المشهد الليبي إلى أين؟

تابعنا على:   10:14 2019-07-21

محمد بدر الدين زايد

بعد أن كان المشهد الليبي يبدو شبه متجمد، صدرت أخيراً بيانات عن الجيش الوطني الليبي حول تراجع الميليشيات المسلحة، ويتوقع أن تؤكد الأيام القليلة المقبلة ذلك، أو ربما تستمر حال شبه الجمود لبعض الوقت. علماً أن الجمود السابق كان مضللاً بعض الشيء، فثمة تطورات ورسائل مهمة. صحيح أن المعارك تتصاعد وتهدأ بين حين وآخر جنوب العاصمة طرابلس، من دون أن يتمكن أي طرف سواء الجيش الليبي أم الميليشيات المتطرفة من حسم الأمر، لكن هذا لا يعني الجمود، وهو ما يستحق مراجعة المشهد كاملاً، على رغم عدم كفاية المعلومات العسكرية المتاحة كظاهرة لصيقة بهذه الأزمة منذ بدايتها.

على الصعيد العسكري، تمكنت الميليشيات والقوات المتحالفة معها من استعادة مدينة غريان من الجيش الليبي الذي يواصل الحشد ومحاولة استعادتها مجدداً، ويكثف عملياته الجوية للقضاء على سيطرة الميليشيات على عاصمة البلاد وخطفها. ويبدو جلياً أن صعوبة المعركة على الأقل بالنسبة إلى الجيش الليبي مرتبطة بكثافة المناطق السكانية. من ناحية أخرى، باتت كثافة التدخل العسكري التركي واضحة، ليس فقط في ما يتعلق بنقل أسلحة وذخائر، إنما يتردد أيضاً حديث حول تواجد مستشارين عسكريين بصحبة الميليشيات وقوات "حكومة الوفاق". كما أنه بات مؤكداً أيضاً ما كنا نبهنا إليه منذ أشهر، من أن تركيا ستبدأ تسريب عناصر من تنظيم "داعش" الإرهابي الذي تملك مفاتيحه الرئيسة، من منطقة تمركزه الأخيرة في إدلب السورية إلى ليبيا، للمشاركة في معركة الإسلام السياسي، أو الإرهاب المتستر بالدين الأخيرة في المنطقة.

وللتذكير ببعض المعلومات حول التورط التركي في الفترة الأخيرة، سبق في كانون الثاني (يناير) الماضي ثم في كانون الأول (ديسمبر) 2018، وأيضاً منذ أسابيع قليلة، أن تم الكشف عن سفن تركية محملة بالأسلحة والمتفجرات، إذ ضبطت في عملية واحدة 32 مليون طلقة خاصة بالبنادق والرشاشات، كما تم ضبط طائرات مسيرة تركية في أحد المواجهات. علماً أن مصادر الإعلام الغربية مثل "بي بي سي"، بما يحيط بها من ملابسات، لا تبدي أي تعاطف مع الجيش الوطني الليبي، لكنها تعرض الكثير من المعلومات حول تزايد التواجد والتورط التركي في ليبيا. ولتكتمل الصورة، تم الكشف عن أسلحة فرنسية لدى الجيش الليبي ادعت فرنسا بعدها أنها تحديداً عبارة عن صواريخ منتهية الصلاحية. ربما من خلاصة هذه المعلومات كافة، تولد انطباع الجمود العسكري الذي تحدثنا عنه سابقاً.

خلافاً لهذا الانطباع، فإن ما يصب في إيجابية المشهد العسكري بالنسبة إلى الجيش الليبي، هو السيطرة سريعاً على العمليات الإرهابية التي حاولت التنظيمات الإرهابية إلهاء الجيش بها في بنغازي والمنطقة الشرقية، ما أدى إلى تراجع تلك المخاطر، التي لا تستطيع دولة في العالم السيطرة عليها تماماً كما يعرف الجميع، خصوصاً بعد أن هللت لها جماعات طرابلس، وبعدما كاد الموفد الدولي غسان سلامة أن يثير حولها الكثير من الغبار. لكن التراجع السريع لهذه الحوادث، وتأكد استمرار السيطرة على المنطقة الشرقية، أغلق هذا الباب الذي حتى لو تكرر، لن يؤكد رؤية معارضي الشرعية الكارهين لسيطرة الدولة في ليبيا، بقدر ما يؤكد العلاقة العضوية بين هذه التنظيمات وبعضها البعض، فضلا عن أنه ليس صحيحاً أن أحداً في العالم في مأمن منها تماماً.

أما المشهد السياسي، فإن أهم ما فيه يتجلى في استضافة القاهرة لاجتماع لكتلة مهمة من أعضاء مجلس النواب الليبي، الذين عقدوا عدداً كبيراً من اللقاءات في العاصمة المصرية حول أهمية توحيد مؤسسات الدولة وتسريع العملية السياسية، والأهم التأكيد على وحدة البلاد. وكان لافتاً تصريح أحد قيادات مجلس الدولة الليبي الذي لم يدع إلى الاجتماع الذي اقتصر على نواب المجلس النيابي، إذ أبدى تطلعه إلى أن تتم دعوته من جانب مصر. أكد النواب الليبيون ثوابت كثيرة، ليس فقط ما يتعلق بوحدة البلاد وتماسك مجلسهم، إنما أيضاً محورية دور مجلس النواب في أي عملية سياسية جادة. وأظن أنه بعد تجربة "اتفاق الصخيرات"، التي سببت هذه الورطة السياسية في ليبيا، فإن أي جهد لا ينطلق من المجلس المنتخب، يجعل فرص النجاح محدودة.

