مسيرة العودة في المشهد الغربي: الرسالة والتأثير والرؤية -1

تابعنا على:   21:22 2019-03-29

د. أحمد يوسف

أمد/ الجزء الأول:

بعد مضي عام على مسيرة العودة الكبرى وفعاليات كسر الحصار في أسبوعها الواحد والخمسين على حدود قطاع غزة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبحسب تقرير مركز الميزان لحقوق الإنسان حول حجم الإصابات والخسائر البشرية، فإن قوات الاحتلال قتلت (273) فلسطينياً، وأصابت (15234) آخرين منذ انطلاق المسيرات السلمية في 30 مارس 2018. ولذا، فإن الحاجة غدت مُلحّة لإجراء مراجعة وربما مساءلة لحصيلة ما حققته محلياً وإقليماً ودولياً؛ لأن حجم التضحيات يستدعي الوقوف لقراءة النتائج والتمعن في حسابات الربح والخسارة، بهدف الاستدراك والخروج بجملة من التوصيات تُسهم في تصويب البوصلة، وضمان أن ما تمَّ تقديمه من أعداد الشهداء والجرحى قد آتى أُكله، وأن المسيرات قد أنجزت الهدف المنشود من انطلاقاتها الأسبوعية، وأن الموقف كان وما زال صائباً، وأن ما وقع من أخطاء في بعض المراحل بالإمكان تداركه في عام قادم، حيث يلزمنا أن نواصل العملية النضالية اللاعنفية، وملاحقة دولة الاحتلال المارقة لجرائمها التي ترتكبها بحق الإنسانية في قطاع غزة، وتدفيعها ثمن هذه الانتهاكات بتعظيم خسائرها في الداخل والخارج.

بلا شك أن هناك حرصاً وجهوداً تبذل لتقييم الأوضاع والاستفادة من الدروس ومخرجاتها في تصويب الحراك، بما يخدم الرسالة السياسية والإعلامية والأمنية والأهداف المرجوة منه. المهم هنا، هل تلقى هذه النصائح والتوصيات آذاناً صاغية لها، أم أن المعادلة تبقى قائمة "لا رأي لمن لا يُطاع!!".

 من جهتي، سأحاول تقديم رؤية تقييمية من خلال عملية التواصل مع عدد من الشخصيات الاعتبارية والإعلامية الوازنة في الساحتين الأوروبية والأمريكية واستطلاع وجهات نظرها في مدى تأثير هذه الحِركات الشعبية التي يقوم بها أبناء شعبنا في قطاع غزة على الراي العام الغربي، وفرص تفاعله معنا للضغط على الجهات الرسمية في أمريكا وأوروبا لتغيير سياسات التحالف والدعم المطلق والانحياز الأعمى لإسرائيل، في مسعى لكسب التعاطف والتأييد للحقوق الفلسطينية السليبة، والتي نجحت فيه - للأسف - ماكينة الدعاية الصهيونية (الهاسبرا) سياسياً وإعلامياً في تسويق خطاب المظلومية وصورة الضحية عن دولة الاحتلال، وأن الشعب اليهودي في إسرائيل يتعرض لتهديدات وجودية من جهات فلسطينية متطرفة كحركة حماس والجهاد الإسلامي التي تدعم ممارسة العنف والإرهاب بحق إسرائيل!!

وحتى تكون القراءة والتقييم لمشهد مسيرات العودة في الغرب تتسم بالدقة والصدقية، تواصلت مع جهات عربية وغربية تعيش في أمريكا وأوروبا وكندا واستراليا لإعطاء صورة عن درجة التأثير وحجم التغطية لتلك المسيرات في وسائل الإعلام عندهم من ناحية، ومدى التفاعل والقدرة داخل مجموعات النخب "الانتلجنسيا" والمنظمات الإنسانية في الغرب لتظهير مواقفها الرافضة لسياسات إسرائيل القمعية تجاه تلك المسيرات اللاعنفية؛ باعتبارها حقاً مشروعاً لشعب تحت الاحتلال والحصار، ويطالب بحقه في تقرير المصير.

الحقيقة كما رصدتها، من خلال تلك التقييمات والاتصالات، تشي بأن هناك تراجعاً ملحوظاً وتهميشاً متعمداً للتفاعل والتغطية لتلك المسيرات، والسبب وجود ضغوطات تُحركها اللوبيات اليهودية الصهيونية في الغرب، وربما هناك أيضاً أسباباً أخرى منطقية لها علاقة بفقدان تلك المسيرات لعنصر الإثارة والتشويق المطلوب في التغطيات الإعلامية، حيث تحولت هذه الحِراكات الشعبية إلى شكل من أشكال الروتين والرتابة، وهذا ما يصرف انتباه الجمهور - عادة - عن المتابعة والتفاعل، وهنا تكون لحظة توقف التغطية وغياب التفاعل مع الحدث، والانصراف إلى ساحات أخرى، وهذا هو الأسلوب المعتمد - عموماً - في منهجيات الإعلام الغربي.

