يحدث في الحال الفلسطيني
تاريخ النشر : 2019-02-12 23:21

يستمر مأزق الحالة الفلسطينية على حال من التراجعات المؤلمة، والتخبط والتسويف والمماطلة والانحطاط، في غياب أي أمل، أو أية آفاق للخروج من قيعان اليأس، أو توفر ما يشير إلى انتظام الحياة السياسية، في ظل نظام سياسي يعيد صياغة ذاته من جديد، على أسس أكثر عقلانية وكفاحية، لممارسة مهامه التي انيطت به، كما في ظل حكومة وحدة ووفاق وطني، تؤسس للخروج من حال الانقسام وارهاصات الانفصال بين غزة والضفة، بما يعنيه هذا الحال، أو بما بات يعنيه من تصادم مشروعين لا يعبران عن واقع الحال الفلسطيني العام، وحوامله المعبرة عن تطلعات الكل الفلسطيني، أو على الأرجح الأغلبية الفلسطينية "الصامتة" التي يجري تجاهلها من قبل أصحاب السلطة على جانبي الكارثة الفلسطينية الراهنة؛ لا سيما في ظل تصادم مشروع التحرر الوطني الذي جرى التخلي عنه من قبل سلطة "أمر واقع" في الضفة، ومشروع "خلافة إسلاموية" باتت تتجسد في إمارة "أمر واقع" وسلطتها في قطاع غزة. 
لا يبدو في استحقاقي "الحكومة الفصائلية" و"حوار الفصائل" في موسكو، من جهة وفي الدعوة لمؤتمر وارسو من قبل الإدارة الترامبية، وأهدافه التصفوية من جهة ثانية، والتوقعات من نتائج هذه التحركات وما يحيطها من هوامش أكثر تأثيرا، أنها سوف تسفر عن إجابات شافية تجاه وضع بلغ "التخبيص" و"اللغوصة" فيه مديات عليا من عدم المسؤولية، وإدراك المأزق الكارثي الذي وصل إليه الحال الفلسطيني الراهن، بفعل التوجهات الفردية والأحادية وتمسك قوى "الأمر الواقع" بهيمنتها التي تدعي مشروعيتها من دون أن يكون هناك أي شرعية لمن لا شرعية له لدى شعبه؛ فالشرعيات المدعاة والمزعومة، الفئوية أو الفصائلية لا مصداقية لها على الإطلاق، كما هو حال أنظمة الاستبداد السلطوية في اعتبارها السلطة مغنما لا ينبغي أن يباريها أو ينافسها عليه أحد. 
لهذا لن يكون لمآلات أي حراك من هذا القبيل أي نتيجة إيجابية، حتى في ظل معطيات قد تبدو شكليا أنها في صدد تحريك جمود مزمن، طال أمده منذ كارثة أوسلو مرورا بكارثة انقلاب العام 2005، وما نعيشه هذه الأيام من كارثة إدارة الظهر لقضية شعب ووطن، والانحياز لبعض قضايا بقايا شعب وبقايا وطن. 
وقد بدا واضحا اليوم أن التخلي عن المؤسسات الوطنية الجامعة، التي كتلتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ قيامها، وصولا إلى التفريط بها من قبل سلطة أوسلو، واستبدال كل ذلك بأحادية الفصيل وفئويته، وبونابارتية الفرد، المستبد المطلق الذي لم يجد من يرده إلى جادة الصواب؛ كل ذلك حد من مبادىء الشراكة الوطنية وأسقط المسؤولية الجماعية في صدد اتخاذ القرارات الوطنية، وأسقط حتى إمكانية تطبيق قرارات ما تبقى من مؤسسات المنظمة، كقرارات المجلس المركزي والمجلس الوطني التي ما زالت تنتظر التطبيق، نظرا لارتباطها بالعلاقة مع الاحتلال والتنسيق معه، وغلبة هذه العلاقة على علاقات الشراكة الوطنية المفترضة في إطار المؤسسة التي كان ينبغي أن تجسد أسس قيام الكيان الوطني على أرض الوطن، بدلا من سلطة لم تؤد إلى قيام نظام سياسي مؤسسي ينسجم ومنطلقات منظمة التحرير ومبادئها الوطنية الجامعة، أيام جسدت المنظمة بكيانيتها الوطنية كيانية حضور الشعب وكفاحية تحرره الوطني من أجل وطن/دولة لكل الشعب الفلسطيني، لا من أجل بقايا هنا أو هناك. -
