سيرة وطن سيرة حياةح(2)

تابعنا على:   19:17 2017-04-04

غازي الخليلي

(4)

بدايات إعادة إنهاض الشخصية الوطنية والكيانية الفلسطينية

بعد نكبة العام 1948 تعرض الشعب الفلسطيني، إلى عملية محو منهجية استهدفت طمس شخصيته الوطنية وإنهاء وجوده الوطني المستقل والموحد، ومحو اسم فلسطين كشعب ووطن من الخارطة الجغرافية والسياسية. فبعد النكبة تم تغييب اسم فلسطين كوطن وشعب من التداول، وتحولت قضية فلسطين، الوطن والشعب، إلى قضية لاجئين ونازحين بحاجة إلى إغاثة إنسانية، بعد أن تم تقاسم الوطن الفلسطيني كجغرافيا، بين الحركة الصهيونية التي أقامت دولة إسرائيل على القسم الأكبر من فلسطين، وما بقي غير محتل من أرض فلسطين تقاسمت الأنظمة العربية (الأردن ومصر) السيطرة عليه.

على الرغم من أني كنت فتى صغيرا في العام 1948، فقد أدركت مبكرا ككثيرين غيري، أن سبب النكبة هو خيانة الأنظمة العربية التي دخلت حرب فلسطين عام 1948، وأدركت مبكرا أيضا أن محو عار هزيمة الـــــ 48 لن تكون إلا بوحدة الأقطار العربية بعد تغيير أنظمتها، التي تتحمل المسئولية عما لحق بالشعب الفلسطيني من تدمير لوحدته الكيانية والمجتمعية وفقدانه القسم الأكبر من أرض وطنه، ولا سيما أن الفترة التي أعقبت نكبة العام 1948 شهدت بداية صعود التيار القومي العربي الذي تبنى شعار "الوحدة طريق العودة".

وكان أبرز من عبر عن هذا المنحى القومي النضالي نشرة "شباب الثأر" التي كانت تصدرها أسبوعيا "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل"، وهي الهيئة التي كانت تضم كلا من هاني الهندي والدكتور جورج حبش، وشكلت النواة الأولى لحركة القوميين العرب لاحقا. ونصت النشرة في أحد أعدادها على أنه "ما لم تُوجد الدولة الموحدة التي تضم العراق وسورية والأردن كخطوة أولى فإن وجودنا في مواجهة اليهود والمعسكر الغربي سيكون أمرا شبه مستحيل." كما اعتبرت في عدد آخر "أن المفهوم الإقليمي في معالجة قضية العرب في فلسطين سبب من أسباب النكبة." وهذا الموقف تبنته حركة القوميين العرب لاحقا، بتأكيدها المتواصل، حتى حرب حزيران، على المعالجة القومية لقضية فلسطين.

في ظل هذا المناخ القومي والمفعم بالأمل اندفعتُ، كما اندفعت نخب أساسية من الشعب الفلسطيني للانخراط في الأحزاب القومية، وبخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب. انتميتُ مبكرا إلى حركة القوميين العرب عام 1960، وشاركت في الكثير من فعالياتها ونشاطاتها، غير أن هذا المنحى القومي في معالجة القضية الفلسطينية أخذ بالتراجع بعد حوالي عشر سنوات من النكبة تقريبا في نظر العديد من النخب الفلسطينية، سواء من كان منهم منخرطا في الأحزاب القومية أو بادر إلى تشكيلات تنظيمية فلسطينية مستقلة، لصالح التأكيد على ضرورة إعادة تنظيم قوى الشعب الفلسطيني وإبراز شخصيته الوطنية المستقلة، وتأكيد دور الشعب الفلسطيني المحوري في النضال من أجل العودة واستعادة أرضه المغتصبة، ولكن ليس كجهد إقليمي مستقل، وإنما كجهد طليعي رافد للجهد القومي.

