول طريق استرجاع أرضه وحُكم نفسه وصون حقوقه.

لماذا نجحنا بالأمس حيث فشلنا اليوم؟ لسبب بسيط ومقنع وهو أنه كان للقيادة الفلسطينية في تلك الفترة، على اختلاف فصائلها وحركاتها السياسية، برنامج عمل مشترك واحد هو ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وسوف نعود لتعزيز موقفنا فيما لو اتفقنا جميعاً على أي برنامج سياسي  مشترك يحوز على موافقة كافة  الفصائل الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني في مختلف أراضي الوطن والشتات. 

والحقيقة الثانية هي أن  المهمة الأكبر أمام شعبنا اليوم هي التمسّك بما تبقي لنا، ومعركتنا اليوم ليست لاسترداد فلسطين، لأننا ببساطة، ولأسباب ذاتية وإقليمية ودولية، لا نستطيع ذلك. إن معركتنا اليوم هي المحافظة على وحدة الشعب الفلسطيني، ودعم جهوده للصمود، والتمسّك بكل شبر مما لدينا من أرض فلسطينية، والتصدي للاستيطان وسلب الأرض وإقامة المستعمرات على أرضنا، الأمر الذي نستطيع ونقدر عليه. تقول الوثائق والحقائق الإسرائيلية التي تدعمها المصادر الدولية والفلسطينية أيضا، أن حوالي عشرين ألفا من سكان الضفة الغربية يغادرون سنويّاً بلادهم وأرضهم وبيوتهم للاستقرار في بلدان أخرى أو الموت غرقاً في سبيل ذلك. وأن غالبية شباب قطاع غزة يرغبون في الهجرة وترك حياتهم الصعبة واليائسة في بلدهم. لقد حققت الحركة الصهيونية أهدافها عام 1948 ليس بانتصارها علينا بالمعارك العسكرية، بل لأنها نجحت في طردنا من بلادنا، ولو لم تنجح إسرائيل في طردنا من بلادنا في عام 1948 لما كانت هناك اليوم دولة إسرائيل.

إن شعبنا هو جزء من شعوب هذا العالم وهو شريك في تاريخ تجارب تلك الشعوب وخاضع مثلها لأسبابها ومجراها ونتائجها، ونحن لسنا أول شعب يواجه احتلال ولا آخر من تواجهه مثل هذه الظروف والصعوبات، ولا نحن أول الشعوب التي اكتوت بخلافات وصدامات وحروب داخلية. ولكن التاريخ والواقع يقول لنا بصراحة أنه لم ينتصر شعب منقسم ومتعدد الأحزاب والقوى المتنافرة الأهداف والبرامج مهما عظمت تضحياته. وإذا نظرنا خلفنا لسنوات كفاح الشعوب التي ناضلت من أجل التوصل لاستقلالها والتخلص من الاحتلال لأدركنا سبب نجاحها وازدهارها. هل استقلت وتحررت الدول العربية المحيطة بنا ودول العالم الثالث التي ننتمي إليها بقيادات وقوى متعددة ومتعادية؟ وكيف توصلت كل تلك الدول لعمل جماعي متناسق بين قوى وطنية متعددة الرؤى والاتجاهات؟ هل بالإصرار على مواقفها وقناعاتها ورفض الآخر وما يؤمن به؟ هل بالاتهامات المتبادلة والتشكيك والتخوين؟ أم بالتوصل لنقاط الاتفاق، والاتفاق على نبذ الخلافات، والعمل يداَ بيد من  أجل تحقيق تقدم وتغيير لواقع مغرق في البؤس والألم.

الحقيقة الثالثة تفرض علينا اليوم أن نتحرّى عوامل قوتنا الحقيقية كفلسطينيين والتي تدركها إسرائيل أكثر من إدراك الكثير منّا. إن إسرائيل ليست قلقة من حركة فتح ولا حركة حماس، ولا تهاب اسلحتهما ولا تهديدهما، وهي تعرف أننا مهتمون ومنشغلون بخلافاتنا أكثر من اهتمامنا بحربها ومقاومتها، وتبدو سعيدة بذلك. إن عامل القوة الفلسطينية الأساسي ليس متعلقاً بقدراتنا العسكرية، لأن إسرائيل قادرة على  مواجهتها والتعامل معها كما هو الحال الذي نعيشه اليوم. علينا أن ندرك ما أدركه قبلنا الرئيس مانديلا في جنوب أفريقيا إبّان صراعه مع النظام العنصري، وأدركه المهاتما غاندي في الهند أثناء مقاومته للاستعمار البريطاني، وما أدركه قادة مصر وسوريا والأردن في سبعينات القرن الماضي، والذي أدركه الرئيس المؤسس ياسر عرفات بعد إثبات الشعب الفلسطيني وجوده وحقه، وما أدركه قادة حركة حماس بعد جولات باسلة وتضحيات عزيزة، جميع هؤلاء القادة قد أدركوا أن الاقتصار بالعمل على ساحة العمل العسكري وحده هو خيار المستعمر والمستوطن والمحتل وليس الوسيلة الناجعة للضحية  والمستضعف.

