الدولة المدنية وأضاليل السلطة العميقة

تابعنا على:   22:11 2019-06-11

ماجد الشّيخ

ماجد الشّيخ

لا يمكن اختزال الحراك الشعبي والهبات الجماهيرية والانتفاضات الشعبية، أو أي شكل من أشكال التمرد على سلطة النظام الاستبدادي، كون أي واحدة منها أو كلها بمثابة صراع من أجل الاستيلاء على السلطة، مع أن أيا من هذه الأشكال الكفاحية، يمكن أن تنجح بالانقلاب على السلطة أو الإطاحة برأسها الأول. كما حصل أخيرا في الجزائر وفي السودان، ومن قبل في بدايات ثورات الربيع العربي بدءا من تونس مرورا بمصر ومن ثم بليبيا واليمن، مع الفارق بين محطة وأخرى؛ رغم ذلك تبقى الثورة الشعبية أشمل في منطلقاتها وسيرورة مآلاتها.

الثورة وأهداف الحرية والتغيير، أوسع وأشمل من تلك الرؤى ضيقة الأفق والحدود، التي يقف عندها "أصحاب المغانم" ورواد الشعارات وانتهازيو اللحظة، من نخب عسكرية وأمنية ورواد التقية الدينية السلطوية، ومن يدعمهم من أصحاب المصالح والمنافع من قوى النفوذ والهيمنة الإقليمية والدولية، الساعون إلى اقتناص الفرص السانحة وركوب الموجة، وصولا إلى ما ابتغت وتبتغي قوى الثورة المضادة، ومشايعو الأنظمة الاستبدادية، وبيروقراطيات الرأسماليات الغربية؛ في سعيهم الدؤوب للحفاظ على مصالح جيوإستراتيجية هامة، يقف في مقدمتها أمن إسرائيل والنظام الإقليمي، وأمن الثروات الطبيعية، وفي مقدمتها النفط والغاز وطرق التجارة الدولية، وأخيرا أمن النخب والأنظمة الاستبدادية التابعة.

لذلك أمكن القول أن مسيرة الثورة وسيرورتها، مشروطة بتواصل عملية التغيير، والسعي نحو إحداث أوسع تحولات تاريخية ممكنة، في مجتمعات وقفت في تطورها عند حد الصفر من الجمود والثبات، ووقفت عند مؤثرات تخلف العقل والفكر السياسي، واقتعادهما قارعة العطالة والتهميش والموات، وتحريم وتجريم استخدام العقل واستبداله بمسائل نقلية، احتكمت وتحتكم بدورها إلى "عقل نقلي" استنسخ ما قبله، وما قبل قبله، وصولا إلى نوع من الجمود المزمن؛ وها نحن هنا نقتعد قارعة انتظار "غودوية" على أمل تحقيق إصلاحات شاملة؛ دينية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، انفكاكا من أسر التقليد والتقاليد المزمنة، والأحكام المسبقة والسلطات الجائرة، وذلك من أجل الانتقال خطوة نحو تجاوز كل معوقات التقدم والتنوير والحداثة، في إطار صراع القوى المحتدم، القائم اليوم في مجتمعاتنا، حيث أن معوقات التقدم هي غاية قوى في المجتمع، كما هي غاية قوى الهيمنة الإقليمية والدولية، الساعية لوقف سيرورات التغيير الهادفة لإسقاط أنظمة الطغيان الاستبدادية ورؤوسها، واقتلاع قواعد سلطتها العميقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وهنا أمكن ملاحظة الاعتراضات والتدخلات الأميركية والأوروبية الغربية والشرقية، وكذلك الإسرائيلية، في محاولة توجيه حراكات المجتمعات وهبّاتها الجماهيرية، وتحت حجة "دمقرطتها"، جرت وتجري محاولات إفقادها براءتها ورؤاها الخاصة، بما يخدم المصالح التكتيكية والإستراتيجية الخاصة بقوى الرأسمال الدولي، على حساب مصالح المجتمعات الوطنية التي تسعى قوى الحداثة والمعاصرة لبنائها وفق مصالحها وتطلعاتها وأمانيها في التقدم؛ وبموجب رؤيتها هي، لا وفق مصالح استتباع خاصة بهذا أو لهذا الطرف أو ذاك.

لقد شكلت معوقات التقدم، واحدة من أهداف يشترك في التصدي لها قوى أساس في الدواخل الوطنية، يقف في مقدمتها نخب المؤسسة العسكرية العليا وقوى دينية وغير دينية، تستمد ديمومة مصالحها من حفاظها على الستاتيك الأيديولوجي بتزييفاته المتعددة، ومن ثوابت سلطوية مهيمنة سياسية ومجتمعية أهلوية ما قبل مدنية؛ وجدت وتجد متسعا من أدلوجات ثقافية وسياسية واقتصادية لإقامة تحالفات مع قوى في الخارج، كل ما يهمها في سياق العلاقة ببلدان المحيط العالمثالثي هو الحفاظ على تبعية سياسية واقتصادية شاملة، تعيد انتظام المجتمعات الوطنية على وقع "مركز قائد" ومحيط تابع؛ على الرغم من أزمة مالية عالمية غير مسبوقة، لا يتوقع لها أن تنتهي في ظل استمرار وتواصل اختلال سلم أهلي داخل المجتمعات الوطنية، أو في ظل سلم إقليمي أو دولي مضطرب، في غياب نواظم في العلاقات الدولية؛ افتقدت هيمنة قطب أحادي، في ذات الوقت الذي لم تتبلور بعد أي مساحة من الهيمنة والتأثير الفاعل لقوى وأقطاب تعددية، يؤمل أن ترث هيمنة ونفوذ الدولة القطبية الأحادية التي مثلتها الولايات المتحدة.

