ما وراء حل "الدولة الجديدة" في غزة

تابعنا على:   12:14 2019-05-10

أحمد فؤاد أنور

نشرت مواقع إخبارية عدة خرائط وتسجيلات مصوّرة معدَّلة بطريقة الغرافيك، تفيد بتوسيع قطاع غزة على حساب مساحة كبيرة من شمال شبه جزيرة سيناء ووسطها، في إطار ما يسمى "صفقة القرن" التي لم تعلن رسمياً بعد.

الفكرة سبق طرحُها غير مرة ورفضها الفلسطينيون ورفضتها مصر في خمسينات القرن الماضي. كما رفضها السادات بذكاء، حين طلب منطقة إيلات مقابل بقعة من سيناء، ما يحرم إسرائيل من منفذها على البحر الأحمر. وبالتالي، تم إجهاض الفكرة، التي تعود لتصدر مراراً وتكراراً بصيغة "مجموعة مستقلة من الباحثين"، على غرار خطة الجنرال جيورا إيلاند التي قدمها في العامين 2010 و2011 في أكثر من ورقة بحثية. لكن هذا لا يمنع من تحليل التحذير منها، وتبيان ما وراء إطلاق هكذا الأفكار في هذا التوقيت، خاصة أن حديثاً إسرائيلياً متكرراً يواكبها عن سيناء ككيان منفصل عن مصر.

بوصفه منسق المبادرة الجديدة/ القديمة المقترحة، نظَّم العقيد احتياط أمير أفيفي مؤتمراً في القدس أخيراً، شرح فيه ضرورة ضم يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وتوسعة غزة على حساب سيناء. وكشف الجدول الزمني المقترح للتنفيذ، الذي وفقاً لطاقم المبادرة المكون من إسرائيليين وأميركيين، لن يزيد على سنة؛ لأنه "بعد سنة ستتحول الضفة إلى حال غزة، ولن يجدي الجدار العازل في صد الهجمات المسلحة". وبناء على ذلك، سيطرح نقل مليوني فلسطيني من الضفة إلى "الدولة الجديدة". والأخطر، هو زعم أفيفي في المؤتمر ذاته أن المصريين "على استعداد لسماع الفكرة، لأن مصر تعاني مشاكل اقتصادية وأمنية، ونحن نتحدث معهم".

لم يبين أفيفي مَن هم المصريون الذين يتحدث معهم؟ وهل هم على غرار الناشط الحقوقي الفلسطيني باسم عيد، الذي حضر المؤتمر ذاته مؤيداً لضم الضفة إلى إسرائيل، ورافضاً لأصوات المقاطعة الاقتصادية الأوروبية لإسرائيل ولرعاية وكالة غوث اللاجئين! لكن، يجدر بنا أن نضع موقف باسم عيد أمام موقف يعبر عنه الصحافي الفلسطيني المقيم في غزة أشرف أبو خصيوان، الذي قال لـ "الحياة" إن "هذه المبادرة الجديدة وغيرها، بالونات اختبار لا يقبلها لا فلسطيني ولا عربي واحد له ثقل وسمعة". وزاد: "سيناء أرض مصرية وليست أرض فلسطينية محتلة سيتم تعويضها أو تبادل أراضي من خلالها". وأشار إلى أن "هدف هذا المخطط هو ابتلاع الضفة الغربية فقط"، لافتاً إلى أنه "يتم الترويج للمبادرة في إطار سعي إسرائيل إلى ضم 60 في المئة من الضفة، بما يخدم مصالح إسرائيلية وأميركية وبما يقضي على حل الدولتين بعد ضم جغرافي وليس سكاني للمستوطنات الكبرى". يجدر بنا أن نشير هنا إلى أن موقف الإعلامي الفلسطيني يتماهى مع الموقف الرسمي الفلسطيني، المتمثل في رفض أية عروض لا تتضمن حل الدولتين وفقاً للقرارات الدولية.