إن عمل حركات التحرير العالمية على الأرض لم يبدأ بالتفاوض والمبادرات، ولكنه ابتدأ بالسلاح والحرب والدم والموت من أجل تثبيت عناصر القوة وإرغام المستعمر على دفع ثمن الاحتلال. ولكن توصل هذه الحركات لحلول واتفاقات مع مستعمريها قد تم ويتم دائماُ باتفاق الأطراف على التفاوض المباشر أو غير المباشر،  وهكذا فعلنا نحن. لم نعد في حاجة كفلسطينيين لإثبات غضبنا ورفضنا، فتاريخنا مفعم ينطق بتصدّينا بصدورنا المشرعة للممارسات الوحشية ضد شعبنا، وتضحياتنا بدماء عزيزة وغالية يعرفها العالم ويشعر بها ويقدّرها ويتعاطف معها. سبعون عاماً مضمّخة  بدمائنا وجروحنا وشهدائنا ومعتقلينا أوصلتنا اليوم لقلب وعقل العالم بأسره.

العامل الأساسي للقوة الفلسطينية في صراعها مع قوى الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، الذي أثار قلق القيادات الإسرائيلية المتوالية منذ ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، وأصبح أهم الأهداف الإسرائيلية في حرب إنشائها وحروبها التالية ولا زال حتى الوقت الحاضر، هو بقاء الفلسطينيين على أرضهم، وأن يكون لهم صيغة كيانية سياسية منظّمة لحكمهم وإدارة شؤونهم. ومن الطبيعي أن يكون لنفس الموضوع الذي يثير قلق الإسرائيليين أولوية في استراتيجية أية قيادة فلسطينية. إن الوجود الفلسطيني على أي جزء من أرض فلسطين يمثّل عامل القوة الفلسطيني الأخطر والأكبر. إن هذا العامل هو وحده الأمل لأي انتصار حقيقي في المستقبل وهو الذي يقود لإمكانية تحقيق الأهداف الشرعية للشعب الفلسطيني. الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية هو عامل القوة الأكبر والأهم لدى الفلسطينيين سواء في أراضي 1967 أو أراضي 1948،.

إن دعم التواجد والوجود الفلسطيني على ما نسيطر عليه اليوم من أرض فلسطين هو السبيل الوحيد الذي سيمكننا من استكمال تحقيق كافة أهدافنا الشرعية في المستقبل.  لقد كان تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 خطوة متقدمة عن سابقتها حكومة عموم فلسطين، التي اقتصر الاعتراف بها على عدة دول عربية وإسلامية.  بعد سنوات قليلة من إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وبقيادة فلسطينية فاعلة وموحّدة، حققت منظمة التحرير الفلسطينية بالدم والشهداء الحصول على  الاعتراف العربي والدولي. شكّل الاعتراف العربي ومن ثم الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية مجرد إنجاز سياسي معنوي للفلسطينيين حيث أنه لم يكن لم يكن مرتكزاً على أرض فلسطينية بينما حقق إنشاء السلطة الوطنية المستقلة عام 1994 الوجود السياسي الفلسطيني الملموس على الأرض، واكتسب اعتراف دول العالم بأسرها بالدولة الفلسطينية بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل، ربما ليس على كل الأرض التي يريدها الفلسطينيون، أو السيادة الكاملة التي يطمح لها ويستحقها الفلسطينيون،  ولكنها مثّلت في حقيقتها أول إنجاز في تاريخ منطقة الشرق الأوسط لوجود كيان فلسطيني سياسي على جزء من الكل الذي يعتبره الفلسطينيون بلادهم.

ترتبط أهمية وأولوية عامل دعم الوجود الفلسطيني الحالي على أرضه بشكل لصيق وثابت بوجود كيانية سياسية تمثّل وتعكس صورة واضحة لمضمون معنى الدولة والشعب الفلسطيني. لقد كان طمس هذا العامل هو هدف المشروع الصهيوني الإسرائيلي منذ البداية، والذي عبّرت عنه رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا ماير في سؤالها الاستفساري المريب حين قالت "هل هناك شعب فلسطيني؟ أين هو الشعب الفلسطيني"، كانت رئيسة الوزراء تدرك تماماً أن هناك مئات الألاف من الفلسطينيين في الأراضي التي احتلتها إسرائيل وفي الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات اللاجئين في البلدان العربية المجاورة، ولكنها قصدت أنه ليس لهم دولة أو دويلة أو كيانية سياسية معترف بها دولياً، توحّدهم وترعاهم وتتكلم باسمهم. الأمر الذي أوضحته بجلاء بعد عقود من الزمن وزيرة القضاء الإسرائيلية إيليت شاكيد بقولها "لا يوجد شيء اسمه دولة فلسطين.. ولن تكون"