لن أقتصر في التقييم وتقديم الرأي حول هذه المسائلة على ما أسلفت، بل هناك أيضاً تجربتي الطويلة في الدراسة والعمل لأكثر من عشرين سنة في أمريكا، واختصاصي الأكاديمي في دراسة وتدريس مادة الإعلام الدولي، وخبرتي كإعلامي له معرفة باهتمامات المجتمعات الغربية، وقد أجريت الكثير من المقابلات الإعلامية مع جهات سياسية، ونشرت العديد من المقالات في الصحافة الغربية، وخاصة الأمريكية والبريطانية.

ماذا يقولون في الغرب عن مسيرة العودة وكسر الحصار؟

سأتناول هنا وجهتي النظر لأطراف فلسطينية وعربية تعيش في الغرب، وأخرى لشخصيات غربية سياسية وأكاديمية معروفة بتعاطفها مع الفلسطينيين، وحقهم في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، حتى تتكامل مشاهد الرؤية والموقف بالرأي السديد حول ما يتوجب عمله لتصويب بوصلة الحِراك الشعبي، وتحقيق الهدف المرجو من استمراريته لشعبنا وقضيتنا الفلسطينية.

أولاً) وجهات نظر شخصيات فلسطينية وعربية تقيم في الغرب

- د. أسامة أبو إرشيد؛ المفكر والمحلل السياسي والناشط الأمريكي من أصول فلسطينية، أشار قائلاً: "للأسف؛ تراجعت أهمية المسيرات في التغطية الغربية، وأظن أن هذا شيءٌ مفهوم، فالخبر لم يعد فيه جديد، وبالتالي يسقط من الأولويات. في البداية، كان ثمة تعاطف واضح في تغطية وسائل الإعلام الرئيسة، ولكنه بدأ يخبو مع مرور الوقت، خصوصاً مع بعض التصريحات غير الموفقة من بعض كوادر وقادة حماس عن مشاركة عناصر من جناحهم العسكري فيها... ثم إن بقاء المظاهرات دون أفق زمني واضح ودون ارتباطه بهدف سياسي معقول أفقدها كثيراً من زخمها". وأضاف: "شخصياً، أظن أن هذه المسيرات استنفذت دورها منذ أشهر طويلة، وهي تتحول إلى استنزاف على فلسطينيي غزة دون مقابل معقول، ودون تعاطف دولي مستمر. فالخبر اليومي أو الأسبوعي لفترة طويلة يصبح روتينياً".

- د. رمزي بارود؛ الإعلامي الأمريكي من أصول فلسطينية، أشار بالقول: "على الرغم من الجهود الإسرائيلية لتشويه مسيرات العودة، واتهامها بأنها منابر سياسية تتلاعب بها حماس للضغط على إسرائيل، فهذا ليس هو الخط الرئيس للتغطية الإعلامية الغربية أو التصور للمسيرة". وأضاف: إجمالاً، يتم وصف مسيرات العودة بعدة طرق، تتفاوت بحسب توجهات الصحف والقنوات التلفزيونية ودرجة انحيازها لإسرائيل، فهناك من يصفها بأنها مناوشات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وآخر يعتبرها بـأنها حالة من العنف الفلسطيني، وهناك من ينظر إليها كمقاومة فلسطينية سلمية.

  إن التحدي الحقيقي أمام الفلسطينيين اليوم يكمن في كيفية تقديم الحشود على سياج غزة كأكبر عمل للمقاومة الشعبية والجماعية السلمية في العالم، حيث إن إسرائيل تستخدم طرقاً مختلفة لإحباط الجهد الفلسطيني في القيام بهذا العمل، من خلال التأكيد على حرق الحقول الإسرائيلية عن طريق الأطباق المشتعلة بالنار. (وكان هذا مدمراً بشكل خاص)، وكذلك عبر عرضٍ لمشاهد أطفال يتسلقون السياج، وآخرين يقومون بإشعال الكاوتشوك، إضافة إلى إطلاق الصواريخ. وعقَّب بالقول: للأسف؛ إن الإعلام الغربي والمتحيز على نحو تقليدي لدولة الاحتلال، نادراً ما يتحدى الرواية الإسرائيلية حول هذه القضايا.