وإذا عدنا إلى المبادرة، سنجد أن اللافت للنظر حضور أوريت ستروك (عضوة كنيست سابقة) اللقاء الترويجي الأخير لها، علماً أن ستروك أبدت رفضها الحديث عن غزة نظراً لأنها جزء من "أرض إسرائيل"، أي أنها تزايد حتى على أصحاب المبادرة، وترى أن المطلوب كذلك إخلاء سكان غزة إلى سيناء!

تزعم المبادرة بداية أنه طالما فشل حل الدولتين وكذلك حل الدولة الواحدة، فإن الوقت قد حان لتأسيس دولة جديدة على 10 في المئة من أرض شمال سيناء بعد ضمها إلى غزة. إلا أن إفلاس من دشَّن الفكرة، يتجسَّد في نقاط محددة منها: إخفاء طاقم الجنرالات المتقاعدين الذين يزعمون أنهم وراءها (الفكرة) لمصادر تمويلهم السخي. وكذلك اختيارهم أكثر بقعة يتمركز فيها سكان سيناء في مدن وبلدات: العريش، رفح، الشيخ زويد، الحسنة، نخل، القسيمة، أبو عجيلة، وبئر جفجافة وغيرها، لتصويرها على أنها بلا سكان، في حين أن التصوير الفضائي الذي ارتكزوا هم أنفسهم إليه ونشروه على موقعهم (استناداً إلى صور وكالة ناسا الفضائية في العام 2016) يوضح أن هناك حياة وتجمعات سكنية تضارع تلك التي في شرم الشيخ، وبالطبع تلك الموجودة في مدن فلسطينية داخل الخط الأخضر وخارجه. وبالطبع، تتجاوز كثافة السكان في صحراء النقب. فكيف سيتم نقل سكان وسط كثافات سكانية؟

وإذا كانت هذه الفكرة تقوم بمنطق القرصنة، على نقل ملايين السكان من مساكنهم وحقولهم مجاملة للاحتلال، وبمنطق اغتصاب حقوق وسيادة دولة وشعب آخر يتم تدمير حياته وتحويلها فجأة إلى جحيم، فإن الأجدر بالدراسة، ترحيل بضعة ملايين من اليهود إلى بلدانهم الأصلية التي هاجرت منهم عائلاتهم بالأمس القريب، ولا يزال لهم أقارب وثقافة مشتركة معها.

ومن الأسئلة التي تجاهلها مَن يقف وراء مبادرة توسيع غزة: كيف سيتعامل هذا الحل المقترح مع الإرهاب الذي يتمركز وسط بؤر سكانية في شمال سيناء، والذي يصر الجيش المصري على محاربته واقتلاعه بثمن باهظ، يتجلى في مواكب من الشهداء والمصابين الأبطال؟ وهل يدل طرح الخطة على أن أصحابها من الجنرالات الإسرائيليين، يدركون أن هؤلاء المرتزقة يتم التحكم فيهم من بعد من داخل إسرائيل، وأن هدفهم هو تحقيق نفس الهدف الإسرائيلي متمثلاً في تأسيس هذه الدولة الجديدة فقط؟! كيف سيتوقف الإرهاب في اللحظة التي يتم فيها الإعلان عن هذه الدولة؟ وكيف سينتقل السكان إلى مسرح عمليات لا يتورع من يرتكبونها عن استهداف المساجد والكنائس؟ إلا إذا كانت هناك ثقة في أن الإرهاب (موجه) وسيتوقف فقط بعد رفع السيادة المصرية ومنحها إلى آخرين.

بخبث، يعتزم طاقم الخبراء الإسرائيليين إطلاق سلسلة من المؤتمرات في شأن المبادرة بدءاً من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل في الولايات المتحدة. وهذا يشير إلى أن الهدف الرئيس هو الإدارة الأميركية والرأي العام الأميركي، وهذا يعني أيضاً أنهم يخططون على المدى البعيد، ولا يتعجلون أو يستهدفون فرقعة إعلامية قصيرة المدى، ويوجهون "صفقة القرن" في مسار محدد.

ربما يكون أحد أهداف تلك المبادرة الخفية، إرباك مصر بعد التعافي الاقتصادي وقرب الانتهاء من مشاريع قومية عملاقة منها "أنفاق التنمية" إلى سيناء، خصوصاً أن الرفض المصري يصرف الأنظار عن الضفة والقدس، ويربك في الأذهان صورة الخريطة التاريخية لفلسطين، كما أن الحديث هو عن حدود 1949 وليس حدود 1948 أو حدود 1967. نظراً لأن حدود الـ48 تصرف الأذهان عن خريطة التقسيم الأممية، ولأن حدود الـ67 تعيد إلى الأذهان فوراً القرار 242 وغيره من القرارات ذات الصلة بالضفة والقدس الشرقية وغزة. كما يعني ذلك صرف الأنظار عن القدس تماماً، لتكون الأولوية للحديث عن توسيع غزة بكل تعقيداته وتفاصيله ونقل السكان من الضفة.

ووفقاً لتصور كاتب هذه السطور، ربما يرمي لأمر في الواقع إلى دفع مصر نحو لسيناريو البديل، وهو الحديث عن "تبادل أراضٍ" بمنطق تقليل الخسائر. ووفقاً لكل الشواهد وحجم التضحيات، فإن من غير المقبول مناقشة هذا الأمر من الأساس. وخير دليل على ذلك، الغضبة الشعبية والبلبلة المتعلقة بتيران وصنافير، والتي حسمها البرلمان والقضاء في مصر بعد فترة من النقاش العام والجدل المرهق.

تهدف الخطة إلى صرف الأنظار عن مسؤولية الاحتلال عن جرائمه وحصاره، وعن ضرورة تلبيته قرارات الشرعية الدولية، كما أنها تحرر المجتمع الدولي من مسؤوليته الأخلاقية عن عدم تنفيذ قراراته. هذا إلى جانب السعي إلى جعل مصر تبدو وكأنها حجر العثرة والعائق أمام "حل سلمي يرضي جميع الأطراف". وإن كان في الواقع بمثابة حل يضارع من يقترح فرض السلام... "بقتل كل الفلسطينيين"!

اللافت للنظر في هذا السياق، أن إسرائيل، وبعض الخبراء العسكريين ممن يحظون بمكانة وتأثير فيها، يدعون إلى توسعة رقعة غزة، بما يتيح لفصائل المقاومة وعلى رأسها "حماس" والجهاد"، للمرة الأولى (وفقاً للخطة) أن يكون لها مطار وميناء جديدين، واقتراب أكثر من بئر سبع في النقب، ومدينة إيلات على خليج العقبة وبقية مدن جنوب إسرائيل التي سيسهل استهدافها بصواريخ فصائل المقاومة إن رغبت.

على رغم تأكيد الموفد الأميركي للسلام في الشرق الأوسط جيسون غرينبلات أخيراً أن سيناء ليست جزءاً من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفي ضوء هذا التصريح الواضح، يمكن القول أن المبادرة تعد بمثابة إعادة تغليف لمقترح قديم صاغته جريدة "يسرائيل هيوم" منذ بضعة أشهر، في مقال للعقيد احتياط رونين ايتسيك وهو أحد مؤسسي المبادرة، ومؤلف كتاب "رجل في دبابة" كتب في الجريدة المقرَّبة من نتانياهو يقول إن "المطلوب في مواجهة تزايد سقوط إسرائيليين بنيران من غزة، نزع سلاح القطاع أو احتلاله، وإقامة دولة فلسطينية بين غزة والعريش". وزعم أن "حماس" هي التي ستعترض على هذه الخطة غير التقليدية، ولذا فإن الحل هو تدميرها. هذا المقال تبعه بعد شهر، تقرير صحافي آخر في "يديعوت أحرونوت" أوضح فيه العميد احتياط أمير أفيفي صاحب الخدمة العسكرية الطويلة في غزة وعلى الحدود المصرية وأحد مؤسسي المبادرة، أنه يقوم بـ "جهود" مع عسكريين إسرائيليين وخبير استراتيجي أميركي للترويج للفكرة. ومن بين هذه الجهود، حضور مؤتمر في القدس مع منظمة "يسرائيل شيلي" (إسرائيل الخاصة بي) التي أسسها مطلع العام 2010 اليميني المتشدد نفتالي بينت ووزيرة العدل السابقة أييلت شاكيد، وهي منظمة ذات أنشطة مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الأرض، لدعم السياسات الاستيطانية الإسرائيلية. يذكر أن أفيفي متزوج من مرشحة إلى الكنيست عن قائمة حزب "اليمين الجديد" وهي متطرفة مناصرة للمستوطنين.

عن رؤيته للطرح الإسرائيلي يقول الكاتب السياسي المصري حازم الرفاعي لـ "الحياة" إن إسرائيل منذ لحظة إعلانها، تعاني عاهات عدة، وهذا ما يدفعها إلى التفكير في "الأشباح" وفي ما هو خارج العلم والمنطق لاستدعاء تخاريف الماضي. ومن هذه التخاريف مشاريع نقل السكان، كتمهيد لـ "صفقة القرن"، لافتاً إلى أنه "بعد مقترحات عدة وتمهيد لنقل الفلسطينيين إلى الأردن، فإن الجديد هو أن سيناء أصبحت بؤرة الحديث الحالية، وكذلك ربط شمال شرقي سيناء بغزة". وكشف عن طرح صيغة محفزات مالية لسكان الضفة الغربية للانتقال إلى هذه الدولة الجديدة، من دون الكشف عن هوية الدول المانحة والممولة لها. ويضيف الرفاعي: "أرى أن توقيت طرح المبادرة يرتبط بقرب ضم المستوطنات إلى إسرائيل بواسطة ممرات آمنة. وبذلك، تتحول الضفة إلى منطقة ذات كثافة سكانية من المستحيل للفلسطينيين العيش فيها حياة طبيعية، ليصبح حل الهجرة هو الوحيد المتاح، إضافة إلى إلغاء تعاطف الضمير الإنساني مع مشكلة سكان يعيشون في مناطق سيئة من خلال عرض توفير مال وسكن لهم. وهو منطق قاصر لجاريد كوشنير (صهر ترامب)، لا يفهمه سوى مُلاك شركات العقارات الذين لا يتطلعون سوى إلى الأرباح.

في السياق ذاته، يرى أمين "مركز آفاق للدراسات الاستراتيجية" ومساعد رئيس حزب "حماة الوطن" اللواء محمد الغباشي أن "المبادرة الإسرائيلية تعد من قبيل المغالطات التي تستهدف زعزعة الاستقرار في الداخل المصري".

ثمة أخبار تشيع بهدف التأثير في الرأي العام المصري في ما يتصل بـ "صفقة القرن"، التي يتضح أنه غير معترف بها من الدولة المصرية. إذ لا مجال للحديث عن تنازل عن جزء من السيادة أو تبادل لأرض، لأن الرئيس السيسي أعلن في لقاءات رسمية عدة أنه يجب حل القضية الفلسطينية بشكل عادل على أساس حل الدولتين (دولة إسرائيل ودولة فلسطينية على حدود 67 عاصمتها القدس الشريف). هذا الموقف الرسمي، يؤكد أن لا مجال لفتح الملف. أما الموقف الشعبي والحزبي، فيرفض بدوره هذه الإشاعات الخبيثة المثيرة للبلبلة والتي تهدد بخلق فتن بين القيادة السياسية والشعب، ونشر أجواء من عدم الثقة، في وقت تسجل مصر انتصارات عدة في تطهير الداخل وجبهة شمال سيناء من الإرهاب.

عن الحياة اللندنية

كلمات دلالية

اخر الأخبار