لقد تبيّن هذا الهدف الخبيث بجلاء في ممارسات إسرائيل منذ إنشائها لسياسات التهجير والهدم والطرد وغرس المستوطنات والمستوطنين في أرضنا الفلسطينية، وظهرت حقائق نواياها بعد تأكدها من عزم الرئيس الراحل عرفات على تحويل "السلطة الوطنية الفلسطينية" التي تضمّنها اتفاق أوسلو إلى "دولة فلسطينية". كانت ولا زالت إسرائيل تعتبر أن السلطة الوطنية الفلسطينية والجهود التي تتم لإرسائها أساسًا للدولة الفلسطينية، هي عدوها الأول. ولقد صعّدت إسرائيل مواجهتها للانتفاضة الفلسطينية في السنوات الأولى من هذا القرن إلى حرب تدميرية شاملة ضد السلطة الوطنية الوليدة ورئيسها ومؤسساتها وأجهزتها الشرطية والأمنية، وأكملت إسرائيل تحضير المسرح لقسمة الشعب والأرض الفلسطينية، وبناء جدار الفصل الذي كان يهدف لمنع أية إمكانية مستقبلية لإعادة وحدة الأرض والشعب. إن إسرائيل لا تخشى  ولا تمانع من أن يكون للفلسطينيين حكم ذاتي منقسم، ولا يرعبها تواجد قطعة مما تبقّى من أرض بلادنا تحت حكم حركة فتح وقطعة أخرى تحت سيطرة حركة حماس، لأن هذا الوضع، هو البديل المؤكد لما تخافه وتخشاه إسرائيل وهو الدولة أو الكيانية الفلسطينية التي تمثّل وجود ووحدة وآمال الفلسطينيين الموحدين في شعب واحد على أرض موحّدة.

الحقيقة الرابعة تتعلق بماهية وحقيقة الخلاف بين الفصائل والأحزاب الفلسطينية المعاصرة؟ وما هي أهميتها؟  وإذا كانت كما قيل لنا في حينه من أنها تمثّل مبادئ الحياة والموت التي لا يمكن التنازل عنها ولا التفريط بها، فلماذا يتم التخلي عنها اليوم بهذه السرعة والسهولة؟

لقد استغرق حركة فتح ثلاثين عاماً لقبول التفاوض مع إسرائيل والتوصل إلى اتفاق اسمه "اتفاق أوسلو". حقق ذلك الاتفاق المُختلف عليه أرضية تمكّن الفلسطينيون فيها من إقامة كيانية سياسية، كما نالوا معها اعتراف العالم بوجودهم السياسي. كان ذلك بالنسبة للقيادة الفلسطينية في ذلك الوقت نقطة بداية النضال لتحسين شروط الاتفاق على الأرض. لم تستغرق حركة حماس تلك السنوات الطويلة التي انتظرتها حركة فتح لقبول التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وتوصلت لاتفاق مع إسرائيل بوساطة غربية اسمه "اتفاق التهدئة". من ثم  أعلنت مؤخراً عن استعدادها من حيث المبدأ قبول لدولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بعد حوالي عشر سنوات فقط من تسلمها مسؤولية القيادة في قطاع غزة. وأعلنت حركة حماس ايضاً عن تفكيرها في الانضمام للمجلس الوطني الفلسطيني، أعلى سلطة تشريعية في منظمة التحرير الفلسطينية  التي لم تعترف بها حركة حماس حتى الآن. ورغم ذلك فقد فشلت الحركتين الرائدتين لأكثر من ثلاثين عاماً على ظهور حركة حماس على ساحة النضال الفلسطيني، من التوصل لاتفاق بينهما.

في تغيّر جذري لذلك الوضع الذي استمر حوالي ثلاثة عقود طويلة، تشهد الساحة الفلسطينية في المرحلة الحالية تطوّر شجاع وإيجابي وجدير بالاهتمام والتقدير أطلقته حركة حماس من خلال قراراتها الجريئة والمسؤولة حول التوصل إلى مصالحة والتفكير في الانضمام إلى عضوية منظمة التحرير الفلسطينية  والمشاركة في المجلس الوطني الفلسطيني، وإعلانها بأنها تدرس الموافقة على قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس العربية، وتهدئة علاقاتها مع الدول الغربية والأسرة الدولية، وتثبيت ودعم تحالفاتها العربية والإقليمية، واستعدادها للتعاون في سبيل تحسين الأحوال في قطاع غزة، شكّلت هذه المبادرة بداية وليس نهاية لحركة حماس، كما أن خطوات الاستجابة والتجاوب المسؤولة من قبل حركة فتح كانت ايضاً بداية جديدة لحركة فتح المتفتحة لمتطلبات الساحة والزمن. إن نبذ الانقسام والصدام هو في مصلحة ومستقبل الحركتين الفلسطينيتين وليس نهاية لهما أو لأحدهما.

والحقيقة الخامسة هي إدراك الغالبية العظمى من الفلسطينيين في الوقت الحالي، وبعد تجربة الانقسام المؤلمة، بأن الشعوب لا يمكن أن تنتصر إلاّ بتوحد القوى والقيادات والأهداف تجاه الاستعمار والاستيطان والبطش، وتاريخ شعوب العالم واضح في هذا الشأن ولا يقبل تأويل أو تحريف. لم يتم تحرير شعب من شعوب العالم إلاّ باتفاق أحزابه وفصائله على "برنامج سياسي مشترك" يتم وفقاَ لبنوده وأهدافه المتفق عليها طوعاً، النضال المقاوم المسلّح وكذلك الجهد السياسي والتفاوضي الدبلوماسي. إن التوصل للبرنامج السياسي المشترك لا يتم تالياً لتحقيق "المصالحة" أو "حكومات التوافق" اللتان لا يمكن تحقيق نجاح عملهما وفاعليتهما إلاّ بالتوصل مسبقاً لبرنامج سياسي فلسطيني مشترك، إن شعبنا لم ينس بعد فشل حكومتي توافق خلال الفترة الماضية  لهذا السبب بالذات.

