القصة الحقيقية للصندوق الأسود
تاريخ النشر : 2015-11-03 15:48

ما إن يقع حادث لطائرة مدنية، تسارع أطقم الإنقاذ بمهمتين فى الوقت نفسه، هما البحث عن الضحايا والصندوق الأسود، وهما فى واقع الأمر صندوقان مسجلة عليهما كل تفاصيل الطائرة حتى لحظة سقوطها، ومهما طال الوقت، لا تكف الأطقم الفنية عن البحث عن الصندوقين، لتحليل المادة المسجلة داخلهما، وهو ما يساعد، فى أغلب الأحيان، فى الحصول على معلومات دقيقة تفيد فى معرفة سبب السقوط، لذا كثيراً ما تتداول وسائل الإعلام عقب كل حادثة الأخبار التى تتابع عمليات البحث الدؤوبة عن الصندوق الأسود، مما تترتب عليه تساؤلات كثيرة عن هذا الصندوق والإجابة هى:

 

الفكرة بين التاريخ والواقع 

كانت رحلات الطيران المدنى فى بداية الخمسينات مهدّدة بالإلغاء فى بعض الشركات، نتيجة تكرر حوادث السقوط، وغموض الأسباب التى تؤدى إلى ذلك، وقتها تفتق ذهن «د. ديفيد وارن» (1925 - 2010)، أحد علماء الطيران الأستراليين، عن اختراع جهاز يسجّل ما يجرى فى مقصورة قيادة الطائرة، وتفاصيل أداء أجهزتها. وبالإضافة إلى الوضع المتأزم للطيران فى العالم وقتها، فقد كان هناك دافع آخر قوى لدى «وارن»، هو أن والده توفى فى حادث طائرة عام 1934، وعندما قدّم الرجل اختراعه إلى سلطات الطيران الأسترالية، رفضته واعتبرته عديم الفائدة، وهذا هو حال من يفكرون خارج الصندوق، الذين يصطدمون دائماً مع أصحاب العقول المنغلقة، لكنه بعزم لا يلين، وثقة بأهمية جهازه، تابَع جهوده كى يرى هذا المشروع العلمى النور، فارتحل إلى بريطانيا، وعرض هذا الابتكار الجديد على المسئولين، وكانت لندن وقتها مهمومة بمشكلات درة تاج صناعتها الجوية، الطائرة من طراز «كوميت»، أول نفاثة تقتحم عالم الطيران المدنى، وكانت قد حقّقت صيتاً ذائعاً بعد أن نقلت رحلاتها 30000 راكب خلال عام واحد فقط، منذ بداية خدامتها التجارية فى 2 مايو 1952، ثم توالت حوادثها الجسيمة بعد ذلك، مما أدى إلى سحب جميع طائرات «كوميت» من الخدمة التجارية، وفى هذه الأجواء الملتبسة والملبدة بحوادث سقوط الطائرات، ظهر العالم الأسترالى فى عاصمة الضباب، وكان من الطبيعى أن يجد آذاناً مصغية، وبثت إذاعة «بى بى سى» تقريراً وافياً عن اختراع «د. وارن»، مؤيداً بتزكية من علماء ذوى مكانة وثقة، و«بى بى سى» وقتها هى الإذاعة الأشهر، والوسيلة المتربعة عالمياً على عرش الإعلام، فتنافست الشركات لتبنّى الفكرة والحصول على حق تطويرها وإنتاجها، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة الصندوق الأسود التى لم تتوقف، وصار بعدها هذا الصندوق لصيقاً بالطائرة، كأجنحتها ومحركاتها، وكانت فكرة تسجيل بيانات الطائرة قد بدأت من قبل، فى محاولات بدائية غير مكتملة، أولاها فى فرنسا عام 1939، وقد ظهر أول صندوق أسود كوجود فعلى فى عالم الطيران عام 1958. وفى عام 1960، ألزمت الولايات المتحدة جميع طائراتها بتركيبه فى الطائرات، وفى ما بعد أوجبت المنظمة الدولية للطيران المدنى هذا التطبيق على كل الطائرات التجارية، وفى مرحلة تالية وضعت شروطاً ملزمة لتشكيل اللجنة الفنية التى تقوم بتفريغ وتحليل بيانات الصندوق، بعد أن نشأت الخلافات بين أطراف حوادث سقوط الطائرات، وتتكون اللجنة من العناصر الفنية للدولة المالكة للطائرة والشركة المنتجة والدولة التى سقطت الطائرة فوق أرضها، ورغم أن هذه المنظمات بلا ولاية من قريب أو بعيد على الطائرات الحربية، فإنها مزوّدة أيضاً بهذه الأجهزة، وقد انتقلت الفكرة فى ما بعد إلى وسائل النقل المختلفة، ولعل القراء يتذكرون أن اللجنة الفنية المكلفة بتحديد أسباب حادثة مترو الأنفاق فى العباسية، قد أعلنت أنها سوف تقوم بتحليل بيانات صندوق القطار.