ورغم هذا الوضوح الفاقع في سرديات مسيرة ومسار الحال الفلسطيني، ما زالت الرهانات الخاسرة، على أوسلو وعلى الولايات المتحدة وعلى المفاوضات العبثية وعلى "حل الدولتين"، وعلى كل ما لن يتحقق بفعل كفاحية العامل الذاتي الفلسطيني، يستمر أصحاب الرهانات الخاسرة من أهل السلطة المتمركزة في رام الله، والمتقوقعة في غزة، في تصوراتهم وتهيؤاتهم الوردية، عن حل أو حلول تبقيهم في مواقعهم، وتبقي لهم مصالحهم الزبائنية وشراكاتهم مع الاحتلال ومن يوالي الاحتلال سياسة وتطبيعا، عربيا وإقليميا ودوليا، حتى ولو بدا الأمر كما يبدو اليوم، أنه يتم على حساب القضية الوطنية وجماهير الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني المغيّب عن تقرير مصيره باستعادة حقوقه الوطنية التاريخية، التي بات اختزالها والقفز عنها إحدى مهازل حتى بعض قيادات فصائلية وفئوية، تتكرر على أيديها مهازل سبق وارتكبتها بعض القيادات الاقطاعية والبرجوازية التي كانت تهيمن على قيادة الحركة الوطنية وأحزابها من الإقطاع العائلي والأسر الارستقراطية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وقادت إلى النكبة الأولى عام 1948، إضافة إلى عوامل التواطؤ والخيانات التي ارتكبتها أنظمة خنوع ما زالت تستنسخ ذات الأنظمة إياها التي عملت على التمهيد لتسليم فلسطين لبلفور ووعده، ومن ثم لتسليم أرض ووطن الشعب الفلسطيني للحركة الصهيونية، وإن عبر مراحل النكبتين الأولى والثانية، وها نحن نعيش مراحل النكبة الثالثة لما بعد أوسلو، في تكرار للشراكة مع الاحتلال تحت مسميات وعناوين مراوغة ومخادعة.
النكبة الرابعة وهي الأكثر كارثية، تلك التي تعمد إلى مصادقة الأوهام، والتسليم بصداقة العدو، والنظر إلى الانقلابات الاستراتيجية وكأنها انقلابات تكتيكية لدى العدو القريب (إسرائيل) والعدو البعيد (الإدارات الأميركية وخاصة الترامبية)، من دون تغيير في السياسات الفلسطينية، تواكب تحديات الانقلابات الاستراتيجية، بل استمرت تلك السياسات في رهانات عمياء خاسرة، لا تستجيب لأي تحد من جانب العدو، ولتستمر هذيانات "حل الدولتين" تنيخ بكلكلها على واقع إدارة الصراع عند الفلسطينيين، دونما إدراك لواقع ومعطيات التغيير الذي جلبته استراتيجيات العدو في إدارة الصراع، حيث تلاشت الدولة الفلسطينية المستقلة، في وقت يجري فيه تهويد القدس، وفلش المستوطنات وتسمينها، ومحاولة تصفية قضية اللاجئين بإنهاء دور الأونروا، مقدمة لشطب حق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها في العام 1948، وإنهاء أمل الاستقلال الفلسطيني عبر شطب "حل الدولتين"، وإجهاض مبدأ الدولة الواحدة، كما ترد في الأدبيات الفلسطينية، والالتفاف عليه، وتكريس قبوله كونه الدولة اليهودية الواحدة؛ التي كرسها قانون القومية العنصري، الدولة الواعدة لليمين الاستيطاني المتطرف، كما هي في الحقيقة و"الأمر الواقع" "دولة إسرائيل الكبرى"، كما وردت وترد في أدبيات اليمين الاستيطاني والإرهابي المتطرف، وما عدا ذلك فهو قبض ريح لا تهيىء في رمال "الأمر الواقع"، لأي كيان أو دولة موهومة. 
وهكذا في وقت تتجسد فيه سياسات المشاريع الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية، في الواقع "أمرا واقعا"، وتتواطأ أو تستجيب لها بعض السياسات الإقليمية العربية وغير العربية، يستمر القادة الفلسطينيون في تقديس تكتيكاتهم وتكريسها طواطم لا تتغير، متشبثين بالمثل القائل "عنزة ولو طارت"، في وقت بقيت العنزة وطارت القضية من بين أيدي أصحابها. ولم يبق من المشروع الوطني في مواجهة المشروع التهويدي سوى الإسم، ومن قيادته سوى العنوان، في ظل فقدان أي فاعلية تذكر لقواعد حركة وطنية فقدت بوصلتها التحررية، وانقلبت سياساتها وبرامجها طلاسم وإن تكن واضحة، لكنها غير قابلة للتنفيذ أو التطبيق، نظرا لواقع الحال الفلسطيني الراهن، ونظرا لما استجد ما بعد أوسلو من تمتين علاقات الشراكة الزبائنية مع الاحتلال، وإهمال علاقات الشراكة الوطنية، والعمل من قبل أصحاب المشاريع التدميرية على فسخها والتنصل منها، والابتعاد بعيدا عن كل ما يقرب بين المؤمنين بالمشروع الوطني نبراسا هاديا من أجل فلسطين دولة وطنية مستقلة، متحررة من الاحتلال ومن كل النزعات السلطوية والاستبدادية التي تعتبر السلطة وغايات أهلها مغنما من مغانم دنيوية، لا ينبغي أن ينازعهم عليها أحد.