إن غاية الثورة ومآلاتها الأخيرة، كما مهمة التغيير؛ هي مهمة تاريخية، تتسم بإجراء تحويلات وتحولات شاملة، تتلخص في مهمة بناء مجتمع مدني ودولة مدنية تعددية وديمقراطية، تتمثل مصالح وتطلعات وأماني شعبها أولا، من دون أن تمتثل لمصالح وتطلعات قوى النفوذ والهيمنة وعلاقات الاستتباع والزبائنية التي تحكم مسارات علاقات المتبوع بالتابع، وكرة أخرى التابع ربما بتوابع أخرى، وهو شكل العلاقة التي درجت على إقامتها في بلادنا سلطويات استبدادية، وسلطات مركز أو مراكز إمبريالية، حاولت وتحاول الاستحواذ على معظم ثروات الشعوب المنهوبة، غير الخاضعة لرقابة ومحاسبة أي هيئة أو سلطة تشريعية نزيهة ومنتخبة، تخضع هي الأخرى لقانون أو لقوانين تنظم علاقاتها الداخلية والخارجية، من غير انحياز أو تحيّز لمركز سلطوي في الداخل، أو في الخارج.

وحدها الدولة المدنية التي يؤمل، بل ويجري العمل من أجل أن تقوم على أنقاض دولة العسكر ونخبها البوليسية العميقة، أو تلك صاحبة الأيديولوجيا الدينية أو السياسوية، استبدادية الطابع؛ دولة ديمقراطية مدنية هي ما ومن يمكنها أن تنسجم وأهداف ثورات الاستحقاق التاريخي لشعوبنا، في تخطيها حواجز ومعوقات النهوض الوطني للدولة، التي أريد لها أن تقوم قيامتها على أسس ديمقراطية تعددية، لا تحتكم لأي أيديولوجيا أو تصورات شعبوية، أو تعتمد أي نوع من التمذهب المرجعي، من حيث الادعاء بانتسابه لما يطلقون عليه "الألطاف الإلهية" المصلحية والمنفعية الخاصة بهم؛ كواحدة من عوامل التزييف الأيديولوجي ليس إلاّ.

الدولة المدنية التي تنتجها الإرادات البشرية المناضلة، من أجل استعادة هويتها وثقافتها وسياستها ووجودها الوطني الفاعل، في إطارات الضرورة التاريخية، هي ما تستحق الكفاح من أجلها، ومن أجل التخلص نهائيا من كل معوقات التقدم الإنساني ومجده المجتمعي – الدولتي المجسد في دولة؛ دولة مدنية حديثة عصرية ناهضة، تنير دروب التقدم لذاتها ولمن هم حولها، ولا تطفئ حتى شمعة من شموع التجارب والخبرات والفاعلية الإنسانية، باسم التزييف الأيديولوجي الرائج في عالم التديّن الطوائفي المتمذهب، كما في عالم السياسوية المتمذهبة هي الأخرى، وهي تروج لحطام وهشيم الأيديولوجيا السلطوية الأكثر استملاكا واستهلاكا لأدلوجات "المقدس الديني" و"المقدس السلطوي".

أخشى ما نخشاه اليوم في سياق الطور الثاني من ربيع الانتفاضات الشعبية، أن يعاود العسكر الانقلاب مرة أخرى بالمراوغة والخداع على الثورة وقوى الحرية والتغيير، ومنعها من تحقيق أهداف الثورة، حفاظا على مصالح جنرالات السلطة العميقة، وعبر إتاحة المجال لاستعادة بعض قوى النظام القديم وتمكينها من السلطة مجددا، أو إعادة تلميع بعض نخب قوى الثورة المضادة، والزج بها في معركة استعادة السلطة العميقة التي بقيت تحيط النظام القديم، طوال أكثر من عهد من عهود الاستبداد السلطوي الذي حكم في كل من الجزائر والسودان، وهما المثالان البارزان اليوم؛ المرشحان لتلقي سهام الخدع وأضاليل عسكرهما وقوى التدين السياسوي، في محاولتهما الحفاظ على ستاتيك الاستبداد في مواجهة حراكات الشعب وقوى الثورة والتغيير، وهي تسعى حثيثا للتحرر من قيم الطغيان، وكل القوى التي تساندها؛ بدءا من رأس وهرم السلطة، مرورا باحتياطيها العسكري، وانتهاءا بتلك الانتهازية والوصولية الدينية التي شكلت على الدوام الاحتياط الرجعي لسلطات الاستبداد العميقة والمباشرة، القابضة على مغانم السلطة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار