فشل تاريخي أمني وعسكري
تاريخ النشر : 2018-12-06 13:01

سجل الفلسطينيون تاريخيا فشلين، فشل عسكري وفشل أمني.

بعيدا عن المرحلة الأولى من الكفاح المسلح، التي استطاعت الثورة من خلالها أن ترسخ الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتنقل الفلسطينيين من لاجئين، إلى أصحاب قضية سياسية وطنية تشغل العالم.

ارتكزت هذه المرحلة على ثلاث ركائز، إحداهما كانت ركيزة خاطئة، اندفع اليها الفلسطينيون تحت تطرف أفكارهم وعدم واقعيتهم، وردا على الهزيمة التي لحقت بالركزتين الاساسيتين، هذه الركيزة هي العمل العسكري الخارجي وخطف الطائرات، ورفع شعار غير واقعي وغير ممكن، وهو شعار ملاحقة العدو في كل مكان.

الحقيقة اننا لم نستطع تنفيذ هذا الشعار، وكلفنا الكثير في الأرواح والإمكانيات المهدورة، مما حذا بأصحاب هذا الخط بالتوقف عنه لأسباب عديدة، لا داعي لنبش الماضي.

الاردن كقاعدة ارتكاز خلفية، والعمليات العسكرية داخل الأرض المحتلة، رغم المبالغات الكبيرة، كانتا هما الركيزتين الاساسيتين الذي اعتمد عليها الكفاح المسلح الفلسطيني.

استطاع الفدائيون أن يشكلوا قلقا وحالة عدم استقرار للاحتلال الإسرائيلي، واسقاط بعض الخسائر بين صفوفه وتوجيه رسالة، وهذا هو المهم، أن هذا الشعب لن يقبل بالاحتلال وسيقاومه بمختلف الوسائل.

واكب هذه المرحلة النضالية بث إعلامي من إذاعات الثورة في الخارج، تحديدا من القاهرة وبغداد ودمشق، كان يستخدم المبالغة الكبيرة في العمليات الفدائية، اضافة الى الخطابات والاناشيد الثورية، من أجل تعزيز صمود الناس على أرضهم، ورفع الروح الوطنية بينهم.

حصيلة هذه المرحلة حسب الإحصائيات، كما أوردها ماجد كيالي، فإن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في القطاع منذ احتلاله إلى وقت الانسحاب منه (1967 – 2005)، أي طوال 38 عاما، بلغ 230 إسرائيليا، بمعدل ستة أشخاص في العام الواحد، قتل منهم بين (1967 – 1987)، أي في عشرين عاما، 38 إسرائيليا (حوالي شخصين في العام).

انتهت هذه المرحلة بتدمير قاعدة ارتكاز الثورة في الاردن، لأسباب كثيرة، وتشتت القوات والمؤسسات، وانتقالها إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث تحولت قوات الثورة إلى قوات شبه نظامية، وأصبحت جزءا فاعلا في الحرب الأهلية اللبنانية، وفي الدفاع عن المخيمات هناك.

انتهى الوجود الفلسطيني في لبنان باجتياح 1982 وصمود بيروت وتشتيت الثورة وقواتها في أصقاع دنيا العرب الباردة والحارة، يمكن اعتبار هذا التاريخ هو نهاية مرحلة الكفاح المسلح من الخارج.

في داخل الأرض المحتلة، الركيزة الثانية والاسياسية للكفاح المسلح، استطاعت إسرائيل أن توجه ضربات قاصمة للخلايا الفدائية، وتشن حملة ملاحقة لقتل الفدائية المطاردين، وحملة اعتقالات استباقية بين صفوف الشباب والكهول، لترويع الناس وتخويفهم، ومنعهم من تشكيل حاضنة شعبية، ترتكز عليها خلايا الكفاح المسلح المنتشرة كمجموعات صغيرة في أنحاء القطاع.