 لماذا لم تنجح أي محاولة خلال العقد الماضي في إطار مفهوم المصالحة والتوافق والشراكة من تحقيق ما يريده الشعب الفلسطيني وتستوجبه ظروف الصمود والنجاح؟، والإجابة تتلخص في أن حركتي فتح وحماس كانتا مصرّتان على التمسك كلّ ببرنامجها السياسي، هذين البرنامجين اللذين ليسا فقط مختلفين في كافة الأوجه ولكنهما أيضًا متعارضين ومتصادمين ومعاديين لبعضهما أيضًا.

إن  حتمية التوصل لـ "برنامج سياسي مشترك" تفرض نفسها كأولوية لا بد منها، قبل تشكيل حكومة وفاق أو اتفاق، وقبل الذهاب لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية، وقبل العودة لمفاوضات مع إسرائيل أو الخضوع لمفاوضات إقليمية كما يبدو في الأفق.  نحن اليوم بالقيادة الجديدة والجريئة لحركة حماس، والاستجابة المسؤولة من الرئيس عباس وحركة فتح، أقرب ما نكون للتوصل لبرنامج سياسي بين كافة التنظيمات والفصائل الفلسطينية.

والحقيقة السادسة هي أننا كفلسطينيين وفصائل سياسية متعددة لن نُعفى من المشاركة، خياراً أو غصباً، من التفاوض مع إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر. لم يعد هناك وجود اليوم لاتفاقات سلام منفرد بين دولتين متعاديتين، على غرار اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. السيطرة اليوم والاتفاقات هي اختصاص احتكاري لقيادة التحالفات الدولية والإقليمية، وتجميع  القوة الموحّدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، لعدد كبير من دول العالم فيما يسمى اليوم بالتوافق الدولي أو التحالفات الدولية، على غرار ما حصل في حرب تحرير الكويت، وتقسيم يوغسلافيا السابقة، وتغيير نظام الحكم في جنوب أفريقيا، وإسقاط نظام الرئيس صدّام حسين والذي تلاه إسقاط نظام العقيد معمّر القذافي. ولو قامت بعض القوى العظمى في حينه بدعم أحد النظامين العراقي أو الليبي، كما تدعم اليوم روسيا النظام السوري، لما كان قد سقط. يجب علينا أن نتذكر دائماً أن شعبنا الفلسطيني كان ضحية مبكرة لمفهوم التوافق الدولي لإنشاء دولة إسرائيل بعيد الحرب العالمية الثانية.

الاتصالات والمفاوضات والاتفاقات لا تفرض حقًا ولا تثبّت تنازلاً لأن ذلك مرتبط بالحتم بتغيّر موازين القوى التي هي في استطاعة الشعوب الحيّة والقادة ذوي الرؤى والإدراك والتصميم وإعمال العقل. إنما الذي يثبّت التنازلات ويقوّيها ويفرض واقعًا من العجز والتخبط هو ضعف وتفرّق وتناحر القيادات والفصائل وضياع الأولويات والتمسك بالرأي والسلطة كما نرى في بلادنا اليوم.

الحقيقة السابعة والأخيرة هي عن تطوّر النظام السياسي والعسكري العالمي، هذا النظام  الذي يتجه نحو العودة مرة أخرى لعالم القطبين، مع اختلاف أساسي عن عالم القطبين القديم الذي استمر معظم سنوات القرن العشرين. عالم القطبين الذي نشهد بوادره اليوم في سوريا والعراق وليبيا وإيران وفنزويلا وكوبا والخليج العربي وفلسطين، والذي سيتبلور ويتطور خلال السنوات القادمة في نفس الاتجاه، هو عالم تعاون القطبين الأعظم بديلاً عن عالم المواجهة المباشرة وتصارع القطبين القديم.

على العكس من إشارات تبلور ريادة الدولتين الأعظم فإن قوى الدول الكبرى في العالم تواجه خيارات أو تطورات تحد من قدراتها أو تتفق مع خياراتها في التعامل مع مشاكل العالم الفسيح. فلقد اختارت الصين تطوير قوتها الاقتصادية الهائلة وتنشيط مشاركتها السياسية الدولية والمحافظة على تأسيس علاقات نشطة مع مختلف دول العالم بديلاً عن استعمال قواها العسكرية  للحفاظ على مرتبتها الثالثة في تقييم القوى العالمية. ويشهد الاتحاد الأوروبي انشقاقات كبيرة وتضارب في المصالح والتحالفات تؤثر سلباً على أي نشاط مشترك أو منفرد للدول الأوروبية، جاد أو ذو أثر في السياسات الدولية. وتواجه دول الخليج العربي مشاكل ومعارك فيما بينها، ويتقلّص يوميّاً نفوذ وأحلام دول إقليمية في التوسع والسيطرة، وتعتمد سياساتها اليوم على مواجهة التغيّرات في مساحات أراضيها الوطنية.