بدأت الفكرة خجولة ومترددة أواخر الخمسينيات، لكنها سرعان ما نضجت وفرضت وجودها، بإقدام نخب فلسطينية على الترويج لها وتجسيدها عمليا بقيام تشكيلات تنظيمية فلسطينية، بالرغم من تعددها الكبير وغير المبرر في البداية، إلا أنها كانت المهماز الذي حرك الفكرة وسمح بإنضاجها. وعندما وقعت هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران عام 1967، كان الشعب الفلسطيني بطلائعه وتشكيلاته المسلحة الأولية جاهزا للانطلاق وبداية كفاحه المسلح وحربه الشعبية على أوسع نطاق، فانطلقت مسيرته الكفاحية الجديدة معلنة بداية مرحلة نضالية جديدة فاعلة وطافحة بالأمل، أعادت الشعب الفلسطيني وقضيته إلى الخارطة السياسية في المنطقة وفي العالم كقضية شعب ووطن، وليس قضية لاجئين.

يمكن التعرف على البدايات الأولية لهذا التوجه في أواخر الخمسينيات تقريبا، وتعززه في بداية الستينيات بفعل عوامل عديدة منها، انفكاك الوحدة المصرية السورية بعد الانقلاب الانفصالي السوري الذي قام به عدد من الضباط السوريين بدعم من قوى برجوازية وإسلامية سورية وبتواطؤ دولي ورجعي عربي في 28/9/1961، مما أضعف استمرار المراهنة الأحادية على المعالجة القومية للقضية الفلسطينية، وبخاصة في ضوء ما شاهدته وعاشته من اندلاع موجة من العداء بين الدول العربية، مما زاد الجماهير الفلسطينية اقتناعا بضرورة الإمساك بزمام قضيتهم. ثم جاء انتصار الثورة الجزائرية عام 1962، ليعزز هذا التوجه الفلسطيني بانتهاج طريق الكفاح الفلسطيني المسلح لانتزاع حرية الشعب الفلسطيني واستقلاله الوطني. وترافق ذلك مع تبني قيادة الجمهورية العربية المتحدة بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، فكرة إقامة إطار تنظيمي فلسطيني لتعبئة قوى الشعب الفلسطيني وإعداده للمعركة، والمبادرة بطرح هذا الموقف على مجلس الجامعة العربية أواسط العام 1959.

في دورة مجلس الجامعة العربية الواحدة والثلاثين المنعقدة في 9/3/1959 دفع مندوب "الجمهورية العربة المتحدة" لاتخاذ قرار أولي نص على "إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعبا موحدا لا مجرد لاجئين، يُسمع العالم صوته في المجال القومي وعلى الصعيد الدولي بواسطة ممثلين يختارهم." هذا القرار الذي جرى ترحيله من دورة إلى أخرى خلال ما يزيد على ثلاث سنوات، أمام معارضة النظام الأردني المتواصلة والدؤوبة بدعم من المملكة العربية السعودية، لاتخاذ أي إجراء تنفيذي لوضع هذا القرار موضع التنفيذ، حتى تم أخيرا في الدورة الأربعين لمجلس الجامعة العربية المنعقدة في أيلول 1963، تكليف أحمد الشقيري الذي حل محل أحمد حلمي ممثلا لفلسطين في الجامعة العربية بعد أن توفي الأخير في وقت سابق، "بزيارة الدول العربية لبحث القضية الفلسطينية من جميع جوانبها والوسائل التي تؤدي إلى دفعها إلى ميدان الحركة والنشاط." وتبع ذلك قرار مؤتمر القمة العربي الأول المنعقد في الاسكندرية في شهر يناير عام 1964 على استمرار الشقيري بالمهمة نفسها في اتصاله بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني لتمكينه من القيام بدوره في تقرير مصيره وتحرير وطنه.

لقد تفاعلت مبكرا مع هذه التوجهات الفكرية والسياسية التي أخذت تشق طريقها بين العديد من النخب السياسية الفلسطينية، ووجدت فيها ما يتلاءم مع توجهاتي الفكرية والسياسية، حيث ان انتمائي المبكر لحركة القومين العرب يعود لتركيزها على القضية الفلسطينية، وكنت من ضمن الكوادر التي كانت تضغط على قيادة حركة القوميين العرب لبلورة توجهاتها الفكرية والسياسية إزاء القضية الفلسطينية، بتشكيل إطار تنظيمي مستقل للعناصر الفلسطينية في حركة القوميين العرب، تحت مسمى "إقليم فلسطين" وببرنامج نضالي يستهدف بلوة الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة وإعادة إنهاضها، وهو ما تحقق عمليا أواسط العام 1964.