تميزت هذه الخلايا بضعف التسليح والتدريب وعشوائية العمل والافتقاد لرؤية وخطة استراتيجية، لعبت الظروف الجغرافية لقطاع غزة، المحاصر والصغير، اضافة الى قوة قوات الاحتلال العسكرية ومقدرتها الأمنية واللوجستية، والضربات السريعة والمباغتة، وحملات الاعتقال الواسعة التي كانت تشنها عشوائيا، أو بناء لمعلومات واخباريات امنية، من خلال الجواسيس المنتشرين في كل مكان، حيث تم اعتقال أكثر من 90% من الناشطين في مرحلة الاعداد قبل القيام بأي نشاطات، كما تقول المحامية فلتسيا لانجر.

لعبت جميع هذه العوامل، وغيرها، دورا هما في إجهاض العمل العسكري في الداخل وضرب فكرة وإمكانية وواقعية العمل العسكري داخل الأرض المحتلة، ووجهت له ضربة قاصمة، قضت عليه تماما.

شكلت الانتفاضة الأولى رافعة وطنية للنضال الفلسطيني، وكانت ردة فعل على هزيمة خيار الكفاح المسلح، ورسالة للجميع أن الشعب الفلسطيني قد يخسر معركة أو أسلوب من أساليب النضال، لكنه متمسك بمقاومته وباهدافه في الحرية والاستقلال.

اندلعت الانتفاضة الثانية بعد أن واجهت اتفاقيات أوسلو فشلا كبيرا بسبب تعنت إسرائيل وتنكرها لالتزاماتها، والانسحاب من الأراضي الفلسطينية وصولا لقيام الدولة.

تميزت هذه المرحلة بانخراط قوات الأمن الوطني في السلطة الفلسطينية، وكافة الأذرع العسكرية الأمنية في مواجهة عسكرية أسفرت عن سقوط مئات الشهداء وآلاف الاسرى بين قوات الأمن الفلسطينية، وتكبيد قوات الاحتلال خسائر فادحة نسبية.

كما ترافقت هذه المرحلة مع العمليات التفجيرية ضد المدنيين والعسكريين الإسرائيليين داخل إسرائيل، مما خلق حالة من الهلع داخل المجتمع الإسرائيلي، استغلته احزاب اليمين في التحريض على اسلو والقائمين عليها وصولا لاغتيال رابين بالرصاص واغتيال واستشهاد ياسر عرفات بالسم وحملة عسكرية واسعة دمرت مؤسسات السلطة الوطنية، وأعادت احتلال الضفة الغربية، وخلق حالة من الفوضى داخل الأرض المحتلة، وصولا للانتخابات الفلسطينية ووصول حماس إلى الحكم، والانقلاب في قطاع غزة والاستفراد بالحكم فيه، ومواجهة ثلاثة حروب إسرائيلية على القطاع.

تميز العمل العسكري في مرحلة حماس والجهاد الإسلامي وحلفائها بالاعتماد على القصف بالهاون والصواريخ وحفر الإنفاق، حيث واجهت هذه الفصائل، بقواتها شبه النظامية، إسرائيل في ثلاثة حروب، أدت إلى تدمير الحياة في قطاع غزة وفقدان الامل والمستقبل بين سكانه.

يقيم الاخ فهد عابد المقاومة العسكرية في هذه المرحلة من خلال خبرته الشخصية في هذا المجال، بان المقاومة أصبحت عاجزة فعليا، ولا يمكنها خوض معركة جديدة في هذا الوقت العصيب، حيث أن اطلاق عشرات القذائف لن يقدم و لن يؤخر وسيزيد من الخسارة. لقد أطلقت المقاومة في حرب 2014 اكثر من خمسة آلاف قذيفة صاروخية؛ لم تقتل الا خمسة من الإسرائيليين. في حين تستخدم قوات الاحتلال أسلحة فتاكة ومتطورة، ضمن أسلوب ما يعرف بالصدمة وسياسة الارض المحروقة، باستخدام كثافة نارية لم تعرف من قبل، وتدمير شامل لكل ماهو فوق الأرض وتحتها، فمثلا في حرب 2014 لم يبقى في مدينة بيت حانون ذات ال 50 ألف مواطن سوى 50 مقاتل، استشهد نصفهم والنصف الاخر انسحب؟!.