-  الأستاذ أحمد أبو ارتيمة؛ ابن غزة وأحد نشطاء مسيرة العودة، والمقيم حالياً في أمريكا، فتحدث قائلاً: "باعتقادي أن التغطية في وسائل الإعلام الغربية لم ترق بعد لتشكل حالة ضغط تؤثر أو توصل صوت غزة وصوت الفلسطينيين جيداً إلى صانعي القرار ومؤسسات صنع القرار. لذلك، أعتقد أننا نحن الفلسطينيين بحاجة الى المزيد من الجهود كي تصل أصواتنا إلى العالم". وأوضح بالقول: "إن هناك حالة خيِّرة داخل المجتمع الأمريكي؛ بمعنى أنهم يتعاطفون مع القصص الإنسانية حين تصلهم الصورة واضحة، وهذا ينبغي أن يدفعنا إلى المزيد من العمل والجهد، يعني صوتنا غير مسموع. أنا بشكل عفوي أو عشوائي سالت الكثيرين من الطلبة والشباب: هل سمعتم من قبل عن غزة؟، فكان الجواب بالسلب؛ أي أنهم لم يسمعوا عن غزة من قبل!! طبعاً؛ هذا يحتم علينا مسؤوليات إضافية، حيث يتوجب علينا أن نبدع من الوسائل بما يُمكننا من إيصال صوت غزة والحكومة الفلسطينية وحق العودة إلى الجمهور".

وأضاف أبو ارتيمة: "اعتقد نحن بحاجة إلى لغة إنسانية حقوقية تركز على القيم الإنسانية المشتركة والمفهومة، فالأميركيون وغيرهم ربما لا يفهمون مصطلحاتنا المحلية كثيراً، لكنهم سيكونون أكثر فهماً حين نقول لهم مثلاً: إن الإنسان الفلسطيني محبوس في قطاع غزة ولا يستطيع حرية الحركة، وأن المريض الفلسطيني يموت في القطاع ولا يستطيع أن يصل إلى العلاج، والطالب الفلسطيني يُحرم من فرصته في مواصلة دراساته العليا وفرص العمل بالخارج، وأن هناك أطفالاً يموتون في غزة بفعل الاحتلال الإسرائيلي، كما أن هناك لاجئين تمنعهم إسرائيل من العودة إلى وطنهم، فقط لأنهم من غير اليهود. المقصد هنا، أننا بحاجة إلى لغة إنسانية حقوقية واضحة".

وأشار الأستاذ أبو ارتيمة: "إن هناك أيضاً فرصة تتمثل في وجود كبير للجالية الفلسطينية في أمريكا، وهؤلاء يمكننا أن ننسج معهم العلاقات وتعزيز سبل التواصل بيننا، من أجل أن يقوموا بدور فاعل ودور إعلامي ودور تشبيكي مع دوائر صنع القرار والمؤسسات الإعلامية والسياسية، بهدف أن تتكامل جهودنا في الداخل؛ أي الميدان، مع جهود هؤلاء الإعلامية في الساحات الغربية، وتشكيل حالة يمكن أن تمثل قلقاً حقيقياً لاستمرار جرائم الاحتلال ضدنا".

- الأستاذ زاهر البيراوي؛ الناشط والإعلامي الفلسطيني المقيم في بريطانيا، علق قائلاً: " لا شك أن مسيرات العودة حظيت بتغطية جيدة في الإعلام الغربي، ولكن التغطية - كما هو حال معظم الملفات والقضايا الفلسطينية - تراوحت بين الحيادية والتعاطف  من جهة، وبين تبني الرواية الإسرائيلية من جهة أخرى. نعم؛ كان وما زال هناك جهد من مؤيدي الحقوق الفلسطينية لإظهار المسيرات بأنها سلمية لا عنفية، وأنها خيار شعبي دافعه الظلم الناتج عن الحصار لأكثر من عقد من الزمان، وللمطالبة بحق أساسي ألا وهو حق العودة. وبالمقابل؛ هناك جهد أكبر من قبل ماكينة الإعلام ومنظمات العلاقات واللوبي الإسرائيلية، التي يدار جزء منها من وزارة الشؤون الاستراتيجية، حيث يجتهدون بشكل واضح لجعل صورة المسيرة كعمل عنفي يستهدف أمن إسرائيل ومواطنيها".