تفرض هذه الحقائق المتعلقة بالسياسات الدولية وتأثيرها نفسها، سلباً أو ايجاباً، على فاعلية عملنا المقاوم والسياسي لنيل حقوقنا الوطنية الشرعية. تقول تلك الحقائق أن هناك توافق دولي يضم الجزء الأكبر من دول العالم بشكل أو آخر، يؤيد بقاء دولة إسرائيل وسلامتها، ويدعم ذلك بكافة السبل التي تمنع تهديدها أو يدعو لإزالتها. إن معظم  دول العالم ايضاً  تتمتع بعلاقات قوية، سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، مع إسرائيل. أمّا  الرفض والتهديد بين الدول  فلن يتعدى صفحات الصحف وأثير الإذاعات والبرامج التلفزيونية. بالمقابل فإن حقائق الواقع الدولي تبيّن أيضاً أن الغالبية العظمى من دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول أوروبا، تدعم أو توافق على قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، دولة مستقلة وذات سيادة ومتصلة وقابله للحياة، كما تؤيد أن تكون القدس العربية عاصمة لها، كما أن هناك دعم دولي شامل أيضاً يؤيد من حيث المبدأ عدم شرعية المستوطنات الاستيطانية على أراضي الدولة الفلسطينية.  أمام قيادتنا الموحّدة القادمة خيار واضح  بين التناغم مع العمل مع الشرعية والتأييد الدولي أو الوقوع مرة أخرى ضحية لهذا التحالف الدولي الجارف.

 تبدو السمة العامة في التوجه الدولي نحو التعامل مع القضية الفلسطينية واضحة ومتبلورة في أن أي حل للمشكلة الفلسطينية سيكون  طويل الأمد، متدرجا وتراكميّاً وإقليميّاً، كما سيكون هذا الحل خاضعاً لمفهوم حل الدولتين. إن هذه العوامل، الإقليمية والدولية، تحتّم على القيادة الفلسطينية الجديدة العاملة وفق برنامج سياسي مشترك أن تستفيد من الشرعية الدولية وتؤيد قراراتها المتناسقة مع حقوقنا الشرعية الثابتة. كما يتحتم على القيادة الموحّدة لشعبنا العمل نحو علاقات سلمية وهادئة ومتوازنة مع الدول العربية والإسلامية ودول منطقة الشرق الأوسط والعالم. حان الوقت الذي يجب أن نخرج فيه من التحالفات العربية المتنازعة، والتحالفات الإقليمية ذات الأهداف المتضاربة إلى علاقات متعادلة وطبيعية مع كافة الدول العربية بالذات، تتعلق أساساً وعلى وجه التحديد بالمصلحة الفلسطينية.

خلال التاريخ الطويل والدامي لمسيرة الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقه المشروع في بلاده وحريته، اقتصرت مشاركة قياداتنا في الجهود الدولية على قبول أو رفض مبادرات سياسية قدمتها دول أخرى أو الأمم المتحدة، أو شخصيات ومنظمات وجمعيات و معاهد بحثية. لم تتقدم القيادة السياسية الفلسطينية بمبادرة أو اقتراح أو خطة تتضمّن رؤيتها، وشروطها وبرنامجها السياسي للعالم أو للأمم المتحدة أو  الجامعة العربية أو حتى  للفلسطينيين أنفسهم. وقد حان الوقت ليسمع العالم منّا وليس عنّا، حان الوقت لنقول للعالم ماذا نريد، ما الذي نقبله وما الذي نرفضه، بصوت واحد وبرنامج سياسي واحد، وشعب واحد يعيش على جزء من أرض فلسطينية واحدة. نقول للعالم أننا نريد أن نعطى السلام فرصة ولكن ليس على حساب حقوقنا الشرعية.

نقول للعالم أن شعبنا الفلسطيني الموحّد القيادة والأهداف قد عقد العزم على رفع الظلم والقتل والسجن والهدم والطرد ومصادرة الأراضي وسياسات العزل والحصار والحواجز التي مارستها الحكومات الإسرائيلية على شعبنا الصغير والمسالم خلال عقود طويلة. نقول لشعوب وحكومات دول العالم أن شعبنا مصمم لا زال على تحقيق أهدافه الشرعية في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، مسالمة ما سلمت من تهديدات وانتهاكات، عاملة مع شقيقاتها العرب لتطوير مستقبل زاهر وآمن لوجودها وشعوبها ومصالحها، منفتحة على العالم بأسره لخير البشر والبشرية. نخاطب العالم حول حقوقنا الشرعية في التصدي للقرصنة الإسرائيلية الاستيطانية في نهب أرضنا وإقامة المستوطنات والقواعد العسكرية خلافاَ لكل المعايير والقوانين الدولية، وأن شعبنا لن يقبل ولو أٌفني عن بكرة أبيه وجود مستوطنة إسرائيلية واحدة على أرضنا الفلسطينية. نتحدث للعالم عن اللاجئين وعودتهم، ومقدساتنا وحمايتها، وعن مياهنا وصيانتها من النهب، وعن حقنا في حرية التنقل إلى الدول المجاورة، ونشتكي للعالم وضمير الشعوب من عذاب أسرانا ومعتقلينا وجرحانا.