ويمكن في هذه الفترة تمييز ثلاثة تنظيمات رئيسية لعبت دورا أساسيا في بلورة هذه الفكرة، على الرغم من وجود بعض التباينات في توجهاتها وبرامجها حول كيفية تجسيد هذه الفكرة وما تعنيه بفلسطنة النضال الوطني الفلسطيني، وعلاقته بالجهد العربي القومي في المعركة من أجل التحرير.

مجلة "فلسطيننا" التي صدرت في بيروت أواخر العام 1959 كانت الأوضح تعبيرا عن الكيانية الفلسطينية المستقلة، فيما طرحته من توجهات وأفكار، وما نشرته من مقالات، بعضها كان بتوقيع "فتح" أو "ف ت ح". ليتضح لاحقا أن حركة جديدة بتوجهات وأفكار جديدة تقف وراء هذه المجلة وتعبر عن وجهة نظرها، هي حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، والتي بادرت قبل غيرها بتجسيد ما عبرت عنه من أفكار وتوجهات عمليا، بالإعلان عن أولى عملياتها المسلحة داخل الأرض الفلسطينية المحتلة في الأول من يناير عام 1965، معلنة بذلك عن بدء مرحلة نوعية جديدة في النضال الوطني الفلسطيني، أساسها ومرتكزها الكفاح الفلسطيني المسلح طريقا للتحرير.

بالإضافة إلى هذه المحاولة الأولى ذات المنشأ الفلسطيني، انبثقت محاولات أخرى ذا منشأ عربي قومي عن أحزاب قومية عربية "حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي،" حيث أخذت هذه الأحزاب بفعل الإرهاصات التي ولدها الانفصال وانتصار ثورة الجزائر، تعيد النظر في بنية التواجد الفلسطيني داخلها باتجاه فرز العناصر الفلسطينية وإعادة تشكيلها في تنظيم إقليمي فلسطيني منفصل عن تنظيماتها الإقليمية الأخرى، وأدخلت تعديلات على برامجها حول الدور المستقل للشعب الفلسطيني في النضال من أجل قضيته الوطنية، إلا أنها ظلت ترى هذا الدور في إطار الجهد القومي العربي. ولم تحسم المسألة بالاتجاه الذي حسمته حركة فتح إلا بعد حرب حزيران.

حركة القوميين العرب، على الرغم من أن نشأتها بالأساس كانت بتأثير نكبة العام 1948، وأن أبرز قادتها المؤسسين كانوا فلسطينيين "جورج حبش ووديع حداد وأحمد اليماني" وتميزت عن غيرها من الأحزاب القومية العربية بالتأكيد على تحرير فلسطين كهدف أساسي لنضالها القومي، تأخرت نسبيا عن التوجه نحو "الفلسطنة." أواسط العام 1964 بادرت قيادتها القومية، بفعل ضغط العديد من كوادرها وعناصرها من الفلسطينيين المنتميين لها (وكنت أنا أحدهم) إلى فرز الفلسطينيين في صفوفها في مختلف الأقاليم العربية "باستثناء إقليم الأردن" وإعادة تشكيلهم في تنظيم فلسطيني مستقل تحت اسم "قيادة إقليم فلسطين الموسعة" بمسؤولية الدكتور وديع حداد، عضو أمانتها القومية، وبادرت إلى تشكيل خلايا فلسطينية مسلحة ومدربة، وتكليفها بمهمات استطلاعية داخل الأرض المحتلة، والقيام، أحيانا، بعمليات مسلحة، ولكن دون الإعلان عنها، حيث ظلت متمسكة برؤيتها القومية لمعركة تحرير فلسطين، وأن الشعب الفلسطيني له دور مبادر وإسنادي للجهد العربي القومي. ولم تحسم موقفها بالاتجاه الذي حسمته حركة فتح إلا بعد حرب حزيران.

