إيران الثورة وإيران الدولة.. في مواجهة الملفات الملغمة
تاريخ النشر : 2019-02-11 11:30

منذ فبراير 1979 إلى فبراير 2019 رحلة طويلة لم يتوقع كثيرون تواصلها و بقاء الثورة الإيرانية والنظام الإيراني في سدة الحكم، فلقد بذل كثيرون جهدا ضخما لإسقاط النظام الإيراني وإجهاض الثورة الإيرانية.. ولقد وضعت الحكومات الأمريكية المتعاقبة من ريغان إلى ترمب على رأس أجندتها في المنطقة تقويض النموذج الإيراني من خلال تحريك أدواتها في المنطقة!!فأين هي إيران الآن من مبادئ الثورة واشتراطات الدولة؟ هل ابتعد الإيرانيون كثيرا عن مبادئ ثورتهم؟.
اربعون سنة من الحصار والحرب السياسية والدبلوماسية والامنية تقودها امريكا ضد النظام الايراني لثنيه عن رؤيته وسياساته التي تصطدم بالسياسات الامريكية في المنطقة.. اربعون سنة انتهت بتراجع الامريكان عن اتفاقية النووي الايراني.. ليس فقط هذا بل توعد كل الدول والشركات التي تتعامل مع ايران بالويل والتبور.. فالى متى تصمد الثورة اليست مصالح الدولة مهددة؟
ما هي المسافة التي تفصل الثورة عن الدولة؟ هل لاتزال مبادئ الثورة الإيرانية هي المتحكم في مسيرة الدولة الإيرانية؟ ماذا تبقى من الثورة في دهاليز السياسة ودواليب الحكم وبعد هذه الأعاصير السياسية حولها؟ ما هو المعيار الذي يحكم للدولة الإيرانية او عليها ؟ ماهو المسموح في حركة الدولة لكنه غير مسموح في عرف الثورة؟ هل حرف الحصار والعقوبات والحرب الخارجية والأزمات الداخلية الثقافية والاجتماعية الثورة وغيرت مهمات الدولة؟ أو اضطرتها لتعديل بعض مبادئها الأساسية؟ ام أن الثورة حافظت على سماتها وأدواتها واستطاعت ان تكرس على الأرض ضمانات استمرارها؟ أين انحنت الدولة للعاصفة؟ وهل أنقذت الثورة الدولة من الانحراف؟ ما الهامش الذي تحركت فيه الدولة بعيدا عن نقاء الثورة وصفائها..وما هي ضمانات التصحيح؟ بسؤال مباشر هل ابتلعت الدولة الثورة ام لازالت الثورة قادرة على الحسم في اللحظة الضرورية؟ إنها أسئلة تتجدد مع كل ذكرى جديدة لانتصار الثورة الإسلامية في إيران.
الحديث هنا يفرق جيدا بين الثورة الإسلامية في إيران والدولة الإيرانية الحالية، فلسلامة الرؤية وصحة التحليل لابد من القول بأن الثورة الإسلامية في إيران انطلقت بجملة أفكار وشعارات وأهداف وطرحت رؤية للصراع الكوني وحددت خطوطا للاصطفاف السياسي، وحاولت ان تكرس رؤيتها في الواقع.. ولم تكن الثورة الإيرانية فقط على النظام الشهنشاهي وفلسفته وارتباطاته السياسية والاقتصادية بالنظام الاستعماري الغربي ومهماته في المنطقة إنما هي ثورة داخل الفكر الشيعي التقليدي على أكثر من مستوى، بل لعل هذا هو الأساس والأعمق والأخطر، حيث أخرج الإمام الخميني الشيعة من التقوقع المذهبي الطائفي الى امة الإسلام بوسعها، رافضا أي حدود طائفية بين السنة والشيعة، معتبرا أن من يثير النعرات المذهبية والتناحر الطائفي إنما هو الشيطان وأتباعه من المنافقين وتصدى بذلك لتيار “الحُجّتية” الذين يرون في أي تقارب مع المسلمين السنة مضيعة للطائفة والمذهب وتنازلا عن أفكارهم