نقول للعالم جميعه مباشرة بان شعبنا المُعذب المنهك يريد أن يعطي السلام فرصة أخيرة، فرصة ترعى فيها الأمم المتحدة وفق مبادئ العدل والشرعية الدولية والإنسانية مفاوضات محددة الأساس والزمن والمدة،  لتحقيق سلام عادل ودائم يعيد للفلسطينيين حقوقهم الشرعية. 

 لماذا "البرنامج الفلسطيني السياسي المشترك"، ولماذا الآن؟

لقد تابع الشعب الفلسطيني بترقب وأمل منذ غياب الرئيس الشهيد ياسر عرفات في عام 2004 المحاولات التي تمّت منذ ذلك التاريخ للتوصل لعمل مشترك أوالعودة عن الانفصال، والتي فشلت جميعها لتحقيق أحد الهدفين. اتفاق عام 2005 في ضاحية 6 أكتوبر قرب العاصمة المصرية كان فقط لتمرير الانتخابات التشريعية الفلسطينية بضغوط عالمية ورغبة عارمة من حركة حماس، ونجح في ذلك تماماً. حكومة حماس الأولى التي اقتصرت عليها فقط تركت الساحة لحكومة التوافق الأولى التي كان أهم أنجازتها الإنقسام الفلسطيني. اتفاق عام 2011 الذي يتكرر الحديث عنه حاليّاً قد تمت صياغة بنوده بشكل شامل يسمح للبدء في إجراءات تطوير وتفعيل المؤسسات الفلسطينية السياسية والمجتمعية فيما لو سبق ذلك اتفاق على مبادئ لبرنامج سياسي مشترك.  المحاولة الأخيرة لحكومة مصالحة فلسطينية المتمثلة  بحكومة التوافق الثانية والحالية لم تضف تقدماُ ملموساُ في مهمتها واستغرقت سنوات عمرها، فيما عدا منذ الشهر الماضي  فقط، في خدمة مسؤليات الحكم في الضفة الغربية على وجه التحديد. يبدو فقط ان اتفاق المصالحة الأخير هو الوحيد الذي أعطى الفلسطينيين قبساً من الأمل في إمكانية النجاح.

ساهم مناخ الاحتقان والتوتر الذي ساد الساحة الفلسطينية في العقد الأخير في عدم تحقيق نجاح يسمح ببدء نقاش حول الخروج من الأزمة الخانقة للعمل الفلسطيني. ولكن السبب الحقيقي لفشل كافة تلك المحاولات التي لم يكتب لها النجاح هي تجاهل الوسيلة الوحيدة التي تفتح الطريق أمام التطوير والتفعيل والعمل المشترك، الوسيلة التي تهدف لتحقيق أولاً وقبل كل شيئ إتفاق حول أسس "برنامج سياسي فلسطيني مشترك". ذلك أن القفز لتطوير لتفعيل وتوحيد العمل السياسي والمجتمعي الفلسطيني قبل التوصل لبرنامج سياسي مشترك قد أدخلنا في متاهة لا خروج منها ولا حل لها.  يبدو اليوم أن اتفاق المصالحة الأخير يجابه بعض التأخير في تنفيذه، وتتزايد كل يوم التصريحات التي تحمل الانتقادات والاتهامات بين الطرفين المتنازعين، ويتخوف الكثير من شعبنا أن هذا قد يذهب باتفاق المصالحة الجديد إلى نفس مصير اتفاقات المصالحة والتفاهم السابقة في عامي 2005 و 2011.

تكتسب مهمة إعداد مشروع برنامج فلسطيني سياسي مشترك أهمية قصوى سابقة لأي جهد نحو التوصل لاتفاق المصالحة الفلسطينية. ذلك لأن مشروع البرنامج السياسي هو العمود الفقري لمعالجة كافة القضايا الصعبة، الداخلية والخارجية، التي سوف تواجه جهود تحقيق مصالحة وبرامج عمل حقيقية وممكنة. ويتحتم أن تكون أولوية التوصل لبرنامج سياسي مشترك سابقة لإعادة ترتيب وأسس البعد الإداري والاجتماعي والأمني المنشود، كما أن لها أولوية في موضوع تشكيل حكومة توافق أو حكومة حيادية، وهي أيضاً أساس نجاح انتخابات رئاسية وتشريعية، ويجب أن تكون سابقة لأي اتصالات دولية أو مفاوضات إقليمية، مباشرة أو غير مباشرة.

الشق الأول من مضمون اتفاق المصالحة يتعلق على وجه التحديد بترتيبات الوضع الفلسطيني الداخلي، وهذه مهمة الفلسطينيين أنفسهم. هذا الشق يتضمن الاتفاق على تسليم السلطة وتوحيدها، وفتح معابر قطاع غزة ورفع ا لحصار عن أهلها، وتفعيل أسباب الحياة فيما يتعلق بالماء والكهرباء والوقود، والتعامل مع مشكلة الموظفين. إن كل هذه المشاكل تتعلق بنا وبتعاوننا ورغبتنا في تحسين ظروف الحياة لشعبنا الذي عانى لسنوات طويلة من الكبت والإهمال. المهمة الأكثر صعوبة، هي الشق الثاني من مضمون البرنامج المشترك، وهو توحيد موقفنا ومطالبنا ومقاومتنا لإدارة الصراع مع إسرائيل بفاعلية وتأثير، ومخاطبة العالم بصوت واحد، ورفع مستوى تحالفاتنا الإقليمية، وقد تكون  الصعوبة المتوقعة حول التوصل لاتفاق فلسطيني مشترك حول هذا الشق ناتجة عن كون معظم متطلباته قد أصبحت في المرحلة الحالية شروط إسرائيلية وبعضها دولية أيضاً.

لقد حان الوقت للاعتراف بأن السبب الأساسي لفشل الاتفاقات والمصالحات الفلسطينية هو تمسّك كل من حركة فتح وحركة حماس كلُ ببرنامجه السياسي، وإصرار كل منهما على الانتماء والولاء للتحالفات الإقليمية والدولية المتعادية والمتصادمة، وأن أولويات واهتمامات الطرفين بعملية المصالحة مختلفة ومتضاربة. السلطة الوطنية مهتمة، فيما يتعلق باتفاق المصالحة، ببسط سلطتها على قطاع غزة وبالبعد السياسي وإدارة الصراع مع إسرائيل  استعداداً لاحتمال مخططات القوى الأعظم لجولة مفاوضات جديدة. بينما ترى حركة حماس الأهمية القصوى للاتفاق تكمن في حل مشاكل قطاع غزة المالية والمعيشية وتحميل السلطة الوطنية الأعباء التي يعاني منها سكان قطاع غزة والتي تجاوزت إمكانيات حركة حماس خاصة بعد التطورات الإقليمية والخليجية. من ناحية أخرى تبدو حماس غير مستعجلة لمناقشة البعد السياسي الخارجي لاتفاق المصالحة لأنها تنتمي سياسياً، منذ إنشائها،  للفكرالمعارض للمفاوضات. لقد علمتنا تجارب الماضي  إن حماية ودعم أي حركة سياسية فلسطينية، بما فيها حركتي فتح وحماس، تتأتى من فلسطين وشعبها ولا تتأتى من دول مجاورة قريبة أو بعيدة.

تريد إسرائيل، في تنفيذ سياساتها الاستيطانية  التوسعية، الاعتماد على شروط تبدو شرعية أمام دول العالم، ويجب علينا تفنيد تلك الشروط قبل طرحها من إسرائيل أو أية دولة أخرى. تطالب إسرائيل حركة حماس بشروط تعجيزية عديدة يسقط منطقها وشرعيتها بانضمام حركة حماس لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أن اتفاق أوسلو قد تم بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية ولم يشترط على أي حزب فلسطيني أو إسرائيلي التقدم بمثل هذا التعهد. ولكن ربما تتم المطالبة مستقبلاً بتطبيق هذه الشروط الإسرائيلية على رئيس دولة فلسطين القادم في حالة فوز حركة حماس بالانتخابات الرئاسية الفلسطينية. 

أمّا موضوع نزع السلاح  فهو موضوع قابل للنقاش، ليس بين الطرفين الفلسطينيين بل بينهما مجتمعين في مواجهة إسرائيل والشرعية الدولية. فإذا كان أمن إسرائيل ضرورة لحياة طبيعية وآمنه للإسرائيليين ويوقف تهديد الفلسطينيين لها، فإن أمن الفلسطينيين أيضاً وحياتهم الآمنة يتطلب وقف تهديد إسرائيل لهم. لأن هناك تهديد إسرائيلي ملموس وواقعي يختلف عن التهديد الفلسطيني المحتَمل. إن حصار غزة والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة لها وآلاف الشهداء والجرحى والمهجّرين وتهديم المدن والقري ليس تهديداً محتملاً ولكنه تهديد واقعي ملموس. وكذلك رفض إعادة القدس العربية ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية وبناء المستوطنات وزرع الحواجز العسكرية على طرقها وآلاف الأسرى والمعتقلين، كلها  ليست تهديدات محتمله بل تهديدات واقعية ملموسة تستنزف دماء وأرض وحرية الفلسطينيين في كل يوم. الفلسطينيون لا يحتاجون لأسلحة إلاّ للتصدي للتهديدات الإسرائيلية، ومتى انتهت هذه التهديدات سوف لا يكون هناك مشكلة لتخلى الفلسطينيين عن سلاحهم. 

سوف تستمر سياسة إسرائيل التوسعية في المرحلة القادمة  ضد الشعب الفلسطيني وأهدافه الشرعية، وكذلك سياستها الاستيطانية ومصادرة الأرض، والتخلي عن مسؤولياتها التي تبنّتها قرارات الأمم المتحدة واتفاق أوسلو، وإفشال عملية المصالحة الوطنية الفلسطينية، عن طريق استراتيجية جديدة تعتمد على  افتعال تهديدات ومعارك  مع حماس من خلال الشروط التعجيزية التي تتوالى إسرائيل في إطلاقها وتصعيدها كل يوم.  يجب على كل الفلسطينيين والفصائل والأحزاب الفلسطينية حماية حركة حماس والوقوف بجانبها في مواجهة التفرّد الإسرائيلي المخطط له ضدها.