حزب البعث العربي الاشتراكي، اتخذ الموقف نفسه، تقريبا، الذي أخذته حركة القوميين العرب، حيث أقر المؤتمر السادس للقيادة القومية للحزب المنعقد في شهر أكتوبر1963 قرارا أكد فيه على "ضرورة اعتماد عرب فلسطين كأداة أولى في تحرير فلسطين" وأيد فكرة إنشاء جبهة تحرير فلسطينية، ولكن دون المبادرة إلى القيام بأي نشاط عسكري فلسطيني مستقل. وحسم الأمر بعد حرب حزيران بتشكيل طلائع حرب التحرير الشعبية "قوات الصاعقة."

في الوقت الذي كانت تجري فيه هذه التحولات والتوجهات وتتفاعل حول دور الشعب الفلسطيني والكيانية الفلسطينية، واصل السيد أحمد الشقيري، مساعيه واتصالاته لإنجاز ما كلفه به من مؤتمر القمة العربي، حيث تمكن، على الرغم مما واجهه من صعاب وعراقيل، من بعض الأنظمة العربية، وبخاصة النظام الأردني، من عقد مؤتمر وطني فلسطيني بحضور 397 عضوا في القدس في 28/5/1964، والذي أقر اعتبار نفسه المجلس الوطني الأول للشعب الفلسطيني، وأعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها المعبر عن آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة، وصادق على الميثاق القومي الفلسطيني والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشكل لجنة تنفيذية برئاسة أحمد الشقيري، ثم ما تلا ذلك بعد فترة قصيرة من إنشاء النواة الأولى لجيش التحرير الفلسطيني بإنشاء ثلاثة ألوية: لواء القادسية ويتمركز في العراق، ولواء حطين في سورية، ولواء عين جالوت في مصر، وكذلك إنشاء الأجهزة العديدة من أجل تنفيذ خطط عملها وتعميق التوجه الكياني الفلسطيني المستقل، والمبادرة إلى تشكيل اتحادات نقابية وشعبية فلسطينية، مثل الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، والاتحاد العام للعمال الفلسطينيين، والاتحاد العام للطلاب الفلسطينيين وغيرها. وبعض هذه الاتحادات كان قد تشكل قبل قيام منظمة التحرير.

لقد شكل قيام منظمة التحرير الفلسطينية خطوة هامة وأساسية نحو انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية وبناء الكيان الوطني الفلسطيني المستقل، على الرغم من أن قيامها قوبل بتحفظ من العديد من التشكيلات التنظيمية الفلسطينية التي كانت قائمة آنذاك، والتي شاركت بممثلين عنها في المجلس الوطني، كأفراد وليس كتنظيمات. فقد أبدت هذه التنظيمات العديد من الملاحظات بشأن المنظمة، بالتساؤل حول مدى ثوريتها، ومدى استقلاليتها بحكم نشأتها المرتبطة بالنظام العربي الرسمي.

لقد شهدت الفترة التي أعقبت قيام م.ت.ف وحتى اندلاع حرب حزيران، الكثير من الحوارات والجدل بين مختلف التنظيمات الفلسطينية، حول أمور عدة، سواء حول المنظمة وفعاليتها الممكنة والعلاقة معها، أو حول استراتيجية العمل الفدائي المسلح في الواقع العربي الحالي.

ويمكن إجمال عناوين هذه الحوارات، التي كانت تدور في معظمها على ملحق جريدة "المحرر" اللبنانية الأسبوعي "فلسطين" بإشراف الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي كان على صلة بقيادة حركة القوميين العرب، وبشكل خاص كلا من الدكتور جورج حبش، والدكتور وديع حداد، الذي كان يتولى مسئولية الإشراف على تشكيل خلايا مسلحة لحركة القوميين العرب.

1-      حول ثورية المنظمة وبنيتها التنظيمية، حيث شكك البعض بثورية المنظمة بحكم أن التكوين الطبقي ذا المنشأ البرجوازي يغلب على هياكلها وقيادتها. كما اعترض البعض أيضا، وبخاصة حركة القوميين العرب، على الصيغة التنظيمية الفضفاضة للمنظمة كما أعلنها الشقيري باعتبار أن كل فلسطيني حيثما تواجد هو عضو فيها، وطالبت هذه القوى المعترضة باعتماد صيغة تنظيمية أكثر تحديدا، بحيث تقتصر عضويتها على العاملين والناشطين فيها عبر تكوينات وهياكل تنظيمية أقرب ما تكون إلى الصيغة الحزبية، وذلك لضمان ثوريتها وفعاليتها النضالية.