كما أن الفصائل العسكرية تستخدم أسلحة بدائية، نكون فيها كالعميان في الليل، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث يرسل لنا ما يسمى محور المقاومة صواريخ ثقيلة عمياء، لا تسمن و لا تغني من جوع، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة لكسر المعادلة، بصنع ستارة جوية بمضادات طيران محمولة، خفيفة ومتطورة، لحماية شعبنا من جحيم الطائرات، ولتحقيق تقدم على الأرض، گما أننا بحاجة ماسة للكثير من الأسلحة النوعية والأجهزة، مثل اجهزة رؤية ليلية، ومضادات دروع تتناسب وحجم القوة البرية لجيش الاحتلال، بدلا من الخردة التي يرسلوها لنا،،،؛

ان هذا الفشل العسكري التاريخي، ترافق مع فشل أمني كبير ومتواصل، تمثل في مقدرة إسرائيل على ملاحقة والوصول لكل من أرادت من قادة الثورة العسكريين والسياسيين والمثقفين، بدءا من اغتيال غسان كنفاني وابو يوسف النجار والكمالين، مرورا باغتيال ماجد ابو شرار والشقاقي وكثير من سفراء وكوادر م ت ف الفاعلين في الخارج، واغتيال رأس العمل في الأرض المحتلة الشهيد أبو جهاد، ومن ثم اغتيال القادة الفاعلين في حركة فتح ابو اياد وابو الهول، وصولا لاغتيال الرنتيسي واحمد ياسين وابو شنب وابوعلي مصطفي وعماد عقل ويحيى عياش والجعبري، وغيرهم الكثير الكثير من قادة وكوادر العمل العسكري والسياسي الفلسطيني.

لقد نجحت إسرائيل في ملاحقة قادة وكوادر الشعب الفلسطيني في كل مكان، معتمدة على قوتها العسكرية والأمنية والتكنولوجية الهائلة، إضافة إلى الاختراقات الواسعة داخل المجتمع وفصائل العمل العسكري، الذي يساهم مساهمة هامة في إحراز إسرائيل واستهدفاتها المتكررة للافراد والمنشئات.

ان الاختراق الأمني الاخير، الذي سجل في المنطقة الشرقية من خانيونس، ووصول قوات العدو إلى داخل القطاع لزرع أجهزة تجسس ومراقبة، هو اختراق يأتي في سياق الفشل الأمني التاريخي، وعدم مقدرتنا على مجاراة العدو في هذا المجال الصعب، على شعب ضعيف ومحتل.

ان هذا السرد السريع للكفاح المسلح الفلسطيني، منذ نشأته حتى هذه اللخظة، يبين بوضوح تأزّم هذ المسيرة، وعدم مقدرتنا على مواصلة هذا الأسلوب من النضال، وانعكاسه سلبيا على النضال الفلسطيني، واضطرار فصائل العمل العسكري إلى رهن قراراتها السياسية والمصيرية الى الجهات الداعمة، لحاجتها الماسة للمال والسلاح.

هذا بعيدا ايضا عن خطر استخدام هذا السلاح والمقاومة لأهداف سياسية واعلامية داخلية، تهدف إلى تقوية الحزب على خصومه المحليين، والاقتتال فيما بينهم من أجل الوصول إلى السلطة، والهيمنة المطلقة عليها.

ان كل الظروف بات تؤكد ان الكفاح المسلح لم يعد فقط ممكنا ومتعذّرا استخدامه، كشكل من اشكال النضال في الأراضي المحتلة، بل أصبح عبئا على الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وعبئا اخر على المجتمع وتعقيدات الحياة الضنكة التي يسببها.

ان الشعب الفلسطيني، الذي لن يتنازل عن حقوقه في وطنه، لن يتنازل عن المقاومة، وسيختار الأسلوب الأكثر ملائمة لواقعه وظروفه وإمكانياته، لذلك لن يجد بديلا عن المقاومة الشعبية كأسلوب رئيسي للنضال.