وعقائدهم.. طارد الخميني وتلامذته التيار ألصفوي وأتباعه وتيار “الحجتية” وشيوخها وفيهم مراجع كبار كآية الله شريعتمداري وآية الله شيرازي ومن يقلدهم وطالب بخلع العمائم من على رؤوسهم.. كما أنه رفض ان يظل الإسلام منشغلا بالحيض والنفاس وأمور العبادات وحرر الإسلام من ان يكون مطية للاستعماريين الغربيين ضد الشيوعية او مطية الحكام الظالمين في استعباد الشعوب وأصر ان يكون العالم الفقيه بأحكام الإسلام وبشؤون الدنيا هو الحاكم وولي أمر الناس، فأعاد بذلك الشأن كله الى صدر الإسلام متخذا من النظام السياسي الإسلامي العام “نظام الخلافة الراشدة” مرجعية لتفكيره حول ضرورة الحكم الإسلامي كما جاء في كتابه المتفرد “الحكومة الإسلامية” ملغيا أحكام انتظار المهدي كما هو في فكر الشيعة واعتبر الانتظار عن القيام بواجب الحكم الإسلامي أسوأ من نسخ الإسلام، ومتجاوزا سلبية الفكر السياسي السني الذي يسود أوساط كثيرين في مرحلة التردي في السمع والطاعة للحاكم الطاغي الظالم، كما انه اعتبر وحدة الأمة أساسا وشرطا لصحة الإيمان وصدق الانتماء إليه .. وعلى الصعيد السياسي اعتبر ان العدو الأكبر يتمثل في الإدارات الأمريكية المتلاحقة بالإضافة للإدارات الغربية الاستعمارية لما تقترفه من عدوان ضد الأمة الإسلامية بحروبها المتواصلة ونهبها ثرواتها.. واعتبر ان إسرائيل غدة سرطانية لابد من اجتثاثها.. واعتبر ان وحدة المستضعفين في الأرض ومواجهتهم ضد المستكبرين هي الدائرة الثانية بعد وحدة الأمة الإسلامية لمواجهة عتو الأنظمة الاستعمارية الغربية.. وخاض معركة المفاهيم السياسية بدقة وقوة وحزم، فتجمعت له منظومة مفاهيمية واضحة تميز بها عمن سواه في جمع العلماء المسلمين وينبغي هنا الإشارة إلى الانفتاح الواسع الذي تحلت به هذه المنظومة على الفكر الإسلامي المعاصر داخل الأمة مستفيدة من التطور الفكري الإسلامي انطلاقا من السيد جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وسواهم..
هذه هي مرجعية الثورة الفكرية والسياسية وهي التي نشأ على ضوئها تيار ثوري سياسي واجتماعي واسع في إيران من مثقفين وعلماء دين يقودهم كوكبة من رجال فكر ممتازين كآية الله مطهري وبهشتي وصديقي ومنتظري ومشكيني وعلي شريعتي وعلي خامنئي وعلى رجائي وآخرين كثيرين تميزوا بكل هذه المنظومة الفكرية والمفاهيمية وقادوا حملة واسعة من التثقيف لتصحيح الأفكار والمفاهيم، متصدين للطائفية والتخلف والمقولات الفاسدة التي تخرب وحدة المسلمين وأفكارهم وتسيء إليهم والى رموزهم.. وتعرض هذا التيار الى عمليات اغتيالات واسعة طالت العشرات من رموزه، وعلى رأسهم بهشتي رئيس البرلمان ورجائي رئيس الجمهورية ومطهري منظر الثورة وناظم أفكارها الفلسفية والاجتماعية وصديقي المجتهد الكبير في تفجيرات.. وهكذا تكاملت الثورة برؤية ومعيار محتكمة الى منظومة مفاهيمية مدققة تماما لا تحيد عنها.. فاستدعت بذلك غضب الإدارات الأمريكية والغربية وغضب الذين يبغونها عوجا وينفذون رغبات الغربيين في بلاد العرب والإسلام.. وكانت هذه المنظومة هي التطور الأعظم.
وإيران الدولة هي الحكومات المتتالية والسياسة الخارجية والداخلية المتلاحقة ومؤسسات الدولة المتجددة والمتبدلة والمتغيرة.. إيران الدولة أجهزة الأمن والحرس الثوري والمصانع والتجارة والاقتصاد والعمل الدبلوماسي والسياسي.. إيران الدولة العلاقات والمصالح والدور الإقليمي والدولي.. إيران الدولة الحسابات الدقيقة والتخطيط والتحسب والاختراقات والتحالفات وأنصاف الحلول أحيانا.. ويرى البعض ان إيران الدولة تقع بين المرجعية الفكرية للثورة وبين مصالح الآنية للشعب الإيراني والثورة، فهي حسب هؤلاء لم تستطع الالتزام تماما بثوابت المرجعية الفكرية وقدمت تنازلات هنا او هناك لكي تنجو بالثورة وبالشعب من حصار كاد ان يخنق البلد وشعبها ويقضي على المشروع الإسلامي الإيراني تماما ولعل هذه التنازلات طالت كثيرا من المسائل المهمة في كيفية إدارة الشأن الداخلي في ظل هجوم إعلامي وثقافي مركز من قبل الإعلام الغربي والتابع له حيث بلغت محطات التلفزة والإذاعة الموجهة ضد إيران أكثر من 45 محطة تلفزيون وإذاعة تبث باللغة الفارسية تقوم بتحريض متواصل على تفجير العنف في إيران..
هنا تتضح لنا ملفات كبيرة أمام إيران،، وهي ملفات ملغمة داخلية وخارجية، فعلى الصعيد الداخلي كانت المسافة بين الدولة والشعب يعتريها أحيانا توتر واضطراب وكانت هناك العديد من الملاحظات حول تسيير العلاقة بين الناس والدولة على صعيد الحريات والشفافية .. صحيح ان التضخيم الإعلامي والتشويش والتشويه بالغ كثيرا في حربه إلا انه كان من الواضح ان هناك أصوات تطالب بإجراء تعديلات وتصحيحات لتقريب المسافة بين الناس والدولة بمحاربة مظاهر التفلت والانغلاق والأمر له علاقة أيضا بموضوع البطالة وتحسين شروط المعيشة والتي عقدتها ظروف الحصار والعقوبات الغربية وهنا لابد من الإشارة إلى الجهود العملاقة التي قامت بها الدولة على صعيد بناء مؤسسات قوية تحمي البلاد وتضع البنية التحتية المهمة لاقتصاد غير تابع على صعيد الصناعة والزراعة والدواء وفي هذا المجال تكون الدولة الإيرانية حققت أكثر مما يتوقع لها في ظل ظروف استثنائية.. وعلى الصعيد الخارجي ملف العراق وملف سوريا وملف لبنان وملف أفغانستان والملف النووي.. ولابد من توضيح ان التعامل مع هذه الملفات لم يأت في سعة من أمر إيران، إنما جاء مرفوقا بحصار خانق لا يزال معظمه قائما حتى الآن.. حصار شامل في كل المجالات، وبحرب مفروضة استمرت أكثر من ثماني سنوات ألحقت بإيران خسائر فادحة على كل الأصعدة، كما كانت حرب المنظمات المسلحة المعارضة"مجاهدي خلق" تطال قيادات كبيرة في الثورة الإيرانية.. لقد بلغ الحصار مداه في التأثير في الدولة الوليدة.. الا ان لياقة رجالاتها وتشبثهم بمشروعهم قادهم الى الاستماتة دون سقوطها.. فواجهوا الحرب والحصار ولم يكن سهلا تصور إمكانية خروج الدولة الإيرانية من هذه المطحنة الرهيبة سالمة وبلا تشوهات او جراح..