2-      حول تفرد الشقيري في إدارة عمل المنظمة، واستجابته بين حين وآخر لتدخلات بعض الأنظمة العربية في بعض نشاطاتها وتوجهاتها.

3-      تردد قيادة المنظمة وتحديدا رئيسها أحمد الشقيري، في إبداء أي دعم للعمليات الفدائية المسلحة، أو نقد أو إبداء الاعتراض على ملاحقة بعض الأنظمة العربية للفدائيين الفلسطينيين الذين يقومون بنشاطات مسلحة واعتقالهم، انسجاما مع موقف الدول العربية التي كانت تتحفظ على القيام بهذه العمليات، وتشكك بها، وتعتبرها توريطا لها، وتحفيزا لإسرائيل لشن عدوان عليها.

4-      حول طبيعة العلاقة الممكنة بين المنظمة بتشكيلها ووضعها الحالي وبين تنظيمات المقاومة الفلسطينية المسلحة. حيث كان لحركة فتح في البداية موقف متردد من العمل ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنها حسمت موقفها بعد حرب حزيران باتجاه العمل ضمن المنظمة.

5-      تباين وجهات النظر إزاء الاستراتيجية الأكثر واقعية للعمل الفدائي المسلح في تلك الفترة. المبادرة للقيام بعمليات مسلحة عابرة لخطوط الهدنة العربية مع إسرائيل، كما كانت تطالب حركة فتح، أو الاقتصار على عمليات الإعداد والتعبئة حرصا على عدم توريط النظام العربي بحرب مبكرة مع إسرائيل.

استمرت هذه الحوارات فاعلة وخصبة حتى اندلاع حرب حزيران عام 1967، حيث اتفقت جميع حركات وفصائل العمل الوطني الفلسطيني، المسلحة وغير المسلحة، على اعتماد الكفاح المسلح الفلسطيني طريقا يكاد يكون وحيدا لتحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي وعودة اللاجئين إلى ديارهم التي هُجٍّروا منها. أما العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية فقد تم حسمها نهائيا باشتراك الحركات الفدائية رسميا فيها، وإعادة تشكيل مجلسها الوطني الخامس المنعقد في بداية شهر شباط 1969 بعضوية فاعلة لهذه الحركات، وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة وتسمية الأخ ياسر عرفات، رئيس حركة فتح، رئيسا لها.

(5)

حسم شرعية ووحدانية تمثيل الكل الفلسطيني

لقد شكل ائتلاف مختلف الحركات الفدائية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وتعديل الميثاق القومي للمنظمة وإعادة صياغته تحت اسم الميثاق الوطني الفلسطيني كتعبير عن الشخصية الوطنية الفلسطينية، مقدمات ضرورية وهامة لانتزاع حق المنظمة في شرعية ووحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني حيثما كان أو تواجد، ووقف اقتسام وتوزع التمثيل الفلسطيني بين الأنظمة العربية على مختلف اتجاهاتها، بحكم تواجد أجزاء من الشعب الفلسطيني على أراضيها، وبخاصة مع محاولات النظام الأردني المتجددة لاقتسام التمثيل الفلسطيني مع م.ت.ف، بحيث تتولى م.ت.ف تمثيل الفلسطينيين في قطاع غزة والشتات، وأن يتولى النظام الأردني تمثيل الفلسطينيين المقيمين على أراضي المملكة الأردنية الهاشمية بمن فيهم الفلسطينيون المقيمون فيما بات يعرف بالضفة الغربية "القسم الشرقي من فلسطين والذي احتلته إسرائيل في حرب حزيران عام 1967" ويحملون الجنسية الأردنية. وانطلاقا من هذا التوجه طرح الملك الأردني في آذار عام 1972 مشروع المملكة العربية المتحدة لإعادة وحدة الضفتين على أسس إلحاقيه جديدة شبه فدرالية، وأخذ يروج لمشروعه بين الأوساط الفلسطينية المعروفة بصلتها المسبقة مع النظام الأردني في الضفة الغربية وفي الأردن، كما نشط مساعيه الدبلوماسية للحصول على دعم عربي لمشروعه، الذي لاقى بعض القبول من الرئيس المصري أنور السادات.