 

معلومات عامة عن الصندوق

فى واقع الأمر، فإن تسمية الصندوق الأسود غير دقيقة، لأنه فى مراحل تطوير أداء الجهاز تحول إلى صندوقين، أولهما تقليدى يغطى التسجيل الصوتى لمقصورة القيادة، وثانيهما رقمى، وهما بذلك متشابهان فى المظهر الخارجى ومختلفان فى التركيب من الداخل، وتتطابق مقاييس حجم الصندوقين، إذ يبلغ الطول 20 بوصة والعرض 5 بوصات، والارتفاع 7 بوصات، ويوضع الصندوق الرقمى فى ذيل الطائرة، لتوفير أكبر قدر من الحماية، وصندوق التسجيل الصوتى فى الكابينة، ومن المفارقات أن وصف اللون الأسود للصندوق غير صحيح، فاللون الحقيقى أصفر أو برتقالى، مغطى بأشرطة عاكسة للضوء لتسهيل رؤيته عند البحث، وتعدّدت الروايات عن سبب التسمية باللون الأسود كما هى عادة البشر فى خلق الأساطير، وما بين أول تطبيق عملى للفكرة والوضع الحالى حدث تطور علمى وتقنى أشبه ما يكون بالخيال، بدأ من الجسم الخارجى للصندوق، وهو قالب متين للغاية مصنوع من مواد قوية كعنصر التيتانيوم، ومحاط بمادة عازلة لتحمّل صدمة السقوط الرهيبة من الارتفاعات العالية، ولتحمّل حرارة تزيد على 1000 درجة مئوية وضغط المياه فى حالة السقوط فى البحار والمحيطات فى الأعماق الكبيرة تحت سطح البحر، وتشمل الاختبارات التى تجريها شركات الإنتاج إطلاق الصندوق الأسود من مدفع صاروخى تجاه جدار لمحاكاة صدمات سقوط الطائرة عند تحليقها بسرعة تزيد على 161 كم فى الساعة، كما تغلف أجهزة التسجيل فى الداخل بمادة عازلة تحميها من التعرُّض لمسح المعلومات المسجلة عليها، وكذلك من الأعطال بسبب مياه البحر لمدة 30 يوماً، وهى المدة التى يظل الصندوق يرسل فيها نبضات التعرّف اللاسلكية وتميّز تلك الإشارة من مسافة تزيد على 4 كم وعمق 6096 متراً تحت الماء، وكانت قدرة الصندوق الرقمى فى البداية تقتصر على تسجيل 17 نوعاً من المعلومات، وبعد التطور العلمى فى مجال القدرات الرقمية أصبحت قادرة على تسجيل 100 نوع من المعلومات فى وقت واحد، وذلك من خلال تلقى المعلومات عن طريق المستشعرات الموجودة فى الطائرة، مثل سرعة الرياح، والارتفاع، واتجاه الطيران، والساعة الزمنية، ودرجة الحرارة خارج الطائرة، ووضع التوازن فى الجو وكل الجوانب الفيزيائية والتقنية الأخرى ويعمل الجهاز بأكثر من إبرة تقوم بتسجيل كل البيانات العادية والطارئة، وهى مثل إبرة رسم تخطيط القلب، وشريط تسجيل المعلومات من نوعية فائقة الجودة ذى قدرة متواصلة على تسجيل البيانات لمدة 25 ساعة، يعود بعدها للتسجيل من جديد، ويقاوم تصميم الصندوق الاهتزاز الارتجاجى، دون أن تتأثر بذلك البيانات المسجلة.

 

فوائد أخرى للصندوق

على عكس ما يتصور غير العلماء والفنيين فى مجال الطيران، فإن للصندوق الرقمى تحديداً أهمية كبرى، بعيداً عن الحوادث التى تتعرّض لها الطائرات، تتمثل فى أن المعاهد الملاحية للطيران تقوم بدراسة البيانات المتوافرة للوقوف على أداء الطيارين والتعرّف على نقاط الضعف والقوة، للارتقاء بقدراتهم الملاحية كما تقوم أقسام هندسة الطيران فى الشركات والمعاهد العلمية برصد أداء الطائرات للوقوف على المشكلات وتحسين مستوى الصيانة، وتقوم شركات صناعة الطائرات بدراسة البيانات للحفاظ على مستوى السلامة فى الطائرات الحديثة والقديمة، ويستعين خبراء الأرصاد بالمعلومات الموجودة بالصندوق الرقمى، لأنها تقدم معلومات دقيقة عن الظواهر الجوية الخطرة، مثل المطبات الجوية والانفجارات الهوائية الصغيرة.

 

الوطن المصرية