إن القرارات والإشارات الأخيرة الشجاعة لحركة حماس في بلورة أهدافها وتطلعاتها وأهمها رغبتها بالانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية والمشاركة في مجلسها الوطني ومؤسساتها السياسية والإدارية، هي جواز السفر المقبول والمرحب به من الأسرة الدولية والتي لا تستطيع إسرائيل تجاهله أو إنكاره وهي التي ارتبطت مع منظمة التحرير الفلسطينية  باتفاقات شهدها وأيدها ووثقّها المجتمع الدولي بأسره. تحتاج حركة حماس اليوم تأييد "الكل" الفلسطيني، لأننا جميعاً ربما في فرصة أخيرة، مطالبون بالإجابة على أسئلة صعبة ومؤلمة تحتاج لمسؤولية وشجاعة قيادة شعبنا الجديدة الموحّدة.  

سوف يحقق "البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك" المبكر، الدخول الآمن لحركة حماس إلى حضن الشرعية الفلسطينية المقبولة والمدعومة من غالبية دول العالم. إن التوصل لبرنامج سياسي فلسطيني مشترك يتضمن انضمام حركة حماس لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتزامها بميثاق المنظمة وأهدافه ووسائلها واتفاقاتها، سوف يصعّب مهام إسرائيل، ويجبّ شروطها  المجحفة. إن تحقيق كل ذلك مشروط بالتوصل إلى "برنامج سياسي فلسطيني مشترك" قبل بدء المفاوضات أو القتال بيننا وبين إسرائيل.

ليس من الضروري أن تتوصل الفصائل والأحزاب الفلسطينية في اجتماعهم القادم في القاهرة إلى برنامج سياسي مشترك جامع ومانع لكل التفاصيل والمواضيع. بل المطلوب والمُنتظر من قبل شعبنا هو خطوة ملموسة متقدمة على طريق تحقيق كامل لمصالحة نهائية. خطوة مبادئ محددة ومختصرة تعني الكثير ويمكن البناء عليها وتطويرها، خطوة على غرار مشروع "البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك" المرفق.

 مشــــروع

البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك

الصادر عن مؤتمر القاهرة في 21/11/2017

 

اولاً: تعتزّ كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية الموقّعة على هذا البرنامج  بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتشيد بتأكيد حركة حماس للعمل الفوري لاستكمال توسيع عضوية منظمة التحرير لتشمل كافة الفصائل والأحزاب السياسية الفلسطينية، وتؤكد  كافة الفصائل والأحزاب التزامها بميثاق منظمة التحرير، والمشاركة في كافة أجهزتها وإداراتها السياسية والاجتماعية، واحترامها لمبادئ اختيار رئيسها ومسؤوليها وانتخاب أعضاء مجلسها الوطني.

ثانياً: تعترف كافة المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية الموقّعة على هذا البرنامج بشرعية السلطة الوطنية الفلسطينية ممثلة وحيدة للشعب الفلسطيني، وتؤكد أهليتها التنفيذية لإدارة شؤون الشعب الفلسطيني في مختلف تواجدهم على أراضي دولة فلسطين. وتتعاهد كافة المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية بالبدء فوراً في تشكيل اللجان اللازمة لتطوير وتفعيل عمل منظمة التحرير الفلسطينية، وفق المبادئ والأسس الواردة في إتفاق عام 2011.   

ثالثاً: تتمسّك كافة المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية بحق الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية وفصائله وأحزابه، في المقاومة والتصدي لأي عدوان أو اجتياح خارجي على الأراضي الفلسطينية. ويحتفظ الشعب الفلسطيني وفصائله وأحزابه  بحق الرد بكافة الوسائل دفاعاً عن الشعب والأرض الفلسطينية. 

رابعاً: تتعهد كافة  الفصائل والأحزاب الفلسطينية المنضوية في عضوية منظمة التحرير الفلسطينية بالدخول فوراً في محادثات تتعلق بالتحضير لإجراء انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية في أقرب وقت ممكن، باعتماد صلاحية قانون الانتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 2006، وتسليم السلطة في كل أنحاء أراضي دولة فلسطين لحكومة إجراء انتخابات يترأسها أرفع منصب فلسطيني قضائي لمدة ستين يوماً وفق بنود  القانون الأساسي في هذا الصدد

خامساً: تتعاهد كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية على الالتزام بمبادئ فصل السلطات، والحفاظ على الحريات العامة وحقوق المواطنين، وحرية المعارضة والتظاهر السلمي، وتطبيق حكم القانون، وقواعد تداول السلطة.

سادساً: تتعهد كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية بالتعاون والعمل الفوري خلال أسبوعين من تاريخ هذا الاتفاق لتشكيل لجان فنية ومهنية متخصصة، تضم في عضويتها عضو من كل من حركة فتح وحركة حماس، لدراسة وإقرار حلول لكافة المشاكل الاقتصادية والإدارية والمعيشية التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني في أقرب وقت ممكن.