منظمة التحرير الفلسطينية رفضت المشروع واعتبرته نسخة جديدة-قديمة لإعادة فرض سياسيات الإلحاق والوصاية والهيمنة على الشعب الفلسطيني، وتمسكت بحقها الشرعي والوحيد في تمثيل الفلسطينيين أينما كانوا وتواجدوا، وفي إقامة سلطة حكمها الوطنية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين سلما أو حربا، وتوجهت برؤيتها هذه إلى مؤتمر القمة العربي السادس المنعقد في الجزائر في أواخر شهر نوفمبر عام 1973،أ ي بعد أشهر قليلة من حرب تشرين عام 1973، والتي أعقبها بروز احتمالات قوية لتوجه الأنظمة العربية لعقد تسويات سلمية مع إسرائيل فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، وفقا لبرنامجها، "إزالة آثار عدوان عام 1967"، الذي أطلقته بعد حرب حزيران.

أقر مؤتمر القمة العربي السادس المنعقد في الجزائر أواخر عام 1973 حق الشعب الفلسطيني بإقامة سلطته الوطنية المستقلة بقيادة م.ت.ف باعتبارها الممثل الشرعي على أي ارض فلسطينية يتم تحريرها، دون ذكر الوحيد، لكن القرار ظل سريا، لأن الملك الأردني رفضه ورفض التوقيع عليه. وهو الأمر الذي تم تداركه في مؤتمر القمة العربي التالي السابع المنعقد في الرباط في أواخر (26_29) شهر تشرين الأول عام 1974، حيث أكد أن م.ت.ف هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، حيثما يتواجد، وحقها بهذه الصفة في إقامة سلطتها الوطنية المستقلة على أي ارض فلسطينية يتم تحريرها. وقد جاء القرار العربي هذا متوائما مع البرنامج السياسي المرحلي الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة المنعقدة في القاهرة في شهر حزيران عام 1974، والذي نص على إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين. وهو البرنامج الذي أثار الكثير من الخلافات والجدل بين مختلف الفصائل الفلسطينية في حينه، حيث رفضت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتنظيمات أخرى البرنامج، باعتباره مشروعا استسلاميا. وانسحبت الجبهة الشعبية من اللجنة التنفيذية للمنظمة وتزعمت كتلة الرفض تحت مسمى "جبهة الرفض الفلسطينية" بدعم من بعض الدول العربية.

بعد كل هذه التطورات انطلقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية متسلحة بالقرار العربي وبقرار المجلس الوطني الفلسطيني حول البرنامج السياسي المرحلي لتأكيد أحقية وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني على الصعيد الأممي، حيث أقر مؤتمر عدم الانحياز الرابع المنعقد في الجزائر في شهر أيلول 1973 منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، ومن ثم بطرق باب الأم المتحدة حيث اعترفت الجمعية العامة بدورتها التاسعة والعشرين بمنظمة التحرير الفلسطينية وقبلتها عضوا مراقبا فيها بأغلبية 105 أصوات في 22/11/ 1974، بعد أن استمعت إلى خطاب الأخ ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة بناء على دعوة الأمين العام للأم المتحدة لإلقاء خطاب أمامها باسم الشعب الفلسطيني، حيث أكد الأخ ياسر عرفات في خطابه على كامل حقوق الشعب الفلسطيني، أرضا وشعبا وكيانا مستقلا.

وباعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية وقبولها عضوا مراقبا فيها، وبقرار القمة العربية الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وبالبرنامج السياسي المرحلي الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني، يكون الشعب الفلسطيني قد اختتم مرحلة أساسية في نضاله التحرري من أجل الإقرار بحقوقه الوطنية المشروعة، كرس خلالها وحدته وقراره الوطني المستقل، وشرعية ووحدانية التمثيل ووحدة القضية، واستعد للانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة، لتجسيد كيانيته الجيوسياسية على أرض وطنه، حيث تداخل فيها النضال الديبلوماسي والسياسي مع الكفاح المسلح. وهي المرحلة الأصعب في نضال الشعب الفلسطيني، والتي لا تزال متواصلة.

اخر الأخبار