قصة أبي!
تاريخ النشر : 2019-01-05 19:48

لكن المركب امتلأ!!! فحملتني وحشرتني في المركب!!! كنت صغيرا ابن عشر سنوات أو أقل، قالت: لا تخف سألحق بك في مركب آخر لن أتأخر!!! 
كان الشاطئ يعجُّ بالخلق الضعفاء، لقد دفعهم الغرباء بقسوة وقوة نحو الشاطئ!!! ليس أمامهم سوى البحر وموجه العالي الداكن، وفوقهم سماء تشتعل بالحرائق، ويحيط بهم ضجيج عال بالصراخ والدعاء ونواح الأطفال!!! كانت الملامح جامدة، كملامح من يصلبون للموت ويعرفون أنهم سيقتلون بعد قليل، وأنهم في انتظار الرصاصة القاتلة!!!
صار المركب يعلو ويهبط … وأخذ يبتعد وأنا أراقب أمي،
كان وجهها الأسمر الصغير ملطخ بالطين والتراب، وثوبها مغسول بالدم، إنه دم أبي، لقد رأيته ينزف بعيني، ثمّ إنها دفنت رأسه في حضنها حتى لا أراه، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، لقد أصابوه في عنقه وصدره!!! 
رأيت العالم كله ينطفئ في عينيّ أمي العسليتين!!! وعرفت أن شبابها وطموحها قد اندثر ككومة تراب تبعثرت!!!
غطس قرص الشمس في مياه الأفق البعيد، وهبط الظلام بسرعة غريبة!!!ا وأخذ المركب يشق طريقه الليلي مبتعدا عن الشاطئ وعن أمي!!!
لفحت وجهي ريح باردة؛ فأحدثت فحيحا في أذنيَّ!!! والظلمة الحالكة أخذت تفرز رعبا، فصرت أرتقب انقضاضا مباغتا ومجنونا، فينكمش قلبي الصغير؛ فأضع كفيَّ الصغيرتين على رأسي؛ لأعلن استسلامي لقدر مجهول!!!
لماذا لم ترافقني أمي في هذه الرحلة القاسية؟؟!!! لقد تركتني وحيدا بائسا!!! والذل يأكل قلبى وجسمي!!! أيُّ لعنة حلّت بي!!! هل ستلحق بي كما وعدتني بصحبة أبي فقد يكون حيًّا!!!
كان الانتظار مرًّا في الصباح التالي، كنت في فراغ مغلق كفقاعة رغوة، ثمّ اكتشفت كلَّ شيء في لحظة مجنونة واحدة، اكتشفت أن أمي لم تعد!!! أمي ضاعت مني كما ضاع كل شيء!!! لا أرى أمي فلا أرى مخلوقا في هذا العالم، الذي صار قبيحا بغيابها!!!
أخذت أرتعد فجأة، لقد صرت وحيدا تماماً، غارقا في غربة مستحيلة لا أمٌ ولا أبٌ!!! كأني الوحيد في هذا الكون خارج عن الزمن الحقيقي!!! لقد اصطدمت بالحياة على هذه الصورة
المفجعة!!!
لماذا تركت أمك على الشاطئ؟؟!! لماذا هربت وتركتها؟؟؟!!!
لم أتركها، ولم أهرب، قالت سألحق بك في مركب آخر!!!
هل تعلم أن المركب الذي ركبته قد غرق بعد أن أطلقوا عليه وأصابوه؟؟!! أو أنهم قتلوها على الشاطئ لتنضم لقافلة أبيك قبل أن تصعد للمركب!!! عليك أن تصّدق ذلك!!!
كل يوم أذهب إلى الهضبة المفروشة بالحصى، افترش الحصى البارد صامتا بلا حركة ولا صوت!!! أحدّق كصقر صغير في المساحة السوداء التي تمتد أمامي، أراقب قدومها عبر البحر الممتد إلى الأبد!!
كنت أتخيلها أحيانا كحزمة نور معلقة في السماء، تشعُّ متلألئة من خلال السواد القاتم، فأمد كفي المرتعشة نحوها لألمسها، ألمسها فقط!!! لكنها كانت تختفي فجأة كما ظهرت فجأة!!! فكرت كثيرا في أن أظلُّ واقفا مغروسا كشجرة فوق هذه الهضبة في العراء إلى أن أموت!!!
لقد ضاعت أمي منّي، كما ضاع كل شيء منّي!!! لقد ضاعت أمي منّي فضاع كل شيء منّي!!!
من يرى أمي من أهل الأرض أو السماء فليسلم عليها، وليبكِ على كتفها بدمعي!!!