هنا يميل الحديث عن تعامل الدولة الإيرانية أكثر الى الموضوعية وبعيدا عن القسوة والتنطع.. وعند فتح الملفات نكتشف أن هناك ما يمكن اعتباره التزاما بالثورة وبعضها ما يمكن اعتباره التزاما بمصلحة الدولة.. ومما لاشك فيه ان لا قيمة للثورة بدون دولة تحمل مبادئها وتحمي مشروعها.. إلا أن هناك خطا دقيقا فاصلا يجعل من الدولة خصما للثورة ان هي تجاوزت مبادئها في الأطر الإستراتيجية من المواقف.. فمثلا الوقوف ضد الكيان الصهيوني مثل معيارا واضحا للسياسة الإيرانية في تحالفاتها واصطفافها، وهذا ما يجعلنا نتفهم الموقف الإيراني من سوريا وحزب الله عندما كان النظام السوري يدعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وهي في هذا يكون من الصعب عليها التخلي عن النظام السوري الذي كان بمثابة الباب الوحيد ضد الحصار على إيران.. ومن المفهوم تماما ان تحاول إيران إزاحة الاحتلال الأمريكي من العراق وعدم السماح لتشكل نظام عميل للأمريكان بجوارها لأنه حينذاك سيجدد الحرب على إيران بشكل أكثر عنفا وبطريقة أكثر منهجية.. وهنا كان الأمر ملتبسا لدى كثيرين حيث لعب الأمريكان بالمكون العراقي فقربوا جهة وابعدوا جهة ثم غيروا المواقع وبعثروها وغيروا وبدلوا في ولاءات السياسيين العراقيين فاضطرب الأمر أمام القارئ والمتابع فكان المستنقع العراقي ساحة اشتباه في الموقف الإيراني الذي كان يتحرك في حقل ألغام ولكن المهم كان أمام إيران إخراج الأمريكان من العراق ثم منع الانفصال بين الشيعة والسنة ومنع الانفصال الكردي.. كما ان الشأن اليمني أثار تساؤلات عديدة لدى كثير من المتابعين حيث انه من المفهوم بلا شك ان تطرد إيران النفوذ الإسرائيلي من باب المندب والبحر الأحمر، بعد ان أصبح لإسرائيل جزر عديدة في المكان تجهزها لادوار أمنية إستراتيجية وأيضا من العبث ان يترك اليمن لدور يمكن من التفرد الأمريكي في المنطقة ولكن يرى الناقدون انه يجب ان لا يكون على حساب التركيب السياسي والاجتماعي في اليمن بتغليب فئة على فئات أخرى.. ولكن في كل ما سبق من ملاحظات في الملفات الملغمة مبررات للدولة الإيرانية وليس من الضرورة ان تكون في محل الاستحسان لدى المسلمين، لأن الحسابات هنا دقيقة وتحتاج إدراك وإحاطة، وهنا تتجلى القضية الفلسطينية وملفها الكبير: اين تقف إيران الثورة والدولة؟ ولعله الملف الوحيد الذي لم يحدث فيه الانفصام بين الثورة والدولة، وهو ملف حقيقي لم تقبل فيه إيران أي مساومة، وهذا يكشف جوهر السياسة الإيرانية وحقيقتها.. قد لا يكون كافيا لكنه ليس منحرفا ولا مساوما.. قد يحتاج الى تعديل حسب رؤية موضوعية لكن المهم انه ليس متآمرا على فلسطين بأي حال من الاحوال بل هو ضد المؤامرة.
من هنا وعلى هذه القاعدة يجب النظر الى الأحداث في إيران فبعضها محق بلاشك وهو ما يدور حول شروط المعيشة والحريات السياسية والصحفية اذ نحن نتحدث عن بلد عريق وحضاري تتوارث فيه الثقافة بأصنافها ليس كما هو الحال بدول الموز العربية التي لا منبر معارض فيها او كلمة مخالفة او حق لتشكيل حزب مناوئ بأفكاره.. ولكن تفحص شعارات بعض التظاهرات في إيران تشير الى الارتباط بالمخطط الأمريكي بتقويض الثورة او تفجيرها وعلى الأقل حرفها عن خطها السياسي في دعم فلسطين ولبنان من جهة والدعوة الى نظام ليبرالي مرتبط مع الغرب الاستعماري كما نادى البعض بعودة ابن الشاه..
المحاذير الآن ان تجد الدولة ضرورة الى حسم قاس فتتضاءل مساحة الحريات و تحصل انتكاسة في احد أهم مبادئ الثورة وهي حرية الشعب وكرامته.. ذلك لان الاحتجاجات العنفية والتي تستهدف الثورة ومؤسساتها يستدعي نوعا من أنواع الديكتاتورية.. والأمر بهذا يتطلب تدخلا قويا من قبل قيادة الثورة من علمائها ومفكريها بضرورة لجم الدولة عن التغول وتقديم ضمانات حقيقية لتقريب المسافات بين الناس والدولة كما انه يتطلب حزما قويا في مواجهة المرتبطين بالمشروع الاستعماري الغربي مروجي الفتنة ومشجعي العبث والفوضى..فنجن نحتاج قوة إيران معنا في مواجهة التحديات التي تريد استئصال دور امتنا وتحطيم فرص النهضة والوحدة وتحرير فلسطينها..تولانا الله برحمته.