كما أن عدم تجاوب مجلس الأمن مع محاولات عقد جلسة طارئة في شأن ليبيا، يشكل رسالة مهمة تعكس الشكوك الدولية المتزايدة في صحة موقف حكومة الوفاق الوطني التي كانت محل اعتراف دولي وفق "اتفاق الصخيرات" غير المأسوف عليه. علماً أن عدم تجاوب روسيا والصين والولايات المتحدة وفرنسا وقيامها بـ"العرقلة" وفقاً لوصف أنصار حكومة الوفاق وحلفائها، يعكس رسالة سياسية مهمة في توقيتها على رغم الركود العسكري النسبي. فصحيح أن رفض هذه الدول في بداية المعارك محاولة بريطانيا وبعض الأطراف الأوروبية عرقلة تقدم الجيش الليبي بقرار من مجلس الأمن، تم تفسيره على أنه بدايات تحول في الموقف الأميركي، دعماً لمعسكر الشرعية وعودة الدولة الليبية، إلا أن استمرار هذه الدول في موقفها هذا، على رغم بطء الحسم العسكري، يظل شاهداً مهماً على أن سير المعارك يكشف أيضاً التحالف بين جماعات توظيف الإسلام السياسي كافة، وعلى رأسها "داعش"، علماً أن اصطفافها كلها خلف حكومة السراج يثير الريبة والشكوك ويؤكد وجهة نظر مجلس النواب والجيش الليبي حول حقيقة هذه التوجهات.

وهنا، نلاحظ صدور بيان مشترك أميركي - روسي – فرنسي - بريطاني – مصري – إماراتي، تضمن الدعوة إلى وقف إطلاق النار وبدء حوار وعملية سياسية، على أنه لم تصدر ردود فعل حيال ذلك بعد، ما يؤشر إلى عدم جاهزية الأطراف لمثل هذه الخطوة.

وعلى المستوى العربي أيضاً، أعلن وزير خارجية حكومة الوفاق محمد الطاهر سيالة أن جامعة الدول العربية لم تتجاوب مع طلب حكومته عقد اجتماع استثنائي حول ليبيا، وأن هذا الطلب لم يحصل على تأييد سوى من قطر والجزائر وتونس. والأرجح أن موقفي تونس والجزائر بالتجاوب، إنما كان من دون حماسة لاعتبارات داخلية خاصة بالبلدين. وتظل الخلاصة واضحة وهي تآكل تأييد حكومة الوفاق برئاسة السراج، الذي لم يجد في جولاته الخارجية حماسة تذكر إلا من تركيا التي زارها في الخامس من الشهر الجاري لطلب المزيد من الدعم العسكري. ما أريد قوله هنا، هو أن المشهد هنا ليس ثابتاً كما قد يتبدى للوهلة الأولى، فمن الواضح أن مساحة الدعم الدولي للسراج تتآكل بشكل كبير، وأن المجتمع الدولي، الذي تجاوب مع مغامرة الموفد الدولي الأسبق برناردينو ليون، يكتشف بشكل مستمر خطأ هذه المغامرة، وعدم وجود معتدلين في صفوف جماعة الإسلام السياسي، وأن كارثة ليبيا ودول المتوسط ستكون أكبر لو زاد تمكن هؤلاء في ليبيا.

إذا صح خبر انسحاب ميليشيات مصراتة من طرابلس، الذي أعلنه الناطق باسم الجيش الليبي ولم يتأكد بعد، فسيشكل ذلك تطوراً مهماً بخصوص قرب الحسم في طرابلس، لكنه قد يحمل تعقيدات من نوع قبلي - جهوي، لا أتمناها مع وجود مصالح عائلية واقتصادية تركية في هذه المدينة، ما سيعني تأجيل موعد التفاؤل النهائي بسرعة الخلاص من كابوس التطرف، مع تزايد الانغماس التركي في الشأن الليبي. وهو تطور يجب النظر إليه في ضوء تزايد عزلة السياسة الخارجية التركية وأزماتها، والتي سبق لنا أن تناولناها هنا. وهي عزلة ستدفعها مع نكساتها الشديدة وما تعتبره مصالحها الحيوية وآخر أكبر معارك مشروعها السياسي، إلى التمسك والعناد الذي يتوافق مع شخصيتها وشخصية قائدها رجب طيب أردوغان، وإلى مزيد من التورط في ليبيا. ومع كل ذلك، فإن رهاني بالأساس على الشعب الليبي الذي لم يخرج بعد كل ما عنده.

عن الحياة اللندنية

كلمات دلالية

اخر الأخبار