وأضاف: "للأسف؛ أظن أن المعركة قد رجَّحت الكفة في أغلب وسائل الإعلام الغربية، وخاصة الرسمية وشبه الرسمية، لصالح الرواية الإسرائيلية. أما الإعلام "الصديق"، فما زال يتناول الصورة الإيجابية ويدفع بها إلى عقول وقلوب الناس في المساحات التي له تأثير عليها. وقد كان للطريقة (المرتجلة) التي تمَّ فيها إدارة هذا المشروع والحدث الوطني الكبير من قبل الفصائل الفلسطينية أثر كبير على الكيفية التي تقدَّم بها التغطية، حيث أعطت لدولة الاحتلال ولجحافل المدافعين عنها بعض الأدوات والأسلحة الإعلامية المجانية لمواجهة المسيرة ومحاولة إفشالها وإفراغها من مضمونها الأساسي كحراك شعبي سلمي، وحرفها – مع الأسف - عن فكرتها الأصلية الرائعة، ووسمها بأنها إرهابية، وأنها أداة في يد حركة أو مجموعات إرهابية تحركها بالأمر التنظيمي".

- د. عبد القادر فارس؛ أديب وإعلامي فلسطيني مقيم في كندا، أوضح قائلاً: "بالنسبة لتغطية وسائل الاعلام فإنها تختلف. ففي وسائل الاعلام الكندية الرسمية وغير الرسمية الناطقة بالإنجليزية، فلا يوجد هناك اهتمام كبير لمتابعة مسيرات العودة، ويأتي ذكرها كخبر عادي، إلا إذا كان هناك قتلى وخسائر في الجانبين، وليس الجانب الفلسطيني فقط. أما الصحف العربية التي تصدر في كندا، فهي حسب توجهها؛ فمنها من يهتم بمتابعة المسيرات، ولكنها تذكرها كأخبار فقط أيضا دون تعمق وتحليل، وهناك اختلاف في التأييد أو المعارضة لاستمرارها، ولكن أغلبية الشارع الفلسطيني هنا مع وقفها؛ لأنها لم تحقق الأهداف التي انطلقت من أجلها رغم مرور حوالي عام".

- الأستاذ أنور الغربي؛ الأمين العام لمجلس جينيف للعلاقات الدولية والتنمية، أشار إلى أن التغطية في الصحافة السويسرية والأوروبية كانت مكثفة خلال الأسابيع الأولى، وكان الاهتمام يتزايد عند تزامنها مع أحداث أخرى، مثل نقل السفارة الأمريكية للقدس أو خلال تزامنها مع تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال شهر يونيو أو عندما كثر الحديث حول تقليص الدعم للأونروا أو عند سقوط ضحايا من الصحافيين والنساء والأطفال والمسعفين". وأضاف: "لقد أعطى التحرك المدني والسلمي قوة حجة كبيرة، خاصة وأن  الحِراك يشارك فيه مجمل مكونات الشعب الفلسطيني في غزة تحديداً، واعتقد أن التغطيات كانت في الغالب تتحدث عن غزة وتربطها بالحصار المضروب عليها وبالأزمة الانسانية والعقاب الجماعي والحد من حرية الحركة والاضرار بحياة الناس، ولم تفلح الروايات الإسرائيلية الساعية لربط المسيرات بفصيل محدد أو بوسمها بالعنف، وتضعف الرواية الإسرائيلية أمام الحقائق التي نقلتها وسائل إعلام مرموقة ومنظمات دولية معروفة، وما مطالبة مجلس حقوق الانسان في دورته الحالية بالتحقيق في ارتكاب جرائم حرب وابادة إلا دليل على الوقائع التي توصل لها المجتمع الدولي والإعلام الغربي جزء منه. لا شك أن هناك تزايداً للأصوات المطالبة بوقف الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين وإنهاء الاحتلال، الذي أصبح يمثل عبئاً ومعضلة كبيرة نراها مع تزايد قوة حملات المقاطعة". وأشار مؤكداً بأن هناك تراجعاً ملحوظاً في درجة الاهتمام خلال الأشهر الماضية مع تزايد الاهتمام بملفات أخرى في المنطقة.

وعليه؛ يمكننا القول: إن الغالبية ممن تمَّ استطلاع آرائهم في الغرب من ذوي الأصول العربية، قد أشاروا بتراجع التغطية ودرجة التأثير في الرأي العام الغربي، وهذا يضع فصائلنا الفلسطينية أمام التحدي الكبير والسؤال الأهم: ما هو المطلوب عمله لتعزيز الرواية الفلسطينية بما يتعلق بمسيرات العودة وكسر الحصار من ناحية، وتحريك الرأي العام الغربي للتعاطف والتضامن مع المظلومية الفلسطينية، وفضح جرائم إسرائيل بحق الإنسانية من ناحية أخرى؟ وهذا ما سنتناوله في الجزء الثاني من هذا المقال.